قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Friday, January 21, 2011

عملية الخازوق


لاحظ أحمد فؤاد نجم أنه في كل مصيبة حقيقية تحلّ بمصر يعود سيد درويش للحياة من جديد ويغني، ويقول نجم بطريقته العفوية: "يخرب عقلك يا شيخ سيد.. ده إنت طلعت بلوى مسيّحة واحنا مش عارفين!!".
اليوم بعد ما حدث في تونس يعود العبقري أبو القاسم الشابي للحياة. العبقري الذي مات في الخامسة والعشرين ينشد:
"إذا الشعب يومًا أراد الحياة.. فلا بد أن يستجيب القدر".

والعالم العربي كله يردد هذه الأبيات. يخرب عقلك يا شابي.. ده إنت طلعت...... إلخ.. إلخ. الأجمل أن كل شعب عربي شعر بأن الشابي ملكه هو.. لقد صودر الشابي لمصلحة الشعوب العربية ومزّقوا جواز سفره. 

أين أنت يا بسام؟ بسام الصديق التونسي من محافظة المونستير، الذي عرفته وتقاسمت المسكن معه في السعودية، ومنه عرفت الكثير جدًا عن المجتمع التونسي. كان شخصًا راقيًا متحضرًا، وإن كان من النوع الصادق ملتهب العواطف المندفع، وأعتقد أن هذه سمة عامة في كل شعوب المغرب العربي.

 حدثني كثيرًا عن "الزين" والقمع السياسي، وعن قيود العبادة الكثيرة؛ بسبب بعبع الثورات الإسلامية الذي يؤرّق النظام، وسلطة الشرطة المخيفة، وكلما حكى لي شيئًا من هذا كان يعود ويرجوني ألا أذكره أبدًا لأي واحد؛ لأنه يشعر أن في هذا إهانة لوطنه. غير أنه كان يحوي نهمًا شديدًا للتدين.. هذا النهم تمّ كبحه بقوة في وطنه، وعندما قمنا بالعمرة معًا كانت عيناه دامعتين كطفل، وبدا أنه لن يغادر الحرم المكي أبدًا، برغم اقتراب موعد رحيل الحافلة. "دعنا نؤدّ بعض ركعات خارقة للعادة! فلنصلّ بارشا!".


كاريكاتير: د.شريف عرفة


لقد انتهى بن علي، وصار من حق بسام أن "يصلي بارشا" كما يشاء، مع أشياء أخرى كثيرة.. الشعب التونسي أراد الحياة وتلقى طلقات الرصاص في صدره فحصل على ما أراد.  وأنا الذي حسبت أن عصر الثورات الناجحة انتهى؛ لأن كل الطغاة تعلّموا دروسهم من سقوط شاه إيران وشاوشسكو. ولا شك أن هذه الثورة يتم تشريحها ودراستها بعناية في كل وزارات الداخلية بالعالم العربي؛ لفهم أين حدث الخطأ بالضبط، فما حدث لا يجب أن يتكرر. ندعو الله أن تظلّ هذه الثورة من الشعب وللشعب، فلا يثب فوق الحصان الجامح واحد من ذوي النظرات غير المريحة الذين يطلون علينا من الفضائيات يوميًا. 

لم تمرّ أيام إلا وانتشرت جرثومة انتحار الشباب العاطل في عدة دول عربية، وهذا متوقّع.. الطب النفسي يقول إن أية حادثة انتحار مدوّية تميل إلى أن تكرر نفسها فيما يسمى Copycat suicide أو "ظاهرة فرتر". لكن كم من هذه الحيوات الغالية يمكن أن يزلزل الأرض ويهزها كما حدث في تونس؟ لمحت لافتة يحملها أحد المتظاهرين تقول: "الدم التونسي باهظ الثمن". هذه حقيقة فيما يبدو.. دم المصريين ليس رخيصًا، لكن لماذا صمتوا فيما هو أكثر وأفدح؟ أخبار الشباب الذين شنقوا أنفسهم كثيرة جدًا وشبه منتظمة. وماذا عن الفتى الصعيدي الذي قطع عضوه التناسلي يأسًا من الزواج، والعامل الأبدي الذي يحرق نفسه قبل كل عيد؛ لعجزه عن شراء لحم أو كعك عيد أو كراريس مدرسة لأولاده. بل كل مدمن مخدرات هو في الواقع حالة انتحار شنيعة. مئات الحوادث كل منها قادر على إشعال ثورة مماثلة. 

من الممكن فعلاً أن يتكرر السيناريو في مصر، لكنه سيكون عسيرًا على ما أعتقد؛ لأن مصر بلد مهم وحساس جدًا لأمريكا وإسرائيل، وأمريكا لن تجازف أبدًا بأن تجد رئيس الجمهورية المصري شيخًا ملتحيًا يتحدث عن تطبيق الشريعة، أو رجلاً بعوينات سميكة يتكلم عن الكمبرادور وديكتاتورية البروليتاريا. النقطة الثانية في مصر هي نظرية الغلاية المثقوبة التي تُخرج البخار من مئات الثقوب بلا توقّف.. حرية التعبير التي لا ننكر وجودها أخّرت الانفجار كثيرًا، وإن كانوا بحماقة يسدّون الثقوب غير عالمين أنها الشيء الوحيد الذي ينقذهم.

..................................

تذكّرت ضمن ما تذكّرت القصة الميلودرامية لسقوط شاه إيران في أواخر السبعينيات من القرن الماضي.. تلك القصة التي يجب أن يضعها كل الطغاة نصب أعينهم، لكنهم وضعوها بالفعل كدرس أمني يعرفون منه كيف يمكن تجنّب هذا المصير..

لسنوات بدا لنا أن نظام الشاه هو الحاضر والمستقبل.. لا شيء يمكن أن يزحزح هذا الرجل عن عرشه، ولا قوة تقدر على قهر نظام "السافاك" الرهيب. وساعد الإعلام في عهد السادات على جعلنا نعتقد أن إيران قوة عظمى حلّت مشاكلها منذ زمن. لم ينشر الإعلام المصري أي شيء عن الاضطرابات.. لكننا أفقنا ذات يوم لنسمع عن رجل يُدعى الخميني يعود من منفاه في فرنسا إلى إيران، وعن فرار الشاه بالطائرة مع أسرته وقسط كبير من كنوز البلاد. 

كان الشاه يعيش في قوقعة فاخرة لا يعرف أي شيء مما يدور من حوله، وبالطبع كانت بطانته لا تنقل له إلا الأخبار السارة. لكن المظاهرات زادت وتشعّبت.. أرسل خادمًا شيخًا للشارع ليخبره بما يدور هنالك، فعاد الخادم يقول له إنها اضطرابات يقوم بها بعض الشيوعيين. لم يطمئن وركب الهليوكوبتر ليرى بعينه.. هنا رأى الأعداد الغفيرة الغاضبة.. سأل الطيار: "هل كل هؤلاء ثائرون ضدي؟" لم يرد الطيار لكن الإجابة وصلت. وعندما عاد الشاه إلى القصر أصدر أوامره الصارمة بألا يدخل أحد جناحه إلا بعد تفتيش.. سأله ضابط الحراسة: "لا أحد؟".. أجاب "لا أحد". وكان الكلام واضحًا.. حتى الامبراطورة لا يحق لها الدخول عنده دون تفتيش. 

هنا يظهر التفكير البراجماتي الأمريكي بوضوح.. هذا الرجل لم يعد يمثل أهمية لأمريكا وبالتالي لا لزوم له، بل هو مضرّ في العلاقات القادمة. عندما فرت طائرة الشاه كان هذا بوعد من الولايات المتحدة بأنها مستعدة لاستقباله، ثم جاءته في أسوان رسالة تقول إنهم غير مستعدين لاستقباله؛ لأنهم لا يريدون حرجًا مع الحكومة الإيرانية الجديدة. أما عن أولاده الذين يدرسون هناك فلا بأس.. لكن بشرط ألا يلحق بهم هو أو أمهم حتى لا يتصور أحد أن الأسرة يلتئم شملها في الولايات المتحدة. طلب منهم أن يسمحوا له بالعلاج عندهم، فقالوا إنهم يشترطون تنازله عن العرش قبل الدخول. أخيرًا سمحوا له بالعلاج في الولايات المتحدة، حيث أجروا له جراحة سريعة، ثم طردوه قبل أن يشفى تمامًا، وغادر المستشفى من الباب الخلفي الذي يُخرجون منه المخلّفات!

كان معه محامٍ أمريكي يرافقه.. وقد فوجئ الشاه في نقاش مع هذا المحامي بالرجل يقول له: اسمح لي يا صاحب السعادة.. أنت صرت مخرّفًا! 

بهت الشاه لدى سماع قلة الأدب الأمريكية هذه ولم يستطع الردّ. ثم ذهب إلى بنما، فعرف هناك أن الحكومة الأمريكية تتفاوض على تسليمه للحكومة الإيرانية! 

مدير أعماله في سويسرا "بهبهانيان" اختفى فجأة ومعه سكرتيرته ومعهما ملايين الدولارات.. لم يكن الشاه قادرًا على عمل شيء سوى الصراخ في صمت.

لم تسمح له سويسرا بالدخول، برغم أن لديه فيلا ثمنها ستة ملايين دولار في سان موريتز، ولم تسمح له بريطانيا بالدخول ليعيش في مزرعته هناك، ولم تردّ فرنسا على طلبه أصلاً، عندما طلب أن يسمح له بالدخول للعلاج من السرطان اللمفاوي.

هكذا فرّ بالطائرة إلى القاهرة. هبطت الطائرة في المطار، فعانق السادات، وبكى على كتفه قائلاً:
ـ تصور أنهم كانوا يطلقون عليّ الاسم الكودي "عملية الخازوق"!

وهكذا انتهت حياته في مستشفى المعادي، وكل جزء من جلده يحمل لسعة نار أمريكية.. حتى وصيته الأخيرة بأن يُدفن بلا مراسم في مسجد الرفاعي لم تنفّذ؛ لأن السادات أصرّ على جنازة عسكرية كاملة.

الطاغية الذي ركب شعبه انتهى به الأمر إلى أن صار مطارَدًا لا يجد دولة تقبله، وأطلقوا عليه في الأوراق اسم "الخازوق". فرنسا كرّرت نفس السيناريو تقريبًا مع بن علي.. لكن لا أحد يتعظ ولا أحد يتعلم.