قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Friday, January 29, 2010

دماغى كده - فى بعض الآراء الفنية - عن العصر الذهبى لمجلة سمير


أقرأ الآن كتاب "دماغى كده" و هو كتاب رائع يحوى الكثير من مقالات د أحمد حول مواضيع مختلفة... و سوف نتكلم عنه فى سلسلة "قرأت مؤخرا" بعد أن أنهيه إن شاء الله

و لكن فكرت أن أعرض منه بعض المقالات التى لفتت انتباهى بشكل خاص... لثرائها أو روعتها أو أسلوبها  أو طرافتها أو لأنها لامست بعض الأوتار و تناولت بعض القضايا التى تشغلنى بشكل خاص... برغم قدمها

كفانى حديثا و لنستمتع سويا بكلام الرائع د أحمد خالد

شكر خاص للدكتور أحمد لإرساله نسخة رقمية من الكتاب خصيصا

===========================

أولاً دعني أؤكد لك إنني لست من جيل مجلة (السندباد) حتى لو كنت تعتقد أنني عجوز لهذه الدرجة.. هناك جيل كامل تربى على رسوم بيكار في هذه المجلة لكنه ليس جيلي ..  إنما أنا من جيل (سمير) و(ميكي).. توأما دار الهلال اللذان صنعا ثقافتنا الأولى.. الأول كان شخصية فرنسية مترجمة اسمها (سبيرو) ثم صار عربيًا جدًا، والثاني قادم من عالم ديزني الساحر. ثمة وحش مترجم كان يأتي  من بيروت يتكلم بلغة (البندورة والعلكة والبوظة)  هو مجلات سوبرمان والوطواط ولولو الصغيرة، وقد أوقفت هذه المجلات على كل حال لأن وزير الثقافة وقتها أدرك مدى ما تحمله من قيم أمريكية بعضها مفزع (المجلة المنحوسة التي وقعت في يد الوزير كانت تمثل سوبرمان يلقن أبويه درسًا قاسيًا  !) .. كان هذا قبل أن تأتي الضربة القاصمة من الأهرام في صورة عملاق  فرانكفوني  لا يمكن منافسته اسمه مجلة (تان تان).. هنا اجتمع أفضل المؤلفين البلجيكيين مع أفضل الرسامين ليصنعوا هذا الحلم الجميل الذي استمر عشرة أعوام، قبل أن تتوقف

كما قلت من قبل كانت مجلة سمير تقدم شخصية فرنسية اسمها (سبيرو) يرسمها فنان اسمه (برني)، ومع الوقت صار (سمير) عربيًا أكثر فأكثر .. اسمر لونه وتجعد شعره وصار يشتري الفول ويأكل الكنافة في رمضان، ورسمه عدة فنانين مثل التهامي وحجازي ونسيم جرجس

وسط كل الإبهار والإتقان الحرفي لدى سحرة ديزني ومارفل ودي سي كوميكس، استطاعت مجلة (سمير) أن تعيش وأن يصير لها قراؤها .. والسبب هو كتيبة المؤلفين والفنانين التي استطاعت دار الهلال  أن تحشدها في ذلك العصر الذهبي

  لم تعد عندي مجلات (سمير)، لكني أتذكر كل حرف نشر فيها (ليس شيئًا هينًا بعد ثلاثين عامًا)، وانطباعي هو أن هؤلاء الفنانين كانوا يحبون ما يقومون به فعلاً، ومقتنعون به جدًا .. بالتأكيد لم يتقاضوا إلا ملاليم بالنسبة لما يناله فنانو اليوم إذا تعاملوا مع صحافة الطفل الخليجية. النقطة الأكثر أهمية هي أنهم ظلوا في قوقعة تعزلهم عن أساليب الستريبس الغربية، كأنهم هم مكتشفو هذا الفن، وهكذا لا يمكن أن تجد فيهم استنساخًا لرسامي (دي سي كوميكس) أو رسامي (ماد) كما تجد في أكثر رسامينا اليوم... لو تأملت رسوم (عدلي رزق الله) لشخصية (أشعب) لوجدت أسلوبًا طفوليًا أقرب إلى المنمنمات الفارسية، وبالتأكيد لم يستعمله أحد في القصص المصورة قبله ولا بعده.  وماذا عن رسوم (محمد حجي) و(كنعان) و(مأمون) التشكيلية المتجهمة ؟.. لقد تخصص الفنان الأول في قصص المقاومة الفلسطينية وكان يرسم الإسرائيليين أقرب إلى الوطاويط مصاصة الدماء، وما زلت أذكر رسمه لقصة كفاح (مارتن لوثر كنج) ..  أما رسم (مأمون) لقصة (سبارتاكوس) فهو مجموعة من اللوحات التشكيلية التي زودت ببالونات الحوار .. بالطبع رضعنا كراهية الصهاينة من هذه القصص لأن من رسموها كانوا يكرهون الصهاينة فعلاً قبل أن تختلط الأمور

كل مسرحيات شكسبير قرأتها للمرة الأولى على شكل قصص مصورة في مجلة سمير .. عرفت أديسون وبيمون والياس هاو .. هل حقًا لا تعرف (بيمون) و(إلياس هاو) ؟.. بالطبع لأنك لم تكن من قراء سمير

ثم يأتي (محيي الدين اللباد) .. اللباد العظيم الذي قرر أن يذيق الطفل المصري أساليب فنية أكثر غرابة وحداثة ... إنه يقدم لنا قصة كاملة من أدب (جول فيرن) مستعملاً أسلوب الكولاج وفن البوب، لا تنس أن هذا كان عصر البوب و(أندي وارهول) على كل حال، فاستعمل ذات العالم (المشجر) فاقع الألوان الذي تراه في فيلم البيتلز (الغواصة الصفراء)..   تخيل قصة لا ترى فيها وجه بطل واحد وإنما أصابع وقبعات !.. وقد قدم لنا اللباد شخصيات طريفة جدًا مثل الولد السكندري (قرقورة) الذي يثير رعب الإسرائيليين، وزغلول أفندي بشاربه الأحمر

أخبث من عمل في المجلة كان عمنا الكبير (حجازي).. لقد قدم لهذه المجلة أضعاف ما قدم لروز اليوسف وصباح الخير معًا، لكن الكبار كعادتهم ينظرون لما يطالعه أطفالهم على أنه (شغل عيال).. من هذه الثغرة تسلل حجازي وألف ورسم أجرأ قصص يمكن تصورها.. لابد أن رجل المخابرات كان يقضي يومه في تعذيب الإخوان والشيوعيين، وينقب بالميكروسكوب في كل مطبوعة وجريدة، ثم يشتري مجلة سمير في طريق العودة ليقرأها أطفاله .. غير عالم أنها تحوي قصص (تنابلة الصبيان) لحجازي

ما كل هذا الإلهام ؟.. لقد كان الانفتاح في علم الغيب .. ولم تكن هوجة الأطعمة الفاسدة ولا الغش الصناعي قد بدأت، وما أذكره – على قدر علمي – أن الشرطة كانت في خدمة الشعب وقتها قبل أن يصير الشعب في خدمة الشرطة ..  لكن عمنا حجازي يقدم لنا ثلاثة أطفال كسولين شديدي البدانة والخبث هم تنابلة الصبيان .. هؤلاء الأطفال القادمون من بلاد السلطان يلعبون بالاقتصاد المصري لعبًا .. لقد استعملوا علب البولوبيف المصنع في الغرب وغيروا الورقة اللاصقة عليه ليبيعوه على أنه منتج مصري مائة في المائة !.. وزارة الصناعة تهلل والإعلام يصفق والمذيعات البلهاوات يجرين معهن اللقاءات .. لقد صاروا من أقطاب الصناعة في مصر وهم نصابون لا أكثر .. الأدهى أنهم يتفقون مع نشال مشهور هو (علي عليوه) ليسرح رجاله لسرقة رواتب موظفي شركتهم أول الشهر !.. وهكذا يدور المال دورته ويتمكنون من دفع الرواتب أول كل شهر .. يقرر الموظفون ركوب سيارات أجرة لتفادي النشل، هنا تتبدى سخرية حجازي عندما نكتشف أن قوانين الشركة تحتم على الموظفين العودة بالأوتوبيس !.. واحد فقط يكتشف المهزلة هو سمير نفسه .. يحاول فضح التنابلة ويوزع المنشورات ضدهم فيعتقل، وتحاكمه محكمة أمن الدولة ويلقى به في السجن .. لاحظ أننا نقرأ قصة أطفال نشرت عام 1969 !...  وفي النهاية يفر التنابلة بما سرقوه إلى الخارج !.. (هذه النهاية اضطرت دار الهلال لتغييرها في الألبوم الذي أصدرته للقصة في عهد السادات)ـ

هناك قصة أخرى لتنابلة الصبيان تحكي كيف تقمص أحدهم دور ضابط والآخر دور وكيل نيابة والآخر دور طبيب، وهبطوا على قرية مصرية بريئة ليتحالفوا مع العمدة والبقال الثري (حسبو) وينهبوا مواشي الفلاحين.. مع أغنية تتردد باستمرار هي (الهش كده .. كل ولاد العز كده .. أما ولاد الفلاحين .. سود ومش قد كده !).. لاحظ أننا لا نتكلم عن مسرحية لـ (نعمان عاشور) .. بل قصة أطفال مصورة .. يا للرسام العبقري الخبيث !.. كل هذا قبل الانفتاح بثمانية أعوام

لكن السبب الذي جعل هذه الأعمال تمر تحت أنف الرقابة هو نفس السبب الذي جعلها تتبخر كأنها لم  تكن: أنها قصص أطفال .. فقط أردت أن أقول لعم حجازي: نحن تلقينا الرسالة وفهمنا .. ولو كنا قد صرنا محترمين – وهي فرضية قابلة للمناقشة – فلك فضل عظيم في هذا

كانت مجلة سمير تحمل طابعًا عامًا من كراهية إسرائيل والولايات المتحدة، والتفرقة العنصرية، ومساندة حركات التحرر وفيتنام والمناضلين، وهي نغمة قد تبدو يسارية بعض الشيء اليوم لكنها كانت النغمة السائدة في مصر وقتها وقد قدمتها المجلة بلا إسفاف .. فليس غريبًا أن يكون عصر السادات هو بداية انهيار مجلة سمير.. لم يعد هذا عصر الكلام عن (جيفارا) و(مارتن لوثر كنج) بل هو عصر شراء (السونتيانات) من بور سعيد

هؤلاء الناس كانوا مؤمنين بأن الطفل يمكن أن يستوعب أي شيء وأية معلومة، ما دامت تقدم له مبسطة، والتجربة العربية المماثلة التي تحضرني الآن هي مجلة (أسامة) السورية

كانت مجلة سمير من إبداعات دار الهلال في ذلك العصر الذهبي، وهو العصر الذي شهد تجارب هائلة قدمتها (نتيلة راشد) .. مثلاً رواية (الجمال الأسود) صدرت  للأطفال في ألبوم أنيق اسمه (مذكرات حصان) يحوي كل لوحة أو نقش جداري أو تمثال للحصان عبر التاريخ.. (بنت الشمس والقمر) أساطير أفريقية يحكيها مين ؟.. فؤاد حداد شخصيًا !.. هناك مجموعة قصص أطفال عالمية يرسم كل قصة فنان من وزن (حلمي التوني) و(مصطفى حسين) و(محمد حاكم) و(إيهاب شاكر).. هكذا يدخلون في استعراض عضلات لا يمكن نسيانه..  (البوابة المسحورة) قصة ورسم (يوري ترنكا) أعظم أديب ورسام أطفال .. من الذي يشرف على ترجمة الكتاب وإخراجه؟.. اللباد

ما زالت مجلة سمير تصدر عن دار الهلال .. لا أريد أن أكون سمجًا لكني أشعر بأنها فقدت كل روح، وأنها تصدر لأنها يجب أن تصدر.. كل العاملين فيها (مالهمش مزاج).. وعلى كل حال لم يبق شيء كما كان في الماضي، فلماذا تختلف مجلة سمير عن أي شيء آخر في مصرنا الحبيبة ؟