قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Sunday, January 3, 2010

دماغى كده - فى أحوالنا الجارية - خواطر تغم الخاطر



أقرأ الآن كتاب "دماغى كده" و هو كتاب رائع يحوى الكثير من مقالات د أحمد حول مواضيع مختلفة... و سوف نتكلم عنه فى سلسلة "قرأت مؤخرا" بعد أن أنهيه إن شاء الله

و لكن فكرت أن أعرض منه بعض المقالات التى لفتت انتباهى بشكل خاص... لثرائها أو روعتها أو أسلوبها  أو طرافتها أو لأنها لامست بعض الأوتار و تناولت بعض القضايا التى تشغلنى بشكل خاص... برغم قدمها

كفانى حديثا و لنستمتع سويا بكلام الرائع د أحمد خالد

 شكر خاص للدكتور أحمد لإرساله نسخة رقمية من الكتاب خصيصا

===========================

موعد دفع فاتورة الهاتف الذي بدأت أشعر بأنه أسبوعي لا كل ثلاثة أشهر. طبعًا لم أستطع معرفة قيمة فاتورتي مسبقًا لأن الرقم المخصص للاستعلام لا يرد للأبد، وموقع الإنترنت يخبرني أن هناك خطأ في الصفحة.  إذن أحمل معي ما تيسر من مال، وأدخل السنترال في العاشرة صباحًا وأنا أهنئ نفسي على عبقريتي لكوني اخترت الموعد الذي يكون فيه الموظفون في العمل حول طبق الفول بالزيت الحار، لكني أكتشف أن مصر كلها شعب من العباقرة وأن الجميع فكر في الشيء ذاته. والسؤال هنا هو: إذا كنا جميعًا هنا فمن هناك ؟.. من الذي يعمل بالضبط ؟

طوابير .. طوابير .. تلوت حول نفسها كالثعابين لضيق المكان حتى أن الأخير يقف جوار الأول. لا أحد يتحرك .. وتعرف أن جهاز الكمبيوتر اللعين معطل .. الكمبيوتر الذي جعل الحياة أسهل في كل العالم ما عدا مصر. بل هو زاد الحياة تعقيدًا. في السنترال الكمبيوتر معطل ..في البنك الكمبيوتر معطل.. في محطة القطار الكمبيوتر معطل.. وعليك أن تقف بانتظار الفرج إلى أن يرحل قطارك. إن بركات الحكومة الإلكترونية تنهال علينا، ومن الواضح أن الأمر لا يمت للعولمة والثورة الرقمية قدر ما يمت لجعل حياتنا زي الطين، أو كما تصفها جريدة العربي الناصري بـ (هيكلة الدهولة)ـ

الحر خانق .. وعلاقات بشرية عميقة انعقدت بين الواقفين، وثمة رجل عجوز رأى وجهي المتجهم العكر فقال لي بحكمة متراكمة من عهد خوفو
"اضحك .. اضحك .. محدش واخد منها حاجة .. احنا دلوقت مع بعض وبعد ساعة ساعتين مش حنتقابل تاني"
أحد الواقفين يؤكد أن هذا لا يحدث في دبي لأن هؤلاء الناس عندهم مخ. وآخر راح يحكي كيف أن السعودية متقدمة وأحسن منا مليون مرة، بينما راح غلام مراهق لا تتجاوز سنه الثانية عشرة يردد بصوته الرفيع مقلدًا الرجال الكبار
" كل ده بسبب الحكومة أسلاً"
وأنا أراهن على أنه لا يعرف معنى كلمة (حكومة) بدقة. كمية سباب هائلة تلقتها الحكومة في ذلك اليوم فلو كانت رجلاً لانتحر من العار والخجل. ورجل حار الدماء محمر الوجه غارق في العرق يصيح
"كل ده عشان ندفع فلوس يا ظلمة يا ولاد الـ (...) ؟. أمال لو بناخد فلوس"
هنا انبرى رجل من الذين يلبسون بذلة صيفية رمادية قصيرة الكمين يقول
"عندك عبد العزيز حجازي مثلاً"
فنظرنا جميعًا للرجل لنعرف ما دخل الرجل المحترم عبد العزيز حجازي  بهذا الذي نحن فيه، لكنه كان قد أنهى ما يريد قوله. لم يكن عنده سوى مبتدأ بلا خبر. فقال واحد آخر
"والا الجمصي .. راجل محترم بصحيح"

المشكلة عندنا أن كل شيء (يبدو) جيدًا لكنه ليس كذلك.. الكمبيوتر في كل مكان، لكن ماذا قدم لنا فعلاً؟..بعبارة أدق ماذا أخذناه منه فعلاً؟..  في المدارس لا يتجاوز دوره دور (الفاسوخة) التي ترضي السيد وكيل الوزارة، والأولاد لا يتعلمون إلا برنامج الباوربوينت وفي كل عام يبدأون من جديد بلا تراكم من أي نوع . كتبت قبل هذا عن كتاب الكمبيوتر للصف السادس الابتدائي لغات وكيف وجدته مجرد وسيلة استرزاق .. ماذا يطلقون عليها في لغة الشباب ؟.. آه .. (نحتاية) .. هناك كمبيوتر في بنك القاهرة وبنك مصر لا يعمل تقريبًا، ويبدو أنه ينتظر الخصخصة ليفيق. كمبيوتر محطة السكة الحديد الذي يعتقد أن عمله منعك من السفر. كمبيوتر في كل بيت، لكنه يُستعمل كجهاز فيديو وجهاز كاسيت وهاتف ومجلة بورنو .. يُستعمل لكل شيء ما عدا الغرض الذي اخترع الكمبيوتر من أجله. بالفعل عندما تدخل المواقع العربية على النت تجد الكثير من إهدار الطاقات. مليون موقع يدعوك للدخول لترى مشهدًا شنيعًا لا يناسب ضعاف القلوب، وتدخل وتسجل لتكتشف أن المشهد بيضة مكسورة .. وتنهمر التعليقات على مدى ست صفحات من طراز (هي هي) و(ها ها) و(الله ما جصرت يا أخي . يعطيك العافية). دعك بالطبع من ذلك الولع المجنون بكلمة (فضيحة) لدرجة أن هناك منتدى كاملاً اسمه (فضيحة). كل شيء فضيحة وتعال لترى الفنانة الفلانية وهي تخلع قطعة الثياب الفلانية، وشاهد بوش وقد أصابه العته فعجز عن الكلام في الكونجرس، وهذا فيلم سري تخفيه الحكومة الأمريكية. تدخل على سبيل الفضول لتجد أنها دعابة مونتاج مسروقة من موقع غربي لا أكثر . دعك من مجموعات (فيس بوك) و(هاي 5) و(زوربيا) و.. و.. التي لا تفهم أبدًا الغرض منها ولا كيف تشق طريقك وسطها

المدونات من النشاطات المهمة على الإنترنت وقد قال أحد خبراء النت إنها والويكيبيديا أهم ما اضافته الإنترنت للحضارة البشرية. بعضها جيد جدًا والحق يُقال، لكن عليك أولاً أن تجد طريقك وسط كل هذا الرغي ... كلام كثير جدًا جدًا بحيث لا يترك لك وقتًا لقراءة أي شيء آخر،  ومئات الفتيات يحدثن أنفسهن بالعامية على طريقة (الناس اتغيرت وما بقاش فيه خير في النفوس) وهو ذات الكلام الذي يكتبنه في آخر كراسة المحاضرات

قلت للذي يقف أمامي إنني خلفه، وللذي يقف خلفي إنني أمامي. وغادرت السنترال لأجلس في كافتيريا قريبة إلى أن يأتي الفرج.   هنا لاحظت ظاهرة غريبة هي أن كل الكافتيريا تمتلئ بالطلبة .. بالتحديد طالب وطالبة على كل منضدة، ومن الواضح أنهم من المعهد المحلي التعاوني للتخطيط العمراني أو أي من هذه المعاهد التي لا تعلم شيئًا ولا مستقبل لها على الإطلاق. هناك شيشة في يد الفتى يدخنها بطريقة مفتعلة توحي بالحنكة والمعلمة، والفتاة تلبس ذلك الحجاب المزركش .. حجابين في الواقع لأنها تضع ثلاثة إيشاربات فوق بعض إلى حد التحول إلى عروس حلاوة من عرائس المولد، وتلبس سروال جينز واسعًا جدًا وحذاء كوتشي وبلوزة وفوق كل هذا فستان شفاف بحمالات كأنه قميص نوم. ثياب معقدة جدًا لا يمكن فهمها ولا يمكن أن تعتبرها لـ (درء الفتنة) قدر ما هي نوع من لفت الأنظار المجنون. والفتاة نفسها تعاني من حالة زيادة عارمة في هرمونات الأنوثة إلى حد أنها بدأت تتحول إلى جاموسة . وهي تقضي الوقت في تفقد شاشة الموبايل الرخيص في عصبية، ثم تقول للفتى
ـ"أنا بصراحة حيرانة يا حلاء .. حادل إنسان ممتاس لكن الكصة دي  لاسم تنتهي .. أنا قلت لماما إني مرتبتة بالانسان ده لكنها مسرة على إني أكمل المحهد"ـ
يكتفي بأن يضيق عينيه وينفخ دخان الشيشة في حنكة ورجولة مدركًا خطورة ما تقول، وأنا أضحك في سري. تذكرت عبارة سمعتها في مسلسل أجنبي، تقولها أم مذعورة رأت ابنتها مع أصدقائها المراهقين: "الهرمونات كثيفة في هذا المكان لدرجة إنه يمكنني أن أقصها بالمقص !".  طبعًا حلاء غير مهتم بمشكلتها مع حادل ولا هي مهتمة .. إن هو إلا شبق جنسي رهيب يوشك أن يتحول لكارثة لو أنهما وجدا مكانًا ينفردان فيه. والسؤال من جديد هو: ما دام كل هؤلاء هنا فمن هناك ؟.. من الذي يملأ قاعات العلم الآن ؟

شربت القهوة وعدت للسنترال . لم أجد الذي كان أمامي وكنت خلفه ولا الذي كان خلفي وكنت أمامه. وجوه جديدة غاضبة تصر على تمزيقي إربًا لو أصررت على العودة لمكاني .الكمبيوتر ما زال معطلاً والحمد لله على كل شيء. هكذا وجدت أن علي أن أطوي خيامي وأرحل. يوم كامل ضاع مع حلاء ودبي والحكومة . ما تعرفش وحياة والدك شخصًا طيبًا يدفع لي فاتورة الهاتف ويأخذ خمسة جنيهات كاملة ؟