قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Tuesday, March 22, 2011

ليلة شتاء - 7


رسوم: فواز

قلت لك إنني لا أحب مهنتي..

ثقيلة متعبة مفعمة بالشك والكراهية والتوتر.. أنت ترى الإنسان في أسوأ حالاته كضحية أو كمجرم. لن تتضمن مهنتي بالتأكيد توزيع أزهار على الأيتام أو سماع آخر مقطوعة لشتراوس..

رحت والليثي نفتّش البيت..


في الظلام يصير هذا عملاً عسيرًا شديد التعقيد.. خاصة وأنك تخشى من يرافقك. لهذا كنت أجعله يتقدمني باستمرار والكلوبّ في يده.. هذا بيت ريفي عملاق فيه كل ما يخطر ببالك عندما تتخيل منزل ريفي موسر الحال. كانت هناك بعض الغرف يتسرب الماء من سقفها غير المحكم، وكانت هناك جثتان واحدة في المطبخ وواحدة في تلك الغرفة التي لا لزوم لها جوار الحمام..


لا يوجد شيء غريب.. باستثناء الجثتين طبعًا..

لكني شعرت بشيء من الراحة عندما دخلنا قاعة سقفها مكون من عروق خشب غير محكمة، فرأيت أن السماء ليست سوداء.. إنها رمادية.. ثمة بصيص نور بدأ يتسلل برغم أنه ليس كافيًا لترى.. قطرات ماء تتساقط، لكن لا شك في أن العاصفة تزول..

قال الليثي ببسمته الواثقة التي تربكني بشكل غريب:
- "أظن أننا رأينا كل شيء يا باشا.. هل يمكن أن نكفّ عن هذه الجولة؟"

فجأة سمعنا صوت جلبة.. كأن هناك من يتشاجر أو يصيح. بسيوني!

وقبل أن أفهم ما يحدث كان الليثي قد أطلق سبة واندفع يسبقني نحو مصدر الضوضاء، لأجد نفسي واقفًا في الظلام.. هرعت أحاول اللحاق به لكن خطواتي لا تألف هذا المكان، خاصة وهو يحمل الكلوبّ، والضوء الرمادي ليس كافيًا.. تعثرت وسقطت على الأرض..

باو!!

دوى صوت الطلقة في الصمت.. 

لقد هوجم بسيوني! هوجم بسيوني وأطلق الرصاص من مسدسه.. لا شك في هذا..

تبًا! من فعل ذلك؟

نهضت ممسكًا بمسدسي وفي حالة من التوتر كظهر قط مذعور.. لو لمسني أحد لأفرغت المسدس فيه بلا تردد..
أنا عاجز.. أنا ضعيف.. أنا واهن.. أنا في الظلام وحدي، والمسدس لا جدوى منه..

هل هناك من يصرخ؟

فجأة رأيت الليثي من جديد وكان يحمل الكلوبّ في يده.. الضوء يشعّ منه لكن لا أرى من وجهه إلا جانبه.. تأثير مخيف يذكّرك بلوحات رمبرانت. لاحَظ حالة الجنون الوقتي التي أمر بها، فراح يكلمني كأنه يكلم طفلاً:
- "هلم! اهدأ.. لا شيء.. لم يحدث شيء.."

تراجعت للخلف فارتطمت بشيء يبدو أنه مقعد.. ووجدت نفسي جالسًا وأنا مستمر في التصويب نحوه.

- "اهدأ يا باشا.. بشرفي كل شيء على ما يرام.. الأخ الذي يرافقك فقد أعصابه وحسب أن أولادي يريدون مهاجمته. أطلق رصاصة للتهديد في الهواء.. أنت تعرف كما أعرف أنه محدود الذكاء."

- "وأين هو؟ أين هو؟"

كنت أسأله بنبرة هستيرية تتعالى.. كأنني سأنتهي بالصراخ والبكاء على المسرح، لكن الوغد كان آية في الهدوء.. قال لي بصوت منوم قليلاً:
- "اهدأ قليلا.. أقسم بشرفي إنه بخير.. سأحكي لك حكاية.."

ظللت حيث أنا ألهث وأصغي، فقال في الظلام:
- "أعتقد أن الشيخ حكى لك.. حكى لك كل شيء عن لغز أسرتنا، وكيف يظل طيف الميت يحوم في المكان لعدة ساعات.. يحدث هذا بالذات في الليالي العاصفة. وهذه الليلة الرهيبة قرر أبو زبيدة أن الوقت مناسب ليتخلص مني.. إن أسرة السنهوري تريد الخلاص مني بسبب مشكلة حدود الأرض تلك.. أخبرني أحد المستأجرين بذلك؛ فقد رآه يحوم حول العزبة لكن العاصفة تجعل تبين أي شيء مستحيلاً، وكنت أنا من اتصل بالشرطة.. لم يكن هناك إطلاق رصاص لكني قلت ذلك في البلاغ لأضمن أن يصل رجال الشرطة.. ما حدث بعد ذلك -وما فهمته مؤخرًا- هو أن أبا زبيدة تسلل للدار واصطدم بالشيخ فقتله. كان من السهل عليه أن يخنق عنقه النحيل. ألقى بجثته جوار حوض الغسيل الموجود في ركن المكان، وأنت تعرف أن المطبخ واسع جدًا، مع الظلام؛ لهذا لم نر الجثة.. وما لم يعرفه أبو زبيدة هو أن الشيخ من أسرتنا!"

نظرت له في ذهول غير مصدّق، فالتمعت أسنانه البيضاء في الظلام:

- "نعم.. هو من الفرع المعدم من الأسرة، وهو يعيش معنا كخادم لكنه يمتّ لنا بصلة القربى. الآن يمكنك فهم لماذا ظل الشيخ موجودًا طيلة الأمسية.."

- "لكنكم قدمتم لنا الطعام.."

قال وهو يهتز بضحكة مكتومة:
- "بل هو الذي قدّم الطعام.. لم يدخل الحريم المطبخ!"

- "هل تعني أن الذي اندسّ معي تحت الأغطية.. هو.."

- "فسّر الأمر كما تشاء.. ربما كان حائرًا لا يعرف حقًا إن كان ميتًا أم لا.. وكان يريد أن يشرح لك.. ربما كان يريد التسلية.. لا يهم.. دعنا نعد لسياق قصتنا.. لقد اختبأ أبو زبيدة في تلك الغرفة ينتظر أن يظفر بي، وهنا فوجئ بذلك الشيخ ينقض عليه مسلحًا بسكين.. ربما كان الشيخ قد اكتسب قوة لحظية من الغضب، وربما لعبت المفاجأة دورًا.. عندما يهاجمك شخص قتلته فعلاً في الظلام فأنت لا تقاوم كثيرًا.. لقد مزّق الشيخ أبا زبيده وغطى جثته كيفما اتفق ثم غادر المكان.."

ثم جاء يحكي لي القصة مع حذف التفاصيل..

- "الصرخة التي أيقظتك من النوم كانت صرختي عندما وجدت الجثة.. وفهمت كل شيء.. والآن أنت عرفت ما حدث يا باشا.. القاتل قتل ثم قتله القتيل.. طبعًا لا يمكنك كتابة هذا في تقريرك، لهذا أرى أن تستغل الساعة القادمة في ترتيب قصة تقبلها الحكومة.. لا تفتش عن حقيقة أخرى فلا حقيقة سوى هذه.."

قلت ومخي يوشك على الانفجار من كثرة ما أريد السؤال عنه:
- "وأين بسيوني؟ بسيوني؟"

- "بخير.. قلت لك بشرفي إنه بخير.. الآن أرجو أن تهدأ وتعيد المسدس ودعنا نعد للأسرة.."

نهضت مترنحًا..

وقفت على الباب، فنظر لي الليثي باسمًا وناولني الكلوبّ الذي لا يكف عن الأزيز، وقال:
- "أرجو أن تحمله أنت.. إن ذراعي ليست على ما يرام."

نظرت له بشكّ.. ثم حملت الكلوبّ ومشيت في الممر متجهًا للغرفة التي كان فيها بسيوني والأسرة.. لا أعرف متى لاحظت أنه لا يمشي خلفي.. ذاب في الظلام..

هذا الزحام في الغرفة..

لماذا تصرخ المرأتان وتلطمان؟ لماذا يبكي سامي ومصطفى؟ من الراقد وسط هذه المجموعة؟

بسيوني يثب نحوي في هستيريا وهو يلوّح بمسدسه ويصرخ:
- "لم أتعمد ذلك.. أقسم بالله! لقد أفزعوني.. حسبت أنهم سينقضون علي.. أخرجت المسدس أهددهم، هنا فوجئت بالرجل الكبير يعود للحجرة ويحاول نزع المسدس مني.. لا أعرف كيف انطلقت رصاصة من المسدس وأصابته.. لم أتعمد ذلك!!"

الآن أمكنني أن أرى ذلك الراقد على الأرض وسط الباكين..

الليثي الكبير.. وثمة ثقب في جبهته..

لن أسأل عن ذلك الذي جاءني وحكى لي القصة وهو يحمل الكلوبّ.. لم يكن الليثي.. لم يكن هو بالضبط..

رباه! أنا أكره مهنتي.. أكرهها فعلاً!

-------------------------------

تمت