قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Friday, October 29, 2010

مما سبق - أنا على أخويا وابن عمي

في فترة ما من حرب العراق، كانت المقاومة شيعية أساسًا قبل أن يقرر الصدر أن يحقن دماء رجاله، وكنت في تلك الآونة أتلقى سيلاً من الرسائل على بريدي الإلكتروني خاصة بإحدى مجموعات الأخبار، وبالطبع كان اسم المرسل مستعارًا لكنه اسم (أصولي) جدًا.. كان محتوى الرسائل واحدًا تقريبًا .. الشيعة كفرة .. الشيعة خارجون على الملة .. البرهنة بالأدلة على فساد عقيدة الشيعة .. كل رسالة طويلة جدًا تحتاج إلى ساعة في قراءتها، ومعها عدد لا بأس به من الصور تظهر الشيعة وهم يمزقون أجسادهم بالجنازير أو السياط في الاحتفالات .. أو أحد الأئمة يقبل طفلاً في شفتيه مع تعليق يقول : الشذوذ الجنسي ضرورة عند الشيعة .. الخ ...

يومًا بعد يوم تنهمر على الرسائل، ويمتلئ بريدي عدة مرات في اليوم .. هذا رجل كرس حياته لقضية واحدة يهون من أجلها كل مرتخص وغال ألا وهي أن الشيعة (موش تمام)..

في النهاية لم يعد الأمر محتملاً فكتبت ردًا على ذلك المخبول بحيث يُتاح للجميع في ذلك المنتدى قراءته .. قلت في هذا الرد: "عزيزي .. في الآونة الحالية التي ينتهك فيها الأمريكيون أعراض العراقيين، ويذبح شارون الفلسطينيين، لا يبدو أن هناك طرفًا قادرًا على القتال راغبًا فيه إلا حزب الله في لبنان وشيعة العراق، أي أن الشيعة هي الفئة الوحيدة التي تحارب الأمريكان والصهاينة في العالم الإسلامي كله .. فهل تعتقد بحق أن هذا أنسب وقت لإثبات أنهم كفرة فاسدو العقيدة ؟.. معنى كلامك أن من يحارب الأمريكان والصهاينة اليوم كافر.. وهي لعمري رسالة مريبة .. أنا لا أعتقد أنك عميل للمخابرات المركزية .. فقط أنا أعتبرك مجرد متعصب أحمق آخر ."

لم يرد الأخ المتحمس وأعتقد أنه كان ذكيًا، لأني أعددت له ردًا موجعًا على رده الذي لم يبعث به .. فقط تلقيت بضعة خطابات أكثرها من البحرين تؤيد ما قلت ، ولا أحتاج لذكاء كبير كي أعرف أن مرسليها من الشيعة.. ودارت الأيام ثم بدأت سلسلة خطابات تتهم الوهابيين بكل شيء ممكن ..

الحقيقة أن هذا أثار دهشتي .. أولاً ليس هذا أنسب وقت لتصفية الخلاف بين المذاهب .. ليس والآنسة الحامل (لندي إنجلند) تجر عراقيًا عاريًا بحبل في عنقه . .. ثانيًا كنت أحسب أن الشيعة مسلمون وهذا كاف لجعلهم (من رجالنا) حسب تصنيف الأخ ابن لادن للفسطاطين، لكن هذه الخطابات تشعرك بأن الشيعة يعتنقون الديانة الهندوسية أو يعبدون النار ..

"فلنذبح بعضنا أولاً حتى لا يبقى سوى من هم على حق.. بعد هذا يصير القضاء على العدو سهلاً".. هذا هو شعار العرب الدائم الذي يصطدم مع بديهيات الاستراتيجية التي جعلت هتلر يتحالف مع الاتحاد السوفييتي ضد بولندا، ومع بديهيات الذكاء الشعبي الفطري الذي قال : "أنا وأخويا على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب .." فصارت الاستراتيجية هي: "أنا على أخويا وابن عمي والغريب"..

ليس التعصب داء عربيًا صميمًا، فقصص المذابح التي جرت بين الكاثوليك والبروتستانت في أوروبا تجعل قراءة تاريخ القرون الوسطى أقرب لقراءة قصص الرعب، وحتى في مصر تجد أن العلاقة بين الأرثوذوكس والبروتستانت غير طيبة على الإطلاق.. فإذا نحيت الدين جانبًا وجدت أن (الهوليجان Hooligans) البريطانيين يذبحون منافسيهم في مباريات كرة القدم حتى اشتهرت بريطانيا بأنها موطن التعصب الكروي .. أقول إن التعصب داء عالمي لكن هذا لا يعني أن نطالب بنصيبنا العادل منه ونتمسك به .. بل إننا نطالب بنصيب يفوق نصيب باقي الدول ..

عندما غزا صدام الكويت أبديت رفضي للموضوع أمام صديق تونسي، فاتهمني ومصر كلها بأننا عملاء لأمريكا .. ثم سألني في اشمئزاز: "حرام عليكم ..كيف ترسلون ألف طفلة (فتاة) للترفيه عن الجنود الأمريكيين ؟". جن جنوني غيظًا وقلت له إنه لو كان المتكلم مجنونًا فليكن المستمع عاقلاً.. هل تتخيل لجنة من الحكومة تطوف بالشوارع تختار من البنات أولئك اللاتي يصلحن لإمتاع الجنود الأمريكيين ؟.. و"متخافش يا حاج .. بنتك حتنام مع العساكر الأمريكان كام يوم كده وبعدين ترجعلك صاغ سليم".. تشاجرت معه لإهانته أولاً ولغبائه ثانيًا .. ثم فوجئت بأن صحفنا تروج ذات الإشاعة لكنها جعلت الفتيات بنات دولة عربية أخرى تؤيد صدام .. والمفترض أنهن يذهبن للتسرية عن الجنود العراقيين . وفي الحالتين الكل يصدق .. على كل حال يعتبر التشهير الأخلاقي والديني من الأسلحة العربية المحببة شائعة الاستخدام بدءًا بمستوى باتعة التي تشنع على سلفتها، وانتهاء بمستوى الدول ذاتها .. إن خصمك إما أن يكون كافرًا أو شاذًا جنسيًا أو – على الأقل – يبيع زوجته لمن يدفع أكثر ..

عندما وقعت الواقعة وسقط العراق رحت أرسل صور الدمار والضحايا لمن أعرفهم على شبكة الإنترنت.. ما ذنب أطفال العراق الذين وضعوا بين مطرقة الغزو الأمريكي وسندان طاغية غبي مغرور ؟.. يتلقى صديقي الكويتي هذه الرسالة فيرد علي في برود وقسوة قائلاً: "أطفال العراق حق يراد به باطل .. تذكر أن هؤلاء القوم تركوا صدامًا يحكمهم .. فهم إذن يستحقون ما يحدث لهم .. !" يا سلام !.. كأنه كان بوسع العراقيين الضغط على زر ليزول صدام لكنهم لم يفعلوا .. وهل تستطيع أنت يا صاحبي التخلص من حاكمك إذا أردت هذا ؟
لكن صديقي الكويتي مصر على موقفه في ثبات .. يرى أن مقاومة الأمريكيين عمل غير أخلاقي، وتشعر أنه يتمنى أن يرى كل عراقي يقتل وكل امرأة عراقية تغتصب وكل طفل عراقي يذبح .. ليكن .. لقد احتل صدام بلده ورأيه مبرر إلى حد ما .. إن دمه يغلي بالحقد فلا ألومه كثيرًا ..

قلت له إن رامسفيلد يتحدث عن سوريا في تحرش واشتهاء، فقال لي بنفس الفتور: "فليحتل سوريا !.. إن البعث هناك ليس أفضل حالاً من بعث صدام !!"

هكذا يتمنى أن يسقط بلدان عربيان شديدا الأهمية في قبضة الأمريكان لمجرد أن هذا يرضي لذة الانتقام .. وهكذا اتهمت بالسذاجة أو العمالة مرتين: عندما لم أقف مع صدام وعندما لم أقف ضد العراقيين ..

قصة أخرى وقعت عندما بدأ بعض الإرهابيين المتحمسين في ذبح السياح .. كنت خارج مصر وقرأت الخبر المروع في الجرائد، فأخبرت به زميل عمل مصريًا ممن يؤمنون أن سبب مشاكلنا كلها هو أن الرجال لا يطيلون لحيهم ويسمعون الأغاني .. قال في فرح وحشي: "فلتذهب السياحة للجحيم .. هي لا تقدم شيئًا للبلاد إلا النساء العاريات ".. حاولت أن أكلمه عن أن مصر لا تملك إلا موردين يتيمين للدخل هما السياحة وقناة السويس، وبالتأكيد يأتي السياح لبلادنا لأغراض أخرى غير عرض أجسادهم العارية أمام شبابنا، وأنه ليس من العدل ولا الدين في شيء أن تسمح للسائح بدخول البلاد ثم تذبحه، لكنه كان يرى أنني غافل عن الحقائق ولا أفهم شيئًا .. وبشكل ما شعرت بأن منطقه يشبه منطق الأطفال .. يطلب لعبة فإذا لم ينلها قام بتحطيم كل ما لديه من ألعاب .. علي وعلى أعدائي يا رب..

يبدو لي أننا العرب ميالون لبدء المعارك الخطأ في الوقت الخطأ .. لا دور للأولويات في حياتنا، كما أننا نملك استعدادًا هائلاً للتعصب .. صحيح أننا لا ننفرد به، لكننا حريصون على أن نستعمله بكفاءة ..

الحقيقة أن الحكام إفراز طبيعي لشعوبهم، وكيفما تكونوا يول عليكم .. مهما تبدل الحكام فلن يأتي إلا حكام هم النبت الطبيعي لهذه التربة العقلية التي تفتح النيران على الشيعة ونحن أحوج ما نكون لهم، وينصرون صدامًا وهو ظالم ويتخلون عن الشعب العراقي مظلومًا، ويرون أن ذبح السياح عمل بطولي ..

العقل العربي يحتاج لإعادة تثقيف والخروج من هذا المستنقع الضيق المتعصب الذي يحبس نفسه فيه، ولكن أين نبدأ ومتى وكيف ؟..