قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Friday, October 2, 2009

زينات صدقي.. الساحرة الثرثارة

الدستور - 23 سبتمبر 2009


هناك دراسة مهمة ينبغي أن تُكتب عن شلالات الموهبة المتدفقة المتمثلة في جيل ممثلي الصف الثاني في السينما المصرية، وبخاصة الكوميديانات منهم. بينما غالبًا ما يكون أداء ممثلي الدور الأول مسطحًا لا يمتاز بشيء.. البطل والبطلة هناك علي الشاشة يحبان بعضهما، كائنان مرسومان بالفرشاة بلا حياة، وحتي الإضاءة الساقطة عليهما إضاءة تنعيم مفتعلة لمجرد إظهارهما أجمل، فإذا أردت أن تجد الموهبة الحقيقية الصادقة التي تحرق فعليك بالبحث عن الأدوار الثانية أو السنيدة.. ابحث في الصف الثاني عن عدلي كاسب ونظيم شعراوي وتوفيق الدقن و.. و.. فإذا أردت الكوميديا فابحث بعينيك عن عبدالفتاح القصري واستيفان روستي وزينات صدقي.. لهذا أعترف أنني كنت عندما أشاهد الأفلام المصرية القديمة أنتظر في نفاد صبر أن يفرغ البطل والبطلة من (شوية الحب بتوعهم) حتي أعود للاستمتاع مع الفنانين الحقيقيين

من أجمل الدراسات التي قدمت عن الفنانين الكوميديين في مصر ذلك الكتاب الجميل (المضحكون)، الذي كتبه عمنا الظريف (محمود السعدني)، والذي التقط صورة بانورامية شاملة لمعظم الفنانين الكوميديين في حقبة معينة، وكنت أتمني أن يتمدد هذا الكتاب مع الزمن - علي طريقة الموسوعة البريطانية - ليشمل التغيرات الكونية المذهلة التي جعلت من عادل إمام زعيمًا، وجعلت سمير غانم هو الأنجح بينما تواري جورج سيدهم الذي اعتبره (السعدني) أفضل الثلاثي وأعمقهم، ثم بزوغ شمس الظواهر الجديدة مثل (هنيدي) و(محمد سعد) و(أحمد حلمي). هذا الكتاب الجديد يستحق أن يُكتب، لكن لا يمكن ببساطة تقليد أو الاقتراب من أسلوب السعدني الدافئ الذي له رائحة ومذاق الفول بالزيت الحار والشيشة العجمي ودقة الملوخية

الغريب أن هذا الكتاب الشامل تجاهل مواهب نسائية لا يمكن نسيانها مثل (ماري منيب) و(وداد حمدي) و طبعًا (زينات صدقي).. من الصعب علي المرأة في رأيي أن تتخلي عن جمالها كي ترسم ابتسامة علي وجه المشاهد، وهذا يعني أن غريزة الفن لديها قوية جدًا لدرجة أنها قهرت غريزة الأنثي الطبيعية

زينات صدقي.. هذه العزيزة الساحرة الثرثارة والتي حفرت لنفسها موضعًا أبديًا في قلب كل أسرة مصرية، برغم سذاجة السيناريوهات التي قدمت لها، وبرغم أنها لم تقم تقريبًا سوي بدور واحد طيلة حياتها. إنها الموهبة الحارقة التي لم تنل حظًا من ثقافة أو دراسة، ولم تمنح فرصًا من أي نوع سواء كانت نصًا جيدًا أو دورًا كبيرًا، وبرغم هذا تتكلم موهبتها وتصرخ شأن الحسناء التي يلبسونها أسمالاً، وبرغم هذا يظل جمالها يصرخ.. نموذج آخر للمواهب الشيطانية التي تظهر في مصر كل يوم دون أن تتلقي رعاية أو يزعم أحد أنه بذر بذرتها وتعهدها بالسقيا

لقد لعبت دورها الذي فهمه منتجو السينما المصرية، عندما يأتون بالمضحكين لينثروهم علي الشاشة، ويطلبون من كل واحد أن (يعمل الشوية بتوعه). فيتشنج النابلسي ويلوح القصري بالساطور وتزغرد زينات صدقي.. الخ. لكنك برغم هذا تجد أن موهبتهم القوية تحررت من هذا القيد المهين، وأنهم تألقوا وعاشوا في الأذهان أكثر ممن كانوا يسندونهم. إنهم نقوش السجادة الصغيرة التي قد لا تلاحظ دورها إلا لو اختفت.. ومع الوقت اكتشف الناس أن النقوش الصغيرة أجمل من الرسم الأساسي

تتألق زينات صدقي بفهمها العميق للحارة والشخصية المصرية، كما أنها في رأيي تكون في أفضل حالاتها مع (عبد الفتاح القصري) حينما يتبادلان الحوار الذكي الذي كتبه أبو السعود الإبياري. وإن كانت هناك تفاصيل كثيرة أعتقد أنها ارتجالية.. لا أشك لحظة في أنها مبتكرة (كتاكيته بني) و(إنسان الغاب طويل الناب)، وأنها هي مبتكرة أزيائها العجيبة

من الغريب أنني كنت دائمًا أحتفظ بانطباع أنها جميلة أو علي الأقل يدل وجهها علي جمال ذابل لا شك فيه، برغم كل محاولات التشويه التي يرسمها الماكييرات علي وجهها، ثم قرأت ذات الكلمات في حوار أجرته معها الفنانة (إسعاد يونس)، فقد لاحظت أن ملامحها جميلة ولها عينان ساحرتان وقوام ممشوق، وهي الأسباب التي جعلت أسرتها تزوجها مبكرًا جدًا لأن جمالها سوف يجلب الذباب، وهذا يعني أنها لم تجرب مشاعر العانس قط بل تقمصتها. كما أنها ذات الأسباب التي جعلت بديعة مصابني تتمسك بها كراقصة لفترة طويلة. إنها لم تكن قبيحة قط في عالم الواقع

تاريخ حياتها معروف للجميع وإن كان متناقضًا بين مصادر عدة.. السكندرية المولودة عام 1912، والتي - بعد زواج فاشل قصير - عملت مطربة في بعض الفرق الفنية وفي كازينو بديعة مصابني، حتي رآها الريحاني العظيم وأعطاها أدوارًا في مسرحياته. طبعًا هناك خلاف في هذه القصة البسيطة، بين من يقول إن اسمها (زينات علي صدقي) ومن يقول إن والدها مات وهي في الثامنة، ومن يقول إن اسمها (زينب محمد سعد) وقد عاش والدها حتي أرغمها علي الزواج الفاشل.. علي كل حال من المؤكد أنها لم ترزق بأطفال. وفي ذات ليلة تخلفت إحدي الممثلات عن الظهور علي المسرح أثناء تقديم عرض (الدنيا جري فيها إيه )- كالعادة قيل إن هذه الممثلة (ماري منيب) وقيل إنها ممثلة أخري - فاضطر الريحاني إلي أن يسند دورها لزينات صدقي التي أدت الدور ببراعة منقطعة النظير أقنعت الريحاني وبديع خيري بأنهما وجدا وريدًا ثريًا

هكذا عرفتها السينما بدءًا بفيلم (بسلامته عاوز يتجوز ) لتقدم عددًا يتراوح حسب المصادر بين 142 إلي 400 فيلم سينمائي (دقة شديدة طبعًا!).. وكان آخر أفلامها هو (بنت اسمها محمود) في السبعيينيات، وهي المرة الوحيدة التي رآها فيها عشاقها بالألوان. يمكن اتخاذ زينات صدقي نموذجًا للطريقة التي تعامل بها مصر فنانيها العظام عندما لا تريدهم.. تجاهل تام ونسيان مطبق، لدرجة أنها انزوت في بيتها الصغير قرب شارع عماد الدين، وباعت أثاث بيتها لتعيش، وكالعادة تذكرها الجميع عندما تذكرها الرئيس أنور السادات في عيد الفن وكرمها وأعطاها رقم هاتفه الشخصي. بعد أيام من هذا المجد عادت للنسيان من جديد وافترسها المرض لكن كبرياءها منعها من طلب عون الرئيس حتي لقت ربها في مارس 1978.. هؤلاء الفنانون كانوا يعيشون يومهم ومن اليد إلي الفم مطمئنين إلي أن رزق الغد قادم لا محالة، وهو الدرس الذي وعاه فنانونا المعاصرون جيدًا: الغد قد يكون أسوأ وهذا البلد لا يرحم فنانًا انطفأ مجده

في قصيدة جميلة قديمة للشاعر (أمين فؤاد حداد) يقول عن تلك الحقبة: «والقصري ع الحصيرة.. وزينات صدقي تزغرط.. وترد الزغاريد.. عالم عبيط عبيط.. عبيط عبيط وماله؟.. ما هو ده جماله.. يغور الكون بحاله.. ويحيا إسماعيل ياسين».. بالفعل.. عالم عبيط.. لكن ما المشكلة؟.. لعل هذا هو سر جماله فعلاً