قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Monday, January 23, 2012

بروتوس وسباق الرئاسة



بالطبع كنت قد عاهدت نفسى على أن لا أتكلم فى السياسة ثانية، خصوصا أن مصر تنعم اليوم بفترة نادرة يوجد فيها 85 مليون خبير سياسى، والكل يشتم الكل، فلن يحدث فارق كبير لو نقصوا أو زادوا واحدا، لكن موضوع انسحاب البرادعى يرغمنى على العودة للسياسة اليوم.. على الأقل من الناحية النفسية. المشكلة هى أننى كنت قد ربطت بين البرادعى والثورة إلى درجة الامتزاج التام، ولا أعنى بهذا أن البرادعى لم تعد له علاقة بالثورة، أو أنه من دون برادعى لا ثورة، فكل شىء يحدثنى أن هذه ليست نهاية الفصول وأن البرادعى عائد بشكل ما، وأن فصلا جديدا سوف يبدأ، ولكن أعنى أننى اعتدت فى كل مرحلة ضبابية ووسط الزحام أن أرى قامته الفارعة من بعيد، فأعرف الاتجاه الصحيح. القاعدة التى تعلمتها هى أن الرجل صادق وصارم وشريف ويسبق عصره دائما.. اليوم علىّ أن أتعلم البحث عن علامة أخرى وسط الزحام

على كل حال أنا سعيد بأن يبتعد الرجل بعض الوقت، فقد تحمّل الكثير حتى الآن.. تحمّل أكثر من أى واحد آخر، لأن أعداءه أذكياء فعلا، وقد عرفوا أنه هو الخطر الحقيقى.. مبارك عرف ذلك وحاربه بشراسة لأنه عندما رآه عرف أنه جلاده. لو عددنا الشرر الذى أشعل ثورة 25 يناير فلا شك أنه يتضمن البرادعى ومقتل خالد سعيد وانتخابات عز التى فاقت قدرة الشعب على التحمل. وفى ما بعد تكاثر أعداء البرادعى من كل الفئات. ورأينا مذيعا فى قناة دينية يتهكم عليه بسخرية: «يا واد يا مؤمن». باعتبار أن السيد المذيع ضمن مكانه فى الجنة وصار يصدر الأحكام على البشر.. هذا مؤمن وهذا كافر.. حتى من يبدون حماسة للبرادعى مثلى يتلقون الشتائم على الفور، أى أن أعداء البرادعى صنعوا دائرة محظورة حول الرجل ممنوع الاقتراب منها. تزايد الهجوم المسعور عليه، حتى صرت واثقا من أن الخطوة التالية هى الاغتيال الفعلى بعد المعنوى.. هذا حدث لأكينو فى الفلبين الذى قتلوه يوم عودته للبلاد. ومن السهل أن يختفى القاتل فلا يجده أحد أبدا

جاء البرادعى من نفس المقلع الذى جاء منه غاندى ومارتن لوثر كنج (وكلهم تم اغتيالهم لإسكاتهم لو لاحظت هذا!)، وكان يتحدث لغة راقية لا تناسب معظم الشارع، الشارع الذى اعتاد صخب سماعات الميكروباص التى تتحدث عن الشبشب الذى ضاع مع أنه كان بصباع، لهذا بدا لهم غامضا باهتا غريبا

تذكرت مسرحية يوليوس قيصر البديعة لويليام شكسبير، حين يكون على الثوار أن يواجهوا الجماهير بعدما اغتالوا يوليوس قيصر الشخصية الكاريزمية العظيمة. يقع اختيار الثوار على بروتوس أولا لأنه مثقف ومتزن.. يخرج بروتوس إلى الجماهير الغاضبة ويخاطبها مستخدما حقائق عقلية صارمة ومنطقا سليما: كان قيصر طموحا وكان عظيما، وطموحه كان سيقضى على روما، لذا منحناه الورود لعظمته لكننا قتلناه بسبب طموحه. أنا أحببت هذا الرجل جدا لكننى أحببت روما أكثر. لم تفهم الجماهير معظم الخطاب لكنه راق لها على كل حال وهللت وصفقت

الآن جاء دور الثعلب أنطونى الذى لم يشارك فى الاغتيال، والذى منحه الثوار دقائق ينعى فيها قيصر الذى قال إنه يحبه كثيرا. خرج أنطونى ليواجه الناس فبدأ يحكى لهم مآثر قيصر وكيف كان يحب كل واحد فيهم.. لكن بروتوس يقول إنه طموح وبروتوس رجل شريف.. ثم راح يشير إلى جروح قيصر ويصف كل جرح ومن أحدثه، وكيف كان تأثير هذا على القلب الكبير المغدور.. لكن بروتوس يقول إنه طموح وبروتوس رجل شريف.. ثم راح يصف للجمهور كم أحبهم قيصر وما كان يحلم به لهم.. فى النهاية انفجر الجميع فى البكاء وهاجوا.. وقرروا أن يفتكوا بمن قتل قيصر.. لقد صنعت الخطبة زعيما سياسيا فوريا

هنا فارق مهم بين الخطابين: الخطاب العقلانى المنطقى شبه البارد، والخطاب الحار الذى تفهمه الجماهير جيدا.. الفارق بين خطاب البرادعى وخطاب سواه. ومَن قال إن خطاب توفيق عكاشة لم يصل إلى الناس؟ الرجل الذى يتكلم عن البط والجرجير له حواريون ومعجبون فعلا. أتكلم عن النجوع والكفور والعشوائيات ولا أتكلم عن مثقفى القاهرة. وقد تصرف الناس بطريقة غير مفهومة: هم لا يصدقون أى حرف مما يقوله الإعلام الرسمى سواء قبل الثورة أو بعدها، إلا فى ما يتعلق بالبرادعى فهو صادق جدا! لهذا آمن رجل الشارع بأن البرادعى هو الذى سلم العراق للأمريكان. وما زال توفيق عكاشة يُحسْبِن على أطفال العراق الذين دمهم فى رقبة البرادعى! ورجل الشارع يرى أن البرادعى علمانى سينزع الطُّرح عن رؤوس النساء، ويجعل الخمر تنزل من الحنفيات، وتزوجت ابنته من رجل ليس من دينها، ومن قبلها سادت مقولة إنه بعيد عن مشكلات مصر ولا يعرفها.. كأن جمال بيه مبارك كان قريبا منها. وينسى الجميع أن البرادعى هو الوحيد من رموز الثورة والمرشحين للرئاسة الذى كان فى الشارع يوم جمعة الغضب! تقول هذا كله للرجل العادى أو سائق التاكسى فيصغى ساعة ويتصعب موافقا على كلامك و(يا سلام).. ثم تنهى كلامك فيقول: بس ازاى عميل زى ده يبقى رئيس جمهوربة ! لا جدوى.. هناك بقعة عمياء أو مركز بله مغولى لدى رجل الشارع فى ما يتعلق بالبرادعى

لم يكن البرادعى مقاتلا.. وبالتأكيد رغم صلابته كان هناك لحظة توقف عندها، إنه أقرب إلى فيلسوف أو مفكر ولا يستطيع القتال بالسنجة.. وهكذا جاءت الساعة التى قرر فيها أن لا يتقدم صفوف الثورة وإنما يمشى معها.. بينها

انسحب البرادعى، ورغم هذا انهالت عليه الشتائم لأنهم شعروا أن انسحابه سُبّة أكثر من بقائه. وظهر مَن يقول -على طريقة عز بعد الانتخابات المزورة التى قضت على الحزب الوطنى- إن البرادعى لم تكن له أرضية منذ البداية.. وقالوا إنه يريدها فتنة.. بالطبع يخشون أن يعود، فلن يريحهم إلا أن يغوص فى أعماق الأرض أو يتبخر

ومن جديد أكرر: أعرف جيدا أنها ليست النهاية وأن فصلا جديدا من القصة سوف يُكتب

فى النهاية أقدم لك هذه السطور التى وصلتنى بالإيميل ولا أعرف كاتبها العبقرى، ولسوف تجدها دقيقة جدا لو كنت من الإسلاميين، ولسوف تجدها أكاذيب سخيفة لو كنت علمانيا. عن نفسى راقت لى جدا، وأراها صادقة رغم أننى لم أكن من تيار الإسلام السياسى قط، والأهم أنها تظل صالحة فى أغلبها لو استبدلت بلفظة (إسلامى) لفظة (البرادعى).. فكلنا نرفض الآخرين ونراهم حمقى!:ـ

مرة واحد إسلامى دخل الانتخابات. نجح، قالوا: بسبب الشعارات الدينية. سقط، قالوا: خايب ودخلها ليه أساسا. قاطع الانتخابات، قالوا: شفتو السلبية وبيتكلم عن الإيجابية والمشاركة؟! دخل بأغلبية، قالوا: عشان يكوّش على المقاعد وتبقى دولة دينية. دخل بأقلية، قالوا: شفتو.. ده حجمهم الحقيقى. ساب الأرض وراح المريخ، قالوا: شفتو… حيعمل غزو عربى وينشر الوهابية. رجع تانى يزورهم، قالوا: عاوز يبقى زى الخمينى ويمسك الحكم. رفع عليهم قضية سبّ قالوا: بيسىء استخدام الحق العام وضد حرية التعبير واحنا كنا بنهزّر. فقد أعصابه وشتمهم قال لك: شفت السفالة. سابهم وراح اعتكف قال لك: شفت الدروشة. زهق ورمى نفسه فى النيل قال لك: انتحر ابن الكافرة. قعد على جنب يقرأ قرآن، قالوا: بيعزم علينا. نزل التحرير، قالوا: ركب الثورة. سابلهم التحرير، قالوا: خان الثورة. ربّى دقنه، قالوا: متمسك بالمظهر مش الجوهر. حلق دقنه، قالوا: منافق!ـ

لو كنت ترى أن هذه السطور تنطبق على الإسلاميين وعلى البرادعى معا، فأنت إنسان عادل وأنا أحييك