قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Tuesday, August 3, 2010

ـ"ثورو" و أشياء أخرى


أرجو ألا يتدخل المصحح ليضيف حرف الألف إلي لفظة «ثورو» في العنوان ليحولها إلي فعل أمر .. أنا أتكلم عن المفكر العالمي «هنري ديفيد ثورو»، الذي تتوافق ذكرى ميلاده مع شهر يوليو . هذا اسم علم وليس فعلاً.. خلاص؟

ثورو قد غير الكثير من المفاهيم في الفكر السياسي، وارتبط اسمه بمفهوم الفوضوية إلي حد ما، وسوف أتكلم عنه بالتفصيل حالاً، لكن يجب أولاً أن أذكر خبرًا نشره موقع «مصراوي» يقول: «صرح الدكتور علي الدين هلال- أمين الإعلام بالحزب الوطني الديمقراطي- بأن ما يطلبه «البرادعي» من تعديل للدستور إنما هو أمر غير منطقي وغير واقعي، ولا تعديل للدستور حاليا، حتي لو جمع مليون توقيع فسوف نتأكد من صحتها ، لأننا يمكن أن نرد عليه بجمع 5 ملايين توقيع ترفض إجراء تعديل للدستور»ـ


المشكلة أن كلامه دقيق فعلاً.. بوسع الحزب الوطني أن يجمع خمسة ملايين توقيع أو يخرج ألف مظاهرة تأييد لأي شخص. فلو صدر قانون لتحديد كميات الأكسجين التي يستنشقها الناس، لكان من السهل أن تملأ مظاهرات التأييد الشارع من أجل هذا القرار الشجاع الذي تأخر كثيرًا

يقول د. هلال حسب الخبر: «إن الدكتور محمد البرادعي -المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية -يحمل وشاح النيل، وهو أعلي وسام مصري ، إلا أنه لا يمكن تعديل الدستور استجابة لمطلب شخصي ، وإن حدث ذلك فهو يدل علي ضعف الدولة ، كما لا يمكن لأي مرشح للانتخابات الرئاسية أن يرشح نفسه خارج الحزب... البرادعي قد صرح مرة بأنه غير مستعد للانضمام للحزب الوطني». وأنا بدوري أقول له: «وهو أصلا حد دعا حضرتك للانضمام للحزب حتي تعلن أنك ترفض أن تشارك فيه؟». وتابع أمين الإعلام بالحزب الوطني متهكمًا :« ما يفعله البرادعي اسمه بالبلدي «تلاقيح جتت»، لأنه لم يدعه أحد من الأصل للانضمام للحزب فكيف يرفض أمرا لم يعرض عليه من أصله؟»ـ

ـ«تلقيح جتت»؟.. ليس مصطلحًا شائعًا في المعارك السياسية. أعرف فتاة اسمها محاسن فسخت خطبتها، لكن «عباس» خطيبها السابق يصر علي طلبها علي المحمول، وقد وصفت ما يفعله بأنه تلقيح جتت، لكن يصعب تخيل هذا المصطلح بصدد معارك سياسية وأحزاب ومعارضة .. وخلافه

بعد هذا يقول الخبر إن أمين الإعلام بالحزب الوطني كشف عن أن النظام المصري سوف يدرس أمر تعديل الدستور في مصر ولكن بعد مرور عامين، أي بعد الانتخابات الرئاسية المقبلة المزمع إجراؤها في خريف عام 2011. المشكلة الأخرى هي أين البرادعي بالضبط؟.. الكل اعتبره الفارس المسن القادم علي حصان أبيض ليغير أو -على الأقل- ليسمح بقدوم من يغير، ودعته أحزاب كثيرة إلي الانضمام لها كي يستطيع جواده اختراق غابة الشروط التعجيزية الخاصة بالترشح للرئاسة، لكنه قال إنه مكتف بالدعوة للإصلاح والدعوة لتغيير الدستور.. ومن الذي سيسمح لك بتغيير الدستور كي تزيحه عن الحكم؟

نكتفي بهذا الحديث ونتكلم عن الأخ ثورو الذي لم يبتعد كثيرًا عن الحكومات علي كل حال

إن اسم ثورو يرتبط لدى الغرب بأشياء كثيرة، منها حياة الخلاء والعزلة ورفض الحكومات عامة

ولد في ولاية ماساتشوستس عام 1817، ولم يكن في بداية حياته شيئًا خاصا سوى أنه انضم لجماعة «رالف والدو إميرسون» الشهيرة من الكتاب والمفكرين في نيو إنجلند، حيث استطاع بالتدريج أن يبلور رؤيته للعالم

اهتمامه بالطبيعة كان بالغًا، وقد عاش لفترات طويلة يزرع الأرض ويفلحها ويأكل مما تنتجه، وكتب كتابًا جميلاً عن العودة للطبيعة اسمه «الغابة». في العام 1848 كتب مقاله الطويل الشهير «العصيان المدني» الذي يتساءل فيه عن علاقة الفرد بالحكومة وعلاقة الحكومة بالفرد

كتب يقول: «ليست الحكومة في خير صورها سوى وسيلة .. بيد أن معظم الحكومات ليست وسائل» إن معظم ما أنجزته الحكومة الحالية تحقق بسبب الأخلاق الحميدة التي يتمتع بها الشعب الأمريكي، وليس لكفاءة الحكومة وبراعتها، وكان بوسع الناس إنجاز ما هو أكثر لو لم تتدخل الحكومة أحيانًا

يقول: «الأبطال والمتحمسون والشهداء والمصلحون يخدمون الوطن بضمائرهم، لذا يضطرون للصدام مع الحكومة، وهكذا تعاملهم الحكومة عمومًا كأعداء.... من واجب المواطن أن يقاوم الشر في الحكومة إلي حد عصيان أوامرها علنًا وعمدًا. من خصائص كل الحكومات أن تقاوم كل تغيير وكل إصلاح وتسيء معاملة من ينتقدونها»ـ

ثم يتمادى في جرأته فيطالب مواطنيه بعدم دفع الضرائب، ويقول: «في ظل الحكومة التي تسجن كل فرد ظلمًا، يكون المكان الطبيعي للإنسان العادل هو السجن». ويقول عن الأغنياء إنهم باعوا أنفسهم للمؤسسات التي يعملون فيها: «كلما زاد المال قلت الفضيلة لأن المال يقف دومًا بين الرجل وأهدافه». «الحكومة نصف ذكية.. جبانة كامرأة تحرس ملاعقها الفضية .. إنها لا تعرف أصدقاءها من أعدائها، ففقدت ما بقي في نفسي من احترام لها»ـ

ثم ينهي مقاله الطويل قائلاً: «لكي تكون الحكومة عادلة بالمعني الحرفي، يجب عليها أن تحصل علي موافقة المحكومين وبركتهم، ولا يمكن أن يكون لها حق مطلق علي ممتلكاتي إلا بقدر ما أوافق عليه. أتمنى حكومة عادلة مع كل الناس، تعامل الفرد باحترام .. الحكومة تعيش للأفراد ولا يعيش الأفراد من أجل الحكومة .. يجب أن يكون ضمير المرء هو روحه المرشدة العليا»ـ

انتهي المقال الذي نشر في كتيب صغير، وغاص فلم يشعر به أحد. فجأة عاد للحياة بقوة عام 1907 عندما قرأه في جنوب أفريقيا محام هندي نحيل ضامر اسمه «غاندي». كان غاندي وقتها يحلم بمحاربة البريطانيين علي الطريقة التي نعرفها: رصاص وقنابل وتفجير عربات قطار.. هنا قرأ الكتاب، فراح يبحث عن كل حرف كتبه ثورو، وعرف كل شيء عن حياته. وهكذا خرج للوجود مبدأ «الصلابة من دون عنف» أو ما أطلق عليه غاندي اسم «ساتيجراها» ومعناه «القوة الناجمة عن عدم العنف». هكذا قاوم غاندي البريطانيين في جنوب أفريقيا عن طريق العصيان والامتعاض لا أكثر .. وفي النهاية وافق الجنرال البريطاني «سموتس» علي كل مطالب الهنود. يقول غاندي: «العصيان المدني يختلف عن مخالفة القانون، لأنه يتم علنًا وبعد فترة إنذار كافية .. يجب ألا يلجأ الناس لهذا الحل إلا عندما تخفق كل الوسائل الأخرى كالشكاوى والمفاوضات والتحكيم في دفع الظلم». عندما عاد غاندي للهند صار أسلوب «ساتيجراها» سلاحًا ذا قوة ماضية. يقول غاندي: «حتي أكثر الحكومات استبدادًا لا يمكن أن تستمر دون موافقة المحكومين»ـ

وفيما بعد استخدم الملونون في جنوب أفريقيا ذات القواعد ضد حكومة ستريجدون

ولد «ثورو» في يوليو منذ نحو مائتي عام، لكن أفكاره ما زالت جديرة بالتأمل والمناقشة بلا شك. المهم ألا يضع المصحح حرف «ألف» بعد اسمه، وإلا لن يكون هناك مقال قادم