قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Sunday, August 22, 2010

هل مات "كرومويل"؟ فلنشنقه إذن! - 2


==============================


ظفر هذا الموضوع بعدد لا بأس به من الردود، كما تلقيت خطابات عديدة على بريدي الخاص تناقشه، وأشهد أن كل ما تلقيته من آراء مؤيدة أو مخالفة كان يتسم بالتهذيب والموضوعية، حتى تمنيت لو أن الجدل الدائر على الساحة السياسية كان بهذا القدر من الرقيّ، لكن هيهات. على أن هناك نغمة تكررت عدة مرات في بعض الردود هي: ما جدوى هذا الجدل الذي لا ينتهي حول عبد الناصر والسادات؟ إنه جدل أبدي بين الأهلاوية والزملكاوية لا جدوى منه سوى جعلنا نعيش في الماضي للأبد، وفي النهاية لم نرَ أهلاويًا يغيّر انتماءه في نهاية النقاش فيعلن أنه صار زملكاويًا منذ اللحظة، والعكس صحيح. الحقيقة أنني أختلف معهم.. أنا أرى أن مشاكل الحاضر هي حصاد أخطاء أحد الرجلين، ومن المهم أن نفهم من هو؛ لأنه ما زال حيًا حتى اليوم يحرّك كل شيء.. النقطة الثانية هي أن تتكون ذاكرة الأمم بشكل صحيح، وأن يعرف من قدّم حياته للوطن أن ذكراه ستُحترم على الأقل، وأن يتوقف مهرجان الأكاذيب؛ حيث الكل يكذب بوحشية وقسوة ولا يعنيه الشباب الذين لا يعرفون هذا ولا ذاك


اخترت عرض هذا الكتاب الذي كتبه "هيكل" عام 1976 في ذروة الحملة التي راحت تمزّق كل شيء قام به عبد الناصر في حياته، وقد لاحظت أن الكتاب قليل الشهرة بين كتب "هيكل"، كما أن القليلين جدًا من الشباب قد قرأوه. يقول "هيكل" عن طوفان "شهود العصر" الذي انفجر فجأة: "ظل هؤلاء من عام 1970 حتى عام 1974 يتمسّحون بذكرى الراحل، ثم بعد أربع سنوات كاملة اطمأنوا فيها إلى أن الجسد المكفّن لن يخرج من قبره، فتحوا أفواههم وتكلموا!". وفي موضع آخر يقول: "مراجعة التجربة مطلوبة والتصحيح حق، لكن التصحيح يبدأ من افتراض أن القاعدة سليمة. ما يحدث في مصر الآن ليس كذلك.. إنه إدانة نهائية وكاملة.. ليست وقفة ولكنها محاولة اغتيال لكل ما كان.. إنها عودة ليست إلى الطريق لكنها عودة عن الطريق!"ـ

طبعًا صار تفنيد التهم المتعلّقة بالاختلاس أمرًا منتهيًا بالنسبة لعبد الناصر.. أصدقاؤه وخصومه قالوا إنه شريف نظيف اليد، وكما قال تقرير المخابرات المركزية بعدما أضناها البحث في البنوك السويسرية عن حساب سري للرجل: "الرجل أكثر كبرياء من أن يفسد!"ـ
The man is too proud to be corrupted

لم يعد أحد يستخدم هذه النقطة للتشهير، لكنها كانت مستخدمة في ذلك العصر بكثرة. وهنا يطرح "هيكل" سؤالاً منطقيًا: "من الذي يضع الأموال الطائلة تحت تصرف أصدقائه؟ المعسكر الرأسمالي أم الاشتراكي؟" من يبحث عن ثروة سوف يجد أن التعاون مع المعسكر الرأسمالي أقرب لتحقيق ما يريد. رئيس فيتنام الجنوبية "ثيو" كان يحصل على مائة مليون دولار تحت تصرفه كل عام بترتيب خاص مع الرئيس الأمريكي. من يبحث عن ثروة سيجد أن تجارة السلاح هي ينبوع الثروات، لكن عبد الناصر جعل كل مشتريات السلاح من الاتحاد السوفيتي، وهذا أغلق باب الرشاوى والأرباح من تجارة السلاح اللعينة. على كل حال قد قتلت هذه النقطة بحثًا لهذا أكتفي منها بهذا القدر

تهمة حرب اليمن: في يوم من أيام أكتوبر 1962 قامت ثورة اليمن لتجد نفسها وحيدة في مهب الريح. طلبت الثورة الوليدة العون من مصر الشقيقة الكبرى، وطلب عبد الناصر رأي أنور السادات الذي كان اليمن والخليج اختصاصه؛ فكانت توصيته هي أن مصر يجب أن تتدخل، ولا يمكن أن تتفرج على ما يحدث في اليمن مكتوفة اليدين. وكان رأي السادات أن تدخُّل بعض قوات الصاعقة وسرب طيران واحد كافٍ جدًا. وكان أن رأى عبد الناصر رأي السادات، ولمدة خمس سنوات كان السادات هو الذي تولى إدارة الجهد السياسي المصري في اليمن. وقد أدى هذا التدخل إلى خروج بريطانيا من الجزيرة العربية، وأرخت أمريكا قبضتها على ثروات الخليج، فسمحت للشعوب بأن تنال بعضًا من خيراتها، وبدأت حركة تحديث في كل الأسر المالكة في الجزيرة العربية، بدأت بأن تولى الملك فيصل عرش السعودية. لقد غيّرت حرب اليمن وجه الجزيرة العربية للأبد، لكن الجميع يفضّل تناسي ذلك

أما عن اتساع الحرب هناك فكان عن طريق جيوش المرتزقة الذين تم شراؤهم من لندن وباريس، حتى بلغ عددهم 15 ألفًا.. وتولّت الولايات المتحدة التنسيق لهذا العمل. وكانت إسرائيل هي التي تلقي بالذخائر لهؤلاء المرتزقة المقاتلين في الجبال. وكانت المخابرات الأمريكية تُطلق على العملية "حرب كومار" نسبة للضابط الذي يدير العملية. حرب اليمن إذن كانت مواجهة مفتوحة مع أمريكا وإسرائيل

تهمة مذبحة القضاء: في العام 1969 وصلت تقارير لعبد الناصر تخصّ بعض أحكام القضاء، وتقضي بأن هذه الأحكام صدرت بطرد مستأجرين من الأرض التي استأجروها لصالح كبار الملاك، وبعض القضاة الذين أصدروا الأحكام هم من أسر تضررت من الإصلاح الزراعي. قام بتشكيل لجنة لدراسة الموضوع تتضمن "سامي شرف" و"شعراوي جمعة" والمستشار "عمر الشريف". وعلى رأس اللجنة كان أنور السادات. ثم ضمّ عبد الناصر لها "جمال العطيفي" مستشار الأهرام القانوني؛ لأنه يعرف حساسية التدخل في أحكام القضاء. كان "العطيفي" يملك تحفظات خطيرة لذا جلس عبد الناصر يسمع له عدة ساعات قبل أن يضمه للجنة

تهمة مصادرة الصحف: تتعلق بإغلاق جريدة "المصري" التي يملكها "محمود أبو الفتح" ويرأس تحريرها أخوه. كان "محمود" يشكو من أن مصالحه تحارب في مصر، ومن هذه المصالح فشله في الحصول على مشروع سيارات النقل في القاهرة، ورفض لجنة في الجيش شراء البندقية عيار 86 التي كان يريد تسويقها. وهي أسباب لم تبدُ مقنعة لعبد الناصر. بعد هذا بدأ "أبو الفتح" يتصل بـ"نوري السعيد" رئيس وزراء العراق (عدو عبد الناصر)، وقام بدعايات لا تتوقف ضد النظام في مصر. تشكّلت محكمة الثورة من عبد اللطيف البغدادي وأنور السادات وحسن إبراهيم، وصدّق اللواء محمد نجيب على الحكم بإغلاق جريدة المصري. كان هذا في 2 مايو عام 1954

مولد الحقد الطبقي: يتكلم الناس عن أن الصراع الطبقي في مصر اختراع ابتكره عبد الناصر. يرى "هيكل" أن الحقد الطبقي بلغ ذروته في حريق القاهرة قبل الثورة، عندما أعلن الناس أنهم غاضبون؛ لأن ما هم فيه من فقر ليس قدرًا اختصهم الله به، بل هو قسر فرضه القادرون. وكما قال الاقتصادي "عبد الجليل العمري": "كان الاقتصاد المصري قبل الثورة كبقرة ترعى في أرض مصر، ولكن ضروعها تحلب في الخارج." وفي هذا الجو توالت حوادث اغتيال رؤساء الوزارات والشخصيات الهامة: أمين عثمان – محمود فهمي النقراشي – أحمد ماهر – حسن البنا – الخازندار.. وفي الريف هبّ الفلاحون مرارًا مثلما حدث في دائرة الأمير محمد علي وقصر البدراوي في بهوت

لم تكن مصر واحة هادئة مستقرة قبل الثورة كما يحلو لهم أن يوحوا به، بل كانت تغلي. وكانت الوزارات تسقط خلال شهر. ثم جاء عبد الناصر.. أدرك أن الصراع الطبقي سوف يلطّخ التراب الوطني بالدم ويؤدي لحرب أهلية. ولسوف يؤدي تنافس القطبين الكبيرين إلى تدويل هذه الحرب مثلما حدث في إسبانيا. وهكذا قرّر أن يقوم بتحوّل اجتماعي بلا عنف ولا دماء، وعن طريق ما أطلق عليه "هيكل" اسم (تأميم الصراع الطبقي). السلطة الوطنية تسترد كل المصالح التي نهبها الأجانب مثل قناة السويس والمصارف وشركات التأمين.. ثم تصفي مواقع الامتيازات الطبقية في الأرض الزراعية، وهكذا صدرت قوانين الإصلاح الزراعي وتأميم المصارف وقوانين الحراسة التي تلاحق الثروات الفادحة

 وقد سيطرت هذه السلطة على فرص التعليم ومظلة التأمينات الاجتماعية وأسعار الغذاء وأسعار المساكن. يرى "هيكل" في ذلك الوقت المبكر (عام 1976) أن هذه التجربة سوف يدمّرها ظهور طبقة جديدة تكدّس ثروات هائلة أفرزها الانفتاح الاقتصادي. لقد صار في مصر وقتها 500 مليونير جديد خلال عامين فقط.. هؤلاء يضغطون بشدة على الاستهلاك ويضغطون على القطاع العام لدرجة التحطيم. ومن مصلحة هذه الطبقة أن تبقى الجماهير في عقدة ذنب؛ لأنها ضيعت وعيها بانقيادها الأعمى للفارس فارع القامة الذي يشبه النسر. هذه الطبقة خالية من الانتماء، على عكس الطبقة القديمة التي كان ثراؤها مرتبطًا بالأرض الزراعية لهذا كانت طبقة منتمية.. الطبقة الجديدة لا دور لها سوى شفط خيرات مصر وضخّها في الخارج

هل ما زلت معي؟ حسناً.. لقد طال هذا المقال، لذا سوف أحتاج إلى مقال ثالث وأخير لعرض باقي الكتاب وعرض ما قاله القراء..... فإلى لقاء