قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Friday, November 25, 2011

فليحفظ الله مصر


الآن صار هناك الكثير من الدم، وصار من العسير أن يطالب المرء بالتهدئة، برغم أنني كنت من الداعين لها بشدة، وكل مقالاتي بعد الثورة تشهد بذلك.. الشرطة جردتني من سلاحي، والمجلس العسكري جرّدني من منطقي

عيون تطير وجثث تجر على الأرض.. ماذا حدث؟ (عدسة أحمد جميل)ـ

كان هناك سوء تقدير منذ البداية.. سوء تقدير من أطراف اعتبرت أن الشعب أعطاها شيكًا على بياض بقبول كل شيء.. صور المصريين يعانقون الجنود ويلتقطون الصور على دبابة جعلتهم يعتقدون أن سحر الجيش خدّر المصريين، ولعل أحدهم ذكّر الآخرين بأن الفلاح يبتاع لابنه في العيد بدلة ضابط؛ لأننا شعب يعشق العسكر.. سوء تقدير ممن تجاهلوا مطالب ثورة يناير بالكامل، وها نحن أولاء بعد تسعة أشهر لم ننل أي شيء، بل ازداد كل شيء سوءًا.. سوء تقدير ممن ظنوا أنه يمكن خداع ثمانين مليون مصري.. سوء تقدير عندما كرّروا أخطاء مبارك حرفيًا، وعندما رأوا تنينًا ثائرًا فحاولوا أن يخدعوه وأن يضعوا اللجام على كتفيه.. سوء تقدير عندما سمحوا لإعلام مبارك المتنكر أن يضخّ أكاذيب لا أول لها ولا آخر ولا يمكن استنتاج أي شيء منها.. سوء تقدير عندما سمحوا للفلول السابقين الذين أفسدوها بأن يدخلوا الانتخابات ثانية.. سوء تقدير عندما لم يستردوا أموال مصر، وعندما لم يعاقبوا رموز العهد البائد ولا مبارك.. سوء تقدير عندما اتضح للجميع أنهم مبارك في ثوبه الجديد، وأنهم لم يعوقوا الثورة إلا لسبب واحد هو منع التوريث.. أي أنهم استغلوا الثورة في تحقيق شيء واحد يهمهم

تبدو الصورة واضحة لنا، لكن من الجلي أنه كلما اقتربت من الصورة قلّ الوضوح وصار تمييز الحق من الباطل والأبيض من الأسود أكثر صعوبة.. لهذا لا يدرك هؤلاء المأزق الذي هم فيه

والنتيجة هي ما يحدث الآن.. عصام شرف الذي جاء على أعناق الجماهير يخرج مغضوبًا عليه، وأعتقد أنه من الوارد أن يحاكم بتهمة قتل متظاهرين جديدة، والبطل الذي أحبه الناس إلى درجة تحويله إلى ملصق شعبي لم يعد أحد يحمل له أي مودة..  برضه يجب أن نتذكر هذه المعلومة: ليس اختيار الجماهير معصومًا دائمًا.. عصام شرف هو إفراز نقي من ميدان التحرير

بالنسبة لي كان كابوس كوابيسي وما زال هو أن أرى مواجهة بين الشعب وجيشه.. الجيش في مكانة عالية دائمًا ويجب أن يبقى كذلك.. نحن إذن لا نتكلم عن الجيش ولا نمسه بشيء ولا نجرؤ على ذلك، لكننا نتحدث عن المجلس العسكري

كان رأيي الثابت أن أي يوم تتأخر فيه الانتخابات ضدنا، وكنت أراقب في ملل وضيق المناقشات البيزنطية التي لا نهاية لها حول الدستور أولاً أم الانتخابات أولاً، وحول نتيجة الاستفتاء والتعديلات... إلخ. وهذه المكلمة المفتوحة ليل نهار على كل القنوات الفضائية.. هذا جدل يمكن أن يدوم حتى تقوم الساعة.. نحن في الهواء، ويجب أن نضع أقدامنا على الأرض قبل كل شيء

يوم السبت أصابتني حالة من الدهشة والغضب بسبب اشتعال الأمور فجأة.. أنا من الذين وضعوا كل أحلامهم على الانتخابات، ورأوا أن العملية الديمقراطية قادرة على تصحيح نفسها كما تلتئم أشد الجروح بشاعة.. وكان رأيي أنه حتى لو تسلل الفلول لمجلس الشعب فسوف تتم محاصرتهم ولن يأخذوا راحتهم أبدًا

هنا فوجئت بهذه المظاهرات التي أعتقد أنها ستؤجل الانتخابات لا محالة، مهما قالوا. كنت أعتقد يقينًا قبل ذلك أن الأمور لن تستمر وأن الانتخابات ستؤجل أو تلغى أو تزوّر.. هذه هي اللحظة المناسبة للانفجار، أما اليوم فماذا استجدّ؟ ولماذا لا تنتظر أسبوعا؟ وما أهمية وثيقة السلمي أصلاً تلك التي أكد الخبراء أنها استرشادية فقط؟

توقيت المظاهرات نفسه قبل الانتخابات مباشرة جعلني أشك في الأمر. ثم إن هذه المظاهرات تخلق لنفسها سببًا للمظاهرة القادمة.. تتظاهر اليوم فيطلق عليك الغاز.. مظاهرة غد سيكون سببها إطلاق الغاز على من تظاهروا أول مرة

كان هذا بالضبط رأيي يوم السبت

هنا بدأت شاشة التليفزيون تمتلئ بالدماء.. عيون تطير وجثث تجر على الأرض.. ماذا حدث؟ لم يبق سوى انقطاع النت والهاتف المحمول لأقول إن مبارك خرج من "القبر" ثانية.. لم أصدق هذا العنف، وكنت أتصور أن أفظع ما سيحدث هو بعض الغاز والهراوات، لكن بدا واضحًا أن الدولة شرسة فعلاً، وأن هؤلاء الرجال خرجوا للقتل، وأن رجال الشرطة يضربون بغلّ حقيقي، كأنهم يصفّون الحسابات السابقة.. ذكريات جمعة الغضب لم تفارق أذهانهم بكل ما فيها من رعب ومهانة وذل.. مبارك ما زال هناك موتورًا يخاطبهم: أدّبوا العيال السيس اللي بهدلوني كده

نعم.. لم يترك رجال الشرطة مفرا من اشتعال الأوضاع، ولم يعد ممكنًا تأجيل لحظة المواجهة.. عشرات الجثث تقول إن أوان التعقل قد انتهى وإن هذا ليؤسفني فعلاً

وسط هذا الهول تتبين مواقف أخرى

ضمن قرارات الإخوان الكارثية المعتادة، اتخذوا قرارًا بعدم المشاركة في مليونية الثلاثاء. في الوقت الذي خرج فيه كل شاب في مصر مستعيدًا أجواء يناير من جديد.. هذا هو القرار الخطأ في الوقت الخطأ؛ لأنه يُظهر الإخوان بمظهر انتهازي شنيع.. كل مصر تتجه في طريق لكن الإخوان لا يمشون فيه؛ لأن المظاهرات تعطل لحظة الانتخابات وجني الثمار. أقول قولي هذا وأنا أعرف ما سيقال، وكيف ستنهال الشتائم عليّ بسبب هذه السطور، برغم أن هذا رأي الشارع اليوم فعلاً، ويكفي أن تركب أي سيارة أجرة لتسمع السائق أو تحاور أي طالب جامعي. على كل حال يكفي اليوم أن تفتح فمك لتتثاءب حتى تنهال عليك الشتائم من كل الأطراف: فلول -  علماني كافر - عميل النفط  - جاهل - سطحي - بتقبض من ساويرس - بتقبض من الخليج - عميل المجلس العسكري - شاب سيس ضيّع البلد

نعم.. صار هناك الكثير من الدم، ولم يعد أحد يستطيع التراجع أو المزايدة على الجماهير التي خرجت تطالب بحقها من جديد

فليحفظ الله مصر.. إن الأيام القادمة صعبة حقًا لكنها ضرورية