قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Friday, January 7, 2011

ليلة شتاء - 1


أنا لا أحب مهنتي.. 

كلما مررت بموقف مشابه، دارت ذات الفكرة في ذهني. أنا لا أحب مهنتي.. قليل من الناس ممن عرفت يحب مهنته، ما لم يشعر بأنها رسالة مقدّسة كما يفعل المدرّس أو الطبيب أحيانًا، أو يجدها مجزية جدًا كما يفعل رجل الأعمال، أو هي فعلاً مهنة ممتعة، مثل ذلك الأخ راي هاري هاوزن الذي كان يصمم الوحوش في أفلام الرعب.. تخيل أنه يصحو من النوم صباحًا ويذهب لعمله ليصمم الوحوش حتى يحين موعد الانصراف!

أنا لا أحب مهنتي، لكني لا أعرف سواها. عندما يستدعونك لموقع الجريمة في الثالثة صباحًا، فإنك تلهث من البرد والتوتر وأنت تتوقع تقريبًا ما ستراه.. بعد كل هذه الأعوام ما زلت لا أتحمل منظر الجثث الممزقة وأمقت رائحة الدم..


اسمي عوني.. في الخامسة والثلاثين من العمر.. لا شك أنك عرفت مهنتي الآن.. أنا ضابط شرطة، وقد رأيت الكثير طبعًا، لكن هذا لا يعني تصريحًا بالبرود أو اللامبالاة..

هناك حوادث تزلزل وجدانك فعلاً، وتتحدى ثباتك المهني.. مثلاً عندما تجد الطريقة التي شوّه بها هذا السفاح ضحيته، والأسلوب السادي المريض الذي ترك به توقيعه، عندها لا بد أن ترتجف.. على أني كوّنت نظريتي الخاصة بعد أعوام: كل واحد يمكن أن يفعل أي شيء إذا أصابته حالة جنون وقتية، أو زال عنه قناع التحضر..

أما عن الطقس الرديء فموضوع آخر.. يصعب على المرء أن يتصور أن هذا عامل مهم في مصر، لكن بوسعي أن أخبرك بعشرات القصص التي رحنا نجري فيها التحقيقات في ظروف مستحيلة...

مثلاً قصة اليوم حدثت في عزبة خارج المدينة.. نحن قريبون من الأسكندرية جدًا لكن لن أعطي تفاصيل...

الآن يمكنك أن تتخيل ما يحدث.. أمطار غزيرة جدًا ..

في ليلة كهذه تتمنى فعلاً لو ظللت في فراشك، لكن جرس الهاتف يدق بإلحاح.. سوف تأتي السيارة لتأخذك حالاً.. هناك جريمة قتل..

أرتدي ثيابي، ومن تحتها بول أوفر ثقيل.. زوجتي تصر على أن أحترس من البرد، ولا أعرف كيف أحترس من البرد بينما كل ذرة في الكون باردة... احترس من الطريق.. كيف أحترس من الطريق وقد تحوّل لبحيرة، دعك من أن بسيوني هو الذي يقود وهو على درجة من العته!

في الطريق وسط حمّى الوحل والبرق الذي يشق السماء والمساحات، أعرف من بسيوني التفاصيل:
- "اتصلوا بنا وقالوا إن هناك رجلاً لا يعرفونه اقتحم العزبة، وقتل أحدهم بسلاح ناري.. ثم فرّ"

أقول له وأنا أرتجف من البرد:
- "ليست تفاصيل مفيدة جدًا.."

- "سوف نعرف كل شيء.."

رباه!.. أنا لا أحب مهنتي.. كلما تذكّرت أنني كنت في الفراش منذ نصف ساعة دافئًا أحلم... 

أنا من ضباط الشرطة الذين يقفون في الركن.. في الزاوية الضيقة.. لم أشتم ولم أصفع متهمًا في حياتي، ولم أدسّ قطعة بانجو في جيب أحدهم، ولم أستغلّ سلطتي قط حتى في الحصول على رغيف خبز. وفي الوقت نفسه أنا بالنسبة للمواطن العادي ضابط مغرور سادي يستغلّ سلطته بالتأكيد.. لا أستطيع لعب دور الوغد، لكنهم يصرون على أنني كذلك... 

باختصار أنا أنال النصيب الأسوأ من الجانبين..


السيارة تشق طريقها نحو تلك العزبة، وهناك عند ناصية الطريق يجلس ثلاثة من الخفراء يصطلون بالنار، وقد تدثّر كل منهم كرجل من الاسكيمو.. هناك خيمة من المشمّع لتحميهم من المطر الغزير، ويقف أحدهم ليصوب علينا نور الكشاف القوي، ويهتف:
- "لا يمكن الوصول إلى هناك يا باشا.. سوف يفيض المصرف.. بعد ساعة سيتحول هذا كله إلى نهر عميق ولن تعرفوا أين الطريق."

قلت له في عصبية:
- "صوّبْ هذا الكشاف على شيء آخر أولاً.. لا يوجد حل آخر.. لا بد أن يذهب أحد هناك.. لن ننتظر حتى يأتي الربيع!"

راح يصف لبسيوني طريقًا مختصرًا.. ثم دعانا لكوب شاي كنا سنرحّب به طبعًا لو كانت الظروف تسمح..

ننطلق من جديد نحو تلك العزبة، بينما خزانات السماء تفرغ ما فيها فوق رءوسنا..

يقول بسيوني في توتر:
- "هذه رحلة خطرة جدًا... ربما كان من الأفضل أن نعود.."

- "لقد تمادينا بما يكفي.."

لسان برق يشقّ السماء من جديد... أتفحص الهاتف المحمول فأدرك أن الشبكة قد غرقت في الماء وماتت... 

فجأة هتف بسيوني:
- "إننا قد دخلنا العزبة فعلاً.."

هذا صحيح!

صحيح أن العاصفة توشك على اقتلاع كل شيء، والأمطار تجعل الرؤية مستحيلة، لكن لا أعرف مكانًا آخر يمكن أن يكون مزروعًا بهذه الطريقة.. دعك من صوت خوار البهائم المذعورة في جرن ما، ونباح كلاب تعتقد أنها نهاية العالم، وذلك البيت المبني من القرميد...

هذه عزبة فعلاً..

ترجّلنا محاولين أن نتماسك فلا نسقط في الوحل، وأضأنا الكشافات بينما تحسّست مسدسي.. تبًا.. لقد ارتفع الماء لدرجة لا تصدّق حتى أنني فتحت باب السيارة فتسرّب للداخل..

اتجه بسيوني نحو الباب الخشبي العملاق ودق بيده الغليظة عدة مرات:
- "افتح!.. بوليس!"

لحظات وانفتح الباب بشكل شحيح، وظهر وجه رجل مسنّ ريفي يرتجف:
- "بسم الله الرحمن الرحيم"

الإضاءة ساطعة هنا لحسن الحظ... 

ومن خلفه ظهر وجه رجل ريفي وسيم متأنّق.. أعتقد أنه في الخمسين من العمر.. يلبس الجلباب الأبيض الفاخر المميز لأثرياء الريف. هذا سيد بلا شك.. سألته:
- "عزبة الليثي؟"

- "أنا محمود الليثي.. تفضلوا.."

عندما دخلنا إلى المدخل الأنيق المريح تنهّدنا الصعداء، وشعرت بحرج من أحذيتنا المتّسخة بالوحل، لكن نزع الأحذية ليس جميلاً من الناحية البوليسية..
- "خيرًا إن شاء الله؟"

قلت له في حيرة:
- "أعتقد أن هذه العبارة جديرة بنا.. أنتم اتصلتم وتكلمتم عن جريمة قتل."

نظر لي في دهشة.. ثم نظر للعجوز.. 
- "أعوذ بالله يا باشا.. لم يحدث شيء من هذا.."

بلاغ كاذب إذن؟ سيكون هذا أسخف مقلب شربته في حياتي.

لكن في الوقت ذاته كنت أنظر إلى الأرض.. إلى طرف الجلباب الأبيض.. هذه قطرات دم طازج. دم لم يتغير لونه بعد، ولا يمكنه إقناعي بأنه كان يذبح الطيور في هذه الساعة وهذا الجو..

البلاغ غير كاذب.. 
ويبدو أننا وجدنا القاتل بسرعة كذلك!

.......

يُتبع