قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Wednesday, February 24, 2010

رحيق العمر كتاب يذكر الحقيقة ولا شيء غيرها

بص و طل - 22 فبرايار 2010


مَن طالعوا الكتاب السابق الذي يحكي تجربة د. (جلال أمين)، قد يبدو لهم هذا الكتاب نسخة مكررة من الأول؛ لكن الكتابين (علمتني الحياة - رحيق العمر) تجربة متفردة حقًا؛ لأنها تتبع طريقة الرواية متعددة الرواة. تذكر رواية (الرجل الذي فقد ظله) لفتحي غانم التي صدرت في أجزاء، يحكي كل جزء الأحداث من وجهة نظر شخص مختلف؟ هذه أول مرة -حسب علمي- يحدث هذا مع سيرة ذاتية، والرواة هم د. جلال أمين نفسه يعيد تأمل حياته بنظرة طازجة مختلفة؛ فيتوقف أمام أشياء أهملها في الكتاب الأول، ويغفل أشياء أخرى اهتم بها من قبل

من جديد نجد العلامات المسجلة لـ د. جلال: الصراحة المطلقة.. إنه يذكر الحقيقة ولا شيء غيرها؛ لكنه قد يحتفظ لنفسه ببعض هذه الحقيقة، وهو تصرف مفهوم إنسانيًا. الصراحة المطلقة والتعامل مع العالم كطفل حكيم متسع العينين لا يفهم الزيف والادعاء ولا يطيقهما. يعترف بأن البعض وجد الكتاب الأول صريحًا أكثر من اللازم؛ بينما وجده البعض غير صريح فيما يتعلق بالجنس والمرأة؛ لكننا نعرف يقينًا أن الكتاب الأول أثار غضب كثيرين أو ذهولهم عندما تكلم عن مشاعر أبيه الحقيقية تجاه أمه لأنه لا يجدها جميلة، وعن كونه لم ير أباه يصوم قط أو يصلي وهو الكاتب الإسلامي الكبير

أشياء كثيرة قد يفضل المرء منا أن يعتزل الكتابة ولا يخطها على الورق؛ لكن الرجل تجاسر على ذلك؛ لأنه أدرك أنه لا قيمة لاعترافات مزورة أو مفبركة.. إما أن تتكلم بصراحة ووضوح أو تصمت؛ فلا حاجة لأرفف المكتبات إلى كتاب أكاذيب جديد

وهو في الكتاب الحالي يخترق المزيد من أسوار التابوو التي نحيط بها ذواتنا.. سوف تقابل د. جلال أمين وهو يتشاجر مع بلطجي من أمريكا اللاتينية حاول الاستيلاء على شقته في المعادي؛ فتجد أن الغضب أعماه تقريبًا وهو يحمل (الكوريك) ويهشم نوافذ البيت وكشافات سيارات الرجل، ويقتحم البيت غارقًا في الدماء فيفر المعتدي خوفًا، وهو مشهد لا يحب أستاذ جامعي أن يراه طلبته؛ لكن د.جلال أمين أرانا المشهد كاملاً.. سوف تقابله وهو مراهق يمضي سهرة حمراء مع أصدقاء الشباب، ويبحث عن سيجارة طلبتها منه بائعة الهوى قبل أن ينفرد بها

كما قلنا يبدأ د. جلال أمين من نفس البداية ليصل لنفس النهاية، وإن كان يتوقف عند أشياء مختلفة هذه المرة. يحكي لنا عن علاقته بأمه وعلاقة أبيه بأبنائه، وعلاقة أمه بعمته.. إلخ

هناك عبارات كثيرة تتوقف عندها، مثل: وصفه للمناخ الثقافي التعليمي في الأربعينات قائلاً: إنه كان يجمع بين احترام الحضارة الغربية واحترام النماذج الرفيعة في التراث العربي والإسلامي؛ فقد كانت هناك هالة من الاحترام تحيط بأسماء النابغة الذبياني والمتنبي وسواهما؛ لكن في الوقت نفسه يستقر في ذهنك احترام فولتير وروسو، وتعرف من هو سقراط، وماذا قدمه ديكارت. ويعزو هذا إلى ثقة الطبقة الوسطى بنفسها واطمئنانها إلى المستقبل، وهذا أدى لإفراز مترجمين في غاية البراعة والتمكن من اللغة العربية قبل الأجنبية، كما يفسر هذا الانسجام الذي ساد علاقة المسلمين والمسيحيين وقتها. ويقارن د. جلال بين التعليم في ذلك الزمن والتعليم الحالي في أرقى صوره؛ فالتعليم الحالي لا يتضمن التمثيل في مسرحية أو تعلّم العزف على آلة موسيقية، أو القيام برحلة لمتحف، وعندما قررت المدرسة عمل معرض للأعمال الفنية؛ فإن كل الآباء كانوا يعرفون المحل الذي يشترون منه الأعمال الفنية جاهزة. هناك مدارس محدودة أفلتت من هذه الدائرة الجهنمية -مثل بعض مدارس المعادي- لكن على حساب مصاريف باهظة وتضحية شبه كاملة باللغة العربية

عندما بدأ الفتى يشارك في المظاهرات في أعوام الغليان السياسي تلك؛ فإنه يعترف بشيء ظل كامنًا فيه حتى اليوم هو "الرغبة في الاستعراض ولفت الأنظار". ثم تخرّج في كلية الحقوق بعد دراسة لم يحبها قط، وانضم لحزب البعث في تجربة ندم عليها كثيرًا فيما بعد عندما عرف أنه مغضوب عليه لدى أجهزة الدولة؛ مما كاد يمنعه من السفر

وقد ظفر ببعثة لدراسة الاقتصاد في إنجلترا أبعدته عن مصر في الفترة الذهبية من تاريخها (1955 – 1958). ذروة عدم الانحياز واستقلال القرار؛ لكن البيروقراطية كانت قادمة، وقد تناثر عليه رذاذ الدولة البوليسية عندما عاد لمصر عام 1964 ليكتشف أنه تحت الرقابة طيلة الوقت، أما أخوه (عبد الحميد) فقد فوجئ بمصادرة أجهزته في المركز القومي للبحوث ونقلها إلى أنشاص.. من ثم ترك التدريس في جامعة عين شمس وسافر للولايات المتحدة. ثم عاد منها ليعيش أربعين عامًا من البطالة حتى توفي عام 2006.  وفي العام 1966 أحيل أخوه محمد رئيس مجلس إدارة شركة إيديال للمعاش؛ لأن بعض العمال في المصنع اتهموه بعدم تعاطفه مع الاشتراكية!.. لقد بدأت سنوات التطهير

أهم أجزاء الكتاب في رأيي هي تلك المراسلات بينه وأخيه (حسين) الذي كان في لندن وقتها؛ حيث يتكلم الأخوان المثقفان عن الموسيقى الكلاسيكية والمسرح والفنون. وكذلك الأعوام التي قضاها جلال أمين في لندن وتجاربه مع أساتذته البريطانيين ومغامراته في استكشاف عالم المكتبة وخطواته الأولى في عالم الاقتصاد. أعوام ثرية جدًا تنتهي بأن قابل كذلك شريكة حياته البريطانية التي صارت زوجته

من أهم الفصول كذلك هذا الفصل الذي يتلخص في كلمات أستاذ فرنسي لتلميذ مصري لديه: "أنتم معشر المصريين طلبة ممتازون وأذكياء ومبتكرون؛ لكن ما الذي يحدث لكم عندما تعودون لمصر؟"ـ

يحاول د.جلال الإجابة عن هذا السؤال؛ حيث يبدو أن شعلة ذكاء المصريين التي توهجت في الخارج تنطفئ عندما يعودون من البعثة. لعل السبب الأهم هو مصاعب الحياة اليومية والحاجة إلى البحث عن نشاطات غير علمية؛ لكنها تزيد الدخل، والتزامات الحياة العائلية في مصر التي تضيع الوقت وتشتت الذهن. ويحكي هنا قصصًا طريفة عن المقررات العلمية التي كلف بتدريسها لدى العودة، وبعضها في مواضيع لم يسمع عنها قط قبل موعد المحاضرة! وكذلك إرغامه على (التدريس السياسي)؛ بمعنى أن يضطر لشرح منهج كامل عن التعاون لمدة عام؛ بينما المنهج تكفيه محاضرتان لا أكثر

ويحكي في فصل كامل رحلة أوديسيوس الأسطورية لأربعة أشهر التي قام بها ليسمحوا له بحضور مؤتمر علمي في لندن؛ بينما الجهات الأمنية متشككة لمجرد الشك.. التظاهر بالخطورة والتحفظ بلا مبرر؛ حتى أنه حصل على توصيات من خالد محيي الدين وشعراوي جمعة؛ لكن لا يبدو أن هناك حلاً إلا قرب النهاية

هناك كذلك رحلاته إلى كوبا وإلى موسكو؛ حيث ينقل صورة غير مألوفة عن المجتمع الشيوعي، ويناقش الحراك الاجتماعي والعولمة وعقدة الخواجة التي سيطرت على مثقفي مصر الميّالين للغرب، كما يحكي قصته المؤسفة مع المرض بالوهم؛ حيث أقنعه الأطباء أنه مصاب بمرض بهجت
Behcet
 فقضى فترة من أسود فترات حياته لا هم له سوى مرضه، ولم ينجز أي شيء في تلك الفترة؛ حتى أنقذه طبيب تركي بعد عدة أعوام أخبره أن مرض "بهجت" لا يصيب هذه السن أصلاً

صراحة.. صراحة.. الكثير منها، ونظرة عميقة للحياة ازدادت تخمرًا مع السنين، مع رجل لم يعد يخشى أن يقول أي شيء بعد هذه السن. كل هذا يجعل الكتاب درة جديرة بأن تقرأ