أعرف جيدا أنه أشعل لفافة تبغ وراح ينظر لليل الصامت خارج الشرفة..
أعرف أن ملايين الخواطر تزاحمت في ذهنه وهو يتأمل لفافة التبغ.. الطرف الذي يتوهج ثم يخبو.. يتوهج ثم يخبو.. هذا تأثير قريب من التنويم المغناطيسي..
علي الأرجح عاد إلى الغرفة هنا.. أعرف أنه جلس إلى مكتبه وفتح الدرج.. بحث في مجموعة الأوراق حتي وجد واحدة لم يخط عليها..أعرف أنه بحث بين الأقلام عن واحد يصلح.. هذا جف حبره. هذا تقيأ حبره.. هذا مكسور.. أخيرا وجد واحدا وخط علي الورقة أول خط..
لابد أنه توقف هنا.. لابد أنه نظر للشرفة.. وجد أنه من السخف أن يكتب كل شيء, والرسالة المعتادة بدت له سخيفة مبتذلة..
لهذا كوّم الورقة وألقاها علي الأرض..
أعرف أنه أخرج ألبوم الصور وراح يقلب الصفحات.. صورته وهو طفل سعيد غافل, كل مشكلته في الحياة أن أباه لم يبتع له الآيس كريم الذي كان يتوق له. صورته في سن المراهقة مع أصدقائه إلى جوار سور المدرسة.. صورته وهو شاب في الجامعة.. صورته مع هالة.. صورته معي وهو يناقش رسالة الماجستير عن إرهاصات الواقعية في المدرسة الرومانسية..
أعرف أنه أشعل لفافة تبغ أخرى.. لا يوجد وقت كاف للإصابة بسرطان الرئة. لابد أنه راح يتأمل حلقات الدخان المتصاعدة.. لابد أنه تذكر أنه لم يستطع قط إخراج حلقات دخان من فمه مهما حاول.. لابد أنه ابتسم للفكرة..
أعرف أنه أنهى اللفافة فدفنها في قدح القهوة.. ما تبقى منها..
أعرف أنه فتح الدرج من جديد وأخرج المسدس, وتحسسه بأنامله. منظر الرجل الجالس الى المكتب ومسدس في يده يذكره بصورة مدير المصرف الذي أفلس بسبب الاختلاس أو المقامر الذي خسر كل شيء, كما نراهما في القصص الغربية.. لابد أنه ابتسم للفكرة مرة أخرى..
أعرف يقينا أنه ألصق الفوهة بصدغه وأنه شعر بالمعدن البارد القاسي هناك يضغط علي شريانه.. أعرف أنه تحسس الزناد.. أنه أغمض عينه.. أنه ضغط الزناد القاسي..
*******