قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Tuesday, December 29, 2009

دماغى كده - فى السياسة - جمهور واغش



أقرأ الآن كتاب "دماغى كده" و هو كتاب رائع يحوى الكثير من مقالات د أحمد حول مواضيع مختلفة... و سوف نتكلم عنه فى سلسلة "قرأت مؤخرا" بعد أن أنهيه إن شاء الله

و لكن فكرت أن أعرض منه بعض المقالات التى لفتت انتباهى بشكل خاص... لثرائها أو روعتها أو أسلوبها  أو طرافتها أو لأنها لامست بعض الأوتار و تناولت بعض القضايا التى تشغلنى بشكل خاص... برغم قدمها

كفانى حديثا و لنستمتع سويا بكلام الرائع د أحمد خالد

===========================

يجلس الناقد السينمائي الجميل رءوف توفيق في قاعة السينما يحاول أن يفهم شيئًا من الفيلم، لكنه يفاجأ بأن الصوت عال جدًا لدرجة أن الجمهور لا يسمع حرفًا من الحوار.. هناك حيوان ما قد فتح السماعات إلى أقصى طاقة لها، وبالتالي تحولت قاعة السينما إلى معتقل نازي أو جحيم دانتي أو حظيرة مواش حسب التشبيه الذي يروق لك، وبما أنه رجل مهذب خفيض الصوت فقد طلب من هذا العامل أو ذاك تخفيض الصوت بلا جدوى، من ثم اتجه إلى مدير السينما في مكتبه ليفاجأ بحلوف بدين جالسًا يعد كومة من أوراق المال.. نقل له شكواه وعرفه بشخصه لكن المدير رفض في كبرياء أن يخفض ارتفاع الصوت، وقال دون أن ينظر له: "يا أستاذ سيبك منهم .. ده جمهور واغش !"ـ

 كان هذا في أوائل السبعينات، وكانت تلك أول مرة يسمع فيها الناقد الكبير هذا المصطلح، فلما سأل عرف أنه مصطلح سوقي معناه (تحت المستوى)، وهو ما يشبه مصطلح (بيئة) الذي نستعمله اليوم

 لم أستطع قط نسيان هذه القصة، وإن كنت أراهن على أن رءوف توفيق نفسه لا يذكرها. ما الذي كان يمكن أن يحدث لو خفض المدير ارتفاع الصوت ؟.. هذا الإصرار يعكس بلا شك رغبة لا نهائية في الإيذاء والإهانة والاستعلاء .. هذا جمهور واغش فليُعامل كما يُعامل الجمهور الواغش إذن

 أتذكر هذه القصة وقد تحولت حياتنا بالكامل إلى قاعة سينما يصر صاحبها على أننا جمهور واغش، ويصر على ألا يخفض صوت السماعات مع أن هذا لن يكلفه شيئًا . رءوف توفيق يمثل الصحافة ويمثل المثقفين الذين يسودون صفحات الجرائد والمجلات كل يوم فلا يصغي لهم أحد

 تكلم عن الغلاء .. تكلم عن انقطاع المياه .. تكلم عن التعذيب .. تكلم عن الفساد. تكلم عن تدهور التعليم والخدمات .. تكلم عن انهيار الريادة الإعلامية المزعومة .. تكلم كما تريد فأنت جمهور واغش ولن يتعب أحد نفسه بأن يخفض صوت السماعات من أجلك .. من الذي أصر على تغيير عبارة (الشرطة في خدمة الشعب) إلى (الشعب والشرطة في خدمة الوطن ) ؟.. لماذا لا تترك هذا الشعار يا أخي حتى لو كان مجرد شعار، وما أكثر الشعارات الجوفاء في حياتنا ؟ ، لكن لا .. لا يجب أن تنسى لحظة واحدة أنك جمهور واغش .. هل تجرؤ على أن تتصور لحظة أن الشرطة في خدمتك يا جربوع ؟

 ما الذي جعلنا جمهورًا واغشًا أو لماذا يعتبروننا كذلك ؟ .. على قدر علمي نحن أولاد ناس، ومعظمنا يستحم (في المحافظات التي ما زال الماء يصلها)، ومعظمنا حاصل على الإعدادية والله العظيم. هذا التعامل الخشن جعل الناس يتصرفون بالمثل ولا يثقون بالحكومة. ولهذا تتداعى إلى ذهني لفظة أومرتا
Omertà
أومرتا معناها مؤامرة الصمت، وهو سلوك شعبي معتاد لدى الصقليين والإيطاليين الذين يتعاملون مع عصابات المافيا .. هنا يصير من الممنوع على المواطنين أن يتعاملوا مع أية جهة حكومية كانت. يُقتل أخوك أو جارك لا سمح الله لكنك لا تبلغ الشرطة حتى لو عرفت القاتل. كل الشهود الذين رأوا الجريمة لم يروا شيئًا .. يقبضون على القاتل فينكر أن المافيا كلفته بأي شيء ولا ينطق بحرف. ينسحب هذا على أي تعامل حكومي لأن الناس هناك كونوا حكومتهم الخاصة التي تديرها المافيا

 كنت على الطريق السريع مع صديق لي، عندما رأيت تلك العلامات المعروفة التي تنذر بوجود رادار في طريقنا. إنها الإشارات المتقطعة للنور من السيارات القادمة في الاتجاه المقابل. على الفور خفض صاحبي سرعة سيارته إلى ستين، وتحول الطريق السريع إلى صف من سيارات مهذبة تمشي في سلام كأننا جوقة من الملائكة في موكب سماوي

 ما حدث على الطريق السريع هو مؤامرة شعبية كاملة على طريقة أومرتا لخداع الرادار وخداع الحكومة. مؤامرة اتفق عليها مئات من سائقي السيارات.. من يلتزم بها جدع ومن يخرج عنها نذل ابن نذل وخائن يعمل مع الأعداء. برغم أن الحد من السرعات المجنونة أمر حميد ومن صميم عمل الدولة، فإن هؤلاء يعتبرون الحكومة شرًا من السماء جاء ليخرب بيتك وييتم عيالك، وعلينا أن نتكاتف لمنعه، وأن السائق الذي سوف يظفرون به ليس سوى صاحب عيال غلبان وأرزقي.. عامة يؤمن المواطن المصري أن الدولة تأخذ منه أضعاف ما تعطيه، وهو قد يجد غضاضة في سلب حق بواب العمارة لكنه لا يفوت فرصة لخداع الدولة التي لا يشعر بأنها تقدم له أية خدمات

عرفت عريسين شابين عاكفين على تشطيب عش الزوجية قبل زواجهما بشهر، فكانا بعد رحيل الصنايعية وقبل مغادرة الشقة يتأكدان من أن الأنوار كلها مضاءة، لدرجة أن العريس عاد ذات مرة من الشارع لأنه نسى أن يضئ الأنوار. سألته عن سبب هذا الحرص وقد حسبته تقليدًا شعبيًا لمنع العفاريت أو الحسد أو شيئًا كهذا . قال لي في ذكاء: "لأن هناك شهر إعفاء من دفع رسوم الكهرباء مع العدادات الجديدة، لهذا نحاول أن نكلف الحكومة بعض المال !"ـ

 مبالغة ؟.. أقسم بالله العظيم أن هذا الموقف حدث حرفيًا، ولا داعي بالطبع لوصف ملامح وجه العريس عندما عرف فيما بعد أن موضوع الإعفاء هذا إشاعة لا أساس لها من الصحة

 على قدر علمي عسير أن يحدث هذا الموقف في أي بلد من بلدان العالم، وهو يعكس قرونًا من انعدام الثقة بين الشعب والحكومة. المشكلة أن هذا الوضع يتفاقم أكثر مع ذلك الإصرار الجهنمي على اعتبارك جمهورًا واغشًا . لا يمكنك أن تعرف أي شيء على الإطلاق .. ليس من حقك أن تفهم .. رأيك لا قيمة له.. لا تبيعوا القطاع العام لكنه يُباع .. لا توقعوا الكويز فتُوقع .. لا تذبحوا القضاة فهي جريمة لا تغتفر لكنهم يُذبحون .. استقبلوا وزير الخارجية الفلسطيني المنتخب لكن لا أحد يستقبله.. نصح المفكرون بأهمية وجود خطوط دبلوماسية قوية مع إيران فلم يبال أحد .. حذر الكل من خطر تعويم الجنيه فعوموه

 لقد صفق الناس في قاعة السينما التي كانت تعرض فيلم (عمارة يعقوبيان) عندما سقط ضابط أمن الدولة مضرجًا بدمه. كم منهم صفق لأنه سفاح سادي عذب الفتى واغتصبه، وكم منهم صفق لأنه يمثل الحكومة التي تزدرينا ؟.. إجابة هذا السؤال تحدد مستقبل مصر