قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Friday, November 5, 2010

مما سبق - لأنه الأستاذ



قبل أن أخط حرفاً في هذا المقال، يجب أن أعترف بأن العبد لله ليس متخصصاً في السينما ولم يدرسها إلا بشكل هاو من خلال مشاهدة الأفلام، وقراءة كل ما وقع في يده عن هذا الفن الرائع. لكني أحسب أن عندي عقلاً يميز، وأعرف الزبد الذي يذهب جفاء وما ينفع الناس. أعرفه وإن كنت لا أعرف غالباً كيف أقدم الأخير.

السؤال الذي أريد أن أسأله هو: هل العبقري (يوسف شاهين) عبقري حقاً ؟.. لنضع السؤال بشكل أدق: هل (يوسف شاهين) المؤلف Auteur قد أضاف شيئاً ليوسف شاهين المخرج؟...سؤال أمين لا أبتغي منه إلا الظفر بإجابة أمينة .. ويجب أن أذكر القارئ الكريم بأنني أعتبر (الأرض) أعظم فيلم مصري على الإطلاق، ولم أستطع قط أن أرى لقطة واحدة من (باب الحديد) من دون أن أتابع الفيلم حتى كلمة النهاية.

يكتم البعض ابتسامته الخبيثة ويهمس البعض في ضيق: "هي ذي اللعبة التقليدية .. اقذف العمالقة بالحجارة ليُذكر لك أنك يوماً قذفتهم .. جربها الكثيرون مع (العقاد)، وجربها (العقاد) نفسه مع (شوقي) في مستهل حياته حين فتح عليه مدافع الديوان..". لكني أكرر أن هذه هي المشكلة فعلاً.. لا أحد يصدق أو يقبل أو يسمح بأن يكون (يوسف شاهين) أقل من المكانة التي رسمناها له..ومن هنا يأتي السؤال: هل الامبراطور بكامل ثيابه أم أننا نخشى الاعتراف بعكس ذلك كي لا نبدو حمقى ؟ لماذا؟.. لأنه الأستاذ..

لقد قدم شاهين فيلمه الأخير (إسكندرية نيويورك) وفيه تحدث عن الأمور التي تروق له كالعادة بدءاً بـ(فريد استير) والدراسة في أمريكا الخ، تملق تلك الأخيرة إلى حد لا بأس به، لكن هذا الصنم القاسي لم يتقبل القربان، ورأى أنه دون المستوى طبقاً لكلمات لجنة التحكيم في مهرجان نيويورك .. والنتيجة..سوف تبدأ أعنف حملة ممكنة تتهم رفض المهرجان لفيلم شاهين الأخير بأنه عمل عنصري قذر، وأنه يعبر عن الوجه القبيح الحقيقي لأمريكا. ولن يجرؤ أحد أبداً على مراجعة إمكانية أن يكون الفيلم رديئاً فعلاً. لماذا ؟.. لأنه الأستاذ..

هذه هي مشكلة يوسف شاهين.. إنه تحول إلى Cult غير قابل للمراجعة أو المناقشة. وحتى الكومبارس الذي يقدم للبطلة كوب ماء في أحد أفلامه يعتبر نفسه أستاذاً من أساتذة التمثيل، ويقول في وقار وغموض:" أفضل أن يرى الناس العمل ليحكموا بدلاً من أن أتكلم عنه". وغدا من التقليدي في كلام أي ممثل أن يحكي عن (تجربة التطهير أو الميلاد الجديد) التي اجتازها بالعمل مع شاهين. 

يصر شاهين على أنه مفكر .. وهنا أخطر المآخذ التي لا أدري كيف نقبلها في أفلامه .. إلام يفضي المسار الفكري لفيلم (المهاجر) ؟.. رؤية مختلة لقصة سيدنا يوسف مع تنويه واضح إلى أن (الأرض لمن يستطيع أن يزرعها) ولا أعرف إلام يفضي بنا هذا ؟.. ماذا عن الرسالة المضطربة في (وداعاً بونابرت) حول أن العلاقة المثلية بين جنرال فرنسي وشاب مصري هي الطريق الوحيد إلى امتزاج الحضارات والسلام ؟. حل مشكلة التطرف في (المصير) هو أن نرقص أكثر.. وقد نشب خلاف صحفي شهير عندما عرض (حدوتة مصرية) لأنه تجاهل كون الفكرة ليوسف إدريس .. قال يوسف إدريس إن شاهين جاءه بفكرة ساذجة عن ولد اسمه (آدم) وبنت اسمها (حواء) يلتقيان للحب فيبرز لهما رجل غليظ يحمل شومة المفترض أنه (المجتمع).. طبعاً لم يكن إدريس مستعداً لسماع المزيد من هذا الكلام، وقدم فكرته العبقرية التي تدور حول محاكمة إنسان داخل ضلوعه، بسبب إحباطه للطفل بداخله.. وكيف تحول هذا الطفل إلى جلطة تسد شرايينه التاجية. يمكن لنا إذن أن نتصور الفيلم لو خرج بصورته الأولى !

في أفلام شاهين يتكرر ذلك الخلط الساذج بين المتصوفين ورواد الموالد والأصوليين، فهو – كالخواجات تماماً – يضع كل هؤلاء في سلة واحدة تمسك بالدف وتتطوح ذات اليمين واليسار، برغم أنه لا يمكن الجمع بين المتصوفين والأصوليين أبداً، فكلاهما يرى الآخر خارجاً عن الدين. وقد اتهمه د. (عاطف العراقي) أستاذ الفلسفة الشهير بأنه اخترع (ابن رشد) لا وجود له.. ماذا عن الإرهابي الذي يضع أيقونة القنبلة على بريده الإلكتروني ؟... لكن أحداً لا يعلق .. لماذا ؟.. لأنه الأستاذ..

أما عن الجانب الأخلاقي للأفلام فهناك ميزانان في الرقابة .. ميزان للعامة وميزان لشاهين .. هكذا تصفح الرقابة في تسامح أسطوري عن علاقات الحب المثلية التي لا يخلو منها فيلم من أفلامه تقريباً، ولعله تملق لتيار العولمة، وأراهن أنه يفتخر في مناقشاته الخاصة في الغرب بأنه أول من تجاسر على تقديم علاقات كهذه لمجتمع متخلف. تصفح الرقابة عن العلاقات الأسرية المختلة في كل فيلم..عن الاشتهاء الواضح من الأم لابنها في (الآخر)، وتصفح عن اشتهاء الأخت (صفية العمري) لأخيها في (المهاجر)..حتى زوجة الفيلسوف (ابن رشد) لم يرحمها .. إننا نرى في عينيها اشتهاء كاملاً للفتى الفرنسي الذي جاء يتتلمذ على زوجها. وتصفح عن مشاهد كاملة في (إسكندرية نيويورك) لو قدمها سواه لعلقوه مشنوقاً في ميدان (طلعت حرب).. ما معنى هذا ؟. نظارة هيبة العبقرية وضعت على عين الرقيب فلم يعد يرى... لماذا ؟.. لأنه يتعامل مع الأستاذ..

دعك من الميزانسين المحفوظ المكرر في أفلامه. فالناس لا يتكلمون بهذه الطريقة، كأن يقف أحدهم وراء جدار ويطل من نافذة فيه ليكلم الآخر الواقف في الناحية الأخرى. بالإضافة لهذا يبرهن يوسف شاهين عن أنه لا يفهم شيئاً عن الأسرة المصرية المتوسطة التي يقحمها في كل أفلامه. وهو يعتبر ذروة المصرية أن تقول (حنان ترك) لأمها وهي ترقص (خطبني تحت المطر) فتقول أمها دامعة العينين: (مش حأقول رأيي غير لما أشوفه)..

أما عن التمثيل فهو لم يكف يوماً عن خنق موهبة ممثلين عظام مثل (محمود حميدة) وآخرين ليتحركوا في القيود الضيقة التي صنعها لهم، كما لم يكف عن اكتشاف وجوه لا علاقة لها بالتمثيل مثل (هاني سلامة) و(أحمد محرز) و..و... لماذا يقحم داليدا لمجرد أن يثبت أنه يستطيع ؟.. يقول الناقد (سامي السلاموني): "اختار (شاهين) للفيلم (سعاد حسني) ثم (محسنة توفيق) ثم (فردوس عبد الحميد) وفي النهاية استقر على (داليدا).. كيف يصلح لسعاد حسني ما يصلح لداليدا ؟.. معنى هذا أن يوسف شاهين لا يؤمن بقيمة الممثلين، وهو يرصهم كقطع الشطرنج في أفلامه ليقولوا أي كلام". لماذا ؟.. لأنه الأستاذ.. 

وترى الفيلم أي فيلم فلا ترى معجزة تمثيلية ما.. إن الممثلين متخشبون مسجونون في قيود فولاذية فرضتها شخصية شاهين القوية عليهم، ولا أحد منهم يجرؤ على حركة زائدة .. الكلام يخرج على طريقة (عمر الشريف) في (صراع في الوادي) من شفة عليا مسدلة متصلبة، وكأنه طلقات الرصاص مع نغمة ناعسة ملول لا داعي لها، والمقاطع مدغمة، والتعبير على الوجه يأتي بعد إنهاء الكلام لا معه. وأشك في أن كل من مثل معه عاش أقسى لحظاته وإن كان لا يعترف بهذا. 

ماذا عن الحوار الركيك الذي يصر على كتابته على غرار (أمريكا إلي محدش يقدر عليها) ؟.. وهو ينهي المصير بعبارة بالغة العمق (الأفكار لها أجنحة محدش يقدر يحبسها).. ماذا عن الإصرار على فريد أستير الذي لم يكن قد عرض له أي فيلم في مصر عندما انتشرت الكوليرا في (اليوم السادس).. ؟..يقول سامي السلاموني: "كيف عرف القرداتي كل هذا عن (فريد أستير) ما لم يكن قد سافر إلى نيويورك ليحضر عرض فيلمي (في المدينة) و(الغناء تحت المطر) ؟". 

لكننا نعرف السبب .. لقد قدم شاهين هذا فقط لأنه يحبه.. كما يمكن أن يقدم فيلماً كاملاً مثل (إسكندرية كمان وكمان) ليثبت أنه راقص بارع و(إسكندراني جدع).. لماذا ؟.. لأنه الأستاذ..

كما قلت في بداية المقال، لا اعتراض لي على يوسف شاهين المخرج .. بل إنه من أعظم مخرجينا وأكثرهم سيطرة على تكنيك أفلامه. لكن – كما يقول سامي السلاموني - ماذا يبقى من أفلامه إذن لو نزعنا التكنيك ؟. وطبعاً لا اعتراض على التصوير والمونتاج لأنه يعمل مع الطاقم الأفضل دائماً... 

المخرجون من عينة محمد خان وصلاح أبو سيف وخيري بشارة وداود عبد السيد قدموا أساليب فريدة ناضجة لكن من دون ادعاء، ولم يتهمهم أحد بالعبقرية، كما إنهم – على قدر علمي – لم يتلقوا قدراً زائداً من التدليل..

بالنسبة لي يوسف شاهين هو العبقري الذي قدم باب الحديد والأرض ... هو المخرج فقط لكن لي ألف اعتراض على المؤلف .. فما رأيك أنت ؟