قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Wednesday, February 9, 2011

المرآة المظلومة


ما دامت مصر ولادة ... وفيها الطلق والعادة
حتفضل شمسها طالعة ... برغم القلعة والزنازين

أحمد فؤاد نجم
  
***************************

كنت دائمًا سيئ الحظ مع آلة التصوير الذاتي تلك.. تعرف بالطبع تلك الآلات التي تدخل فيها أنت قمرة صغيرة، وتسدل الستار، ثم تلتقط صورة لنفسك. في كل مرة كانت الصور تظهر قبيحة جدًا ومرعبة، من ثم أستشيط غضبًا من تلك الآلة الكذوب الملفقة.. وبدأت أشك في أنها آلة عميلة تتلقى تمويلاً من الخارج، حتى قال لي صديق: لماذا لا تقبل حقيقة أنك قبيح أصلاً؟

هذه هي النقطة.. نحن لا نطيق المرايا التي تظهر لنا دمامتنا؛ ولهذا اعتبر كثير من الناس قناة الجزيرة قناة عميلة لها أجندة خاصة، بينما كانت الحقيقة هي أن الوضع في مصر صار غاية في السوء والانهيار، بحيث لم يعد ممكنًا الكلام عن مصر إلا بطريقة الإعلام الرسمي: نيلها وهرمها وناسها وزعيمها.. إلخ... إلخ. تبقى أكيد في مصر.. أية محاولة للكلام عن مصر بصدق كان معناه الشتيمة..


مع بدء انتفاضة الشباب، أعترف أن دور الجزيرة تغيّر كثيرًا. صحيح أنها ما زالت مرآة ترينا كل شيء، لكن لا ننكر كذلك أنها تعاملت مع الحدث بأكبر قدر من التشفي غير المهني، كأنما الفرصة قد واتتها لتصفية حساباتها مع مصر، وفي لحظات كثيرة صارت طرفًا فاعلاً في الأحداث ولا تكتفي بالتعليق. إذن أنت بين نارين.. نار أنس الفقي التي تحاول إقناعك بأن المتظاهرين لا يتجاوز عددهم ألفًا، وقلة مندسة تتلقى وجبات كنتاكي من إيران! ونار الجزيرة المتشفية.. طبعًا لا شك في أنك ستختار الجزيرة، فهي تهيج لكنها لا تسخر من ذكائك، ولا تحاول إطعامك السريلاك. نحن ذهبنا إلى الجزيرة عندما لم نجد من يحترمنا في إعلامنا، وعندما أفردت قناة يفترض أنها خاصة ساعة كاملة لفتاة تعترف باكية بأنها تدرّبت على الشغب في الموساد لتهيّج المظاهرات، ثم عرفها الصحفيون جميعًا كما عرفوا أنها كاذبة تهوى التلفيق.. كيف تثق بهم وهذا أثر فأسهم؟ وعلى كل حال في bbc والعربية و cnn لم تكن صورتنا أقل سوءًا.
 الآن تعالَ معي نشاهد هذه اللقطات التي رأيناها بعد بدء الثورة، وقل لي ما دخل الجزيرة بها:

1- شاب يواجه وحده مجموعة من بلطجية الداخلية في شارع مظلم. الفتى يكشف عن صدره؛ ليُثبت أنه غير مسلح.. يقف في ثبات أمامهم. كان على ما يبدو يعتقد أن هؤلاء يملكون بعض الإنسانية أو أنهم يقرأون مكسيم جوركي، وسوف يرتمون في أحضانه باكين. النتيجة أنهم أطلقوا عليه طلقة واحدة أردته قتيلاً. بلا تردد ولا شفقة. هم أربعة وكان بوسعهم تمزيقه ضربًا لو أرادوا، لكنهم لا يضيعون وقتهم. لم أر هذا المشهد إلا في فلسطين المحتلة، وأعترف أن التعامل كان أقلّ وحشية.

2- سيارة الشرطة التي تندفع وسط زحام المتظاهرين في الأسكندرية لتعجن عددًا منهم تحت عجلاتها، وتواصل طريقها. هل هذه اللقطة ملفّقة من قناة الجزيرة؟

3- القناصة يتسلّون بإطلاق الرصاص على رءوس الشباب في ميدان التحرير. لاحظ أن هذا الرصاص تم شراؤه بنقودنا.

4- البلطجية حملة السيوف يتقدمون ليفرقوا المتظاهرين، في الوقت الذي يؤكد فيه رئيس الوزراء أن أي متظاهر لن يمسّ، والخيول تدوس الناس. صرخات الاستغاثة تصل من الممر الذي صار مستشفى ميدانيًا، وصديق لي يؤكد أن الجرحى لا يقلّون عن ألف. بعد ثلاثة أيام صار بوسعك كلما رأيت صور المعتصمين أن تدرك أن واحدًا من كل أربعة يضمد رأسه أو عينه أو يده. هذه الحكومة نجحت فعلاً في تحويل جهاز الشرطة إلى جيش محتل يقاومه الناس، ولأسباب كهذه نزع كل الضباط ثيابهم مساء جمعة الغضب، وارتدوا أي جلباب أو ثياب مدنية، وفرّوا إلى بيوتهم. يوم السبت دنا مني ذلك المجنّد الريفي الذي يلبس الجلباب، وطلب مني مالاً يعود به لقريته، وتوسّل لي أن أكتم سره ولا أفضحه. أعرف تقنيات الثورة المضادة المتبعة في أمريكا الجنوبية، لكني لم أكن أعرف أن الداخلية أرسلت بعثات كاملة لدراسة هذه التقنيات. عرفت هذا من محمد حسنين هيكل.

5- ثروات المسئولين بأرقامها المروعة كما نطالعها في وسائل الإعلام الغربية.. لم أعرف أنهم قلقون على المستقبل لهذا الحد. لو أنني سرقت لاكتفيت بمليارين أو ثلاثة، عالمًا أن هذا يكفي أحفاد أحفادي كي يكونوا أثرياء، لكن لماذا يسرق المرء أربعين أو سبعين مليار دولار؟ هذا يعني أننا لم نكن في حاجة للمعونة الأمريكية على الإطلاق، فهي ملياران في العام لا أكثر. لم أكن أعرف أن مصر هي أغنى بلد في العالم؛ حتى تتحمل كل هذه السرقة دون أن تتحوّل إلى قبائل رحّل وخيام.

6- وبرغم هذا وبرغم أنهم يعترفون في كل لحظة بوجود خلل وفساد، ما زالوا يتعاملون بهذا التعالي والقرف.. منذ شهر كانوا يرون أن مجلس الشعب أفضل المجالس الممكنة، ولجنة السياسات هي الحكمة مقطّرة. نفس تفكير المجند الذي داس المتظاهرين بالسيارة؛ لأنهم صراصير هو تفكير المسئولين الذين يتكلمون عن العيال المحتشدين في ميدان التحرير. استراتيجية "ما أنتم إلا عبيد حسناتنا" هي المسيطرة عليهم طيلة الوقت. فهل لقناة الجزيرة دور في هذا؟ أنت قبيح أصلاً يا أخي فلا تلُم المرآة..

أمس كنت أرى صور الشباب الشهداء على شاشة التليفزيون، عندما قال صديقي: تصوّر أن بعض هؤلاء كان يقرأ قصصك! شعرت بقشعريرة.. هم أولادي فعلاً.. هذه العيون الذكية الحساسة أغمضت للأبد كي يبقى الحزب الوطني..

حفظ الله شبابنا من الأمن والبلطجية ومن النظام العنيد، ومن المظليين الذين امتنعوا عن المشاركة في البداية، عندما كانت المشاركة تعني عصي الأمن المركزي والطلقات الحية والقنابل المسيلة للدموع، وغضب النظام.. ثم عندما بدا أن الطوفان جانح لا يقف أمامه شيء هبطوا بالمظلات ليدلوا بكلماتهم للفضائيات في حكمة، وجلسوا إلى موائد المفاوضات الفاخرة. من تآمر لبيع جريدة الدستور، ومن ظل يدلي بتصريحات دبلوماسية محايدة، بينما مكتبه في الميدان على بعد خطوات، فلم يزر المتظاهرين إلا عندما شعر أنهم الأقوى، ومن قال إن عيد الشرطة لا يصلح للتظاهر أصلاً، ثم رأيناه متحمسًا في المفاوضات..

الآن وأنا أكتب هذه السطور جاء خبر يؤكد أن مصرفًا يديره رئيس وزراء سابق قد فتح باب التحويلات للخارج لعملائه، من دون سقف، ومن دون ذكر أسباب، مع الاكتفاء بالحروف الأولى من اسم من يقوم بالتحويل. الآن أنت تفهم سبب إصرار الحكومة على الستة الأشهر تلك.. هم بحاجة إلى ترتيب كل شيء، وإخراج ما تبقّى في مصر من مال، وشراء القصور في سويسرا والضِّياع الريفية في إنجلترا.. السفينة ما زالت طافية وفيها مسامير وألواح خشب ممتازة.. حرام تركها للعيال "السيس" في ميدان التحرير. باختصار تأمين المستقبل لو حدث أن الرئيس تنحّى فعلاً بعد ستة أشهر، وهو ما أشك فيه. وبرغم هذا تصرّ ربات البيوت على أن مطالب الثورة انتهت، وعلى كل واحد أن يعود لبيته وكفايه قلة أدب. ثم هل سمع أحد في التاريخ عن ثورة مؤجلة تقسم إلى جزأين؟!