قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Monday, February 6, 2012

كان يا ما كان!

التحرير - 6 فبراير 2012


كان هذا المقال مخصصا لنعى الفارس النبيل لبيب السباعى، الذى احتفظ باحترام وتقدير الجميع حتى خصومه، والذى، رغم عمله بجريدة قومية، فإن القارئ كان يثق بكلمته ثقة عمياء مثل محمود عوض وفاروق جويدة وسواهما

كنت أنوى الكلام عن لبيب السباعى الذى رحل وسط ضوضاء الحرب الأهلية التى تجتاح مصر، فإذا بقائمة الراحلين تتضخم وتستطيل حتى تضمنت عشرات الأسماء، وظهر شريط النعى الأسود على شاشات نشرات الأخبار. كل أيامنا صارت كذلك، ولا بد من حادثة كل أسبوع أو كل أسبوعين

كما هى العادة فى كل حادثة، هناك من يتهم الناس أنفسهم، فهم مشاغبون وبلطجية وقد انطلق عقال شيطان العنف فى نفوسهم، وهناك -كما فى كل مرة- كلام عن سيارات أمن مركزى نزل منها أشخاص مجهولو الهوية أو غرباء (كأننا نعرف كل وجوه المشجعين) ليشعلوا كل شىء، وكلام عن أبواب تم لحامها سوف يتم نفيه بالطبع بعد ساعات، من فعل هذا؟ الداخلية طبعا أو اللهو الخفى، هكذا تضيع الحقيقة فلا تعرف ما حدث أبدا، سوى أن هناك فريقين، يختار كل منهما التفسير الذى يروق له ويعتبر كل فريق نفسه مظلوما، لكن الأرجح هو أن ما حدث كان تضافرا لعدة عوامل. يمكننا أن نرتب أفكارنا فى عدة نقاط :ـ

عرفنا من الانتخابات أن الحكومة قادرة على وقف البلطجة كلما أرادت، توقعنا مذابح فى الانتخابات وتوقعنا فى 25 يناير يوما داميا تتكدس فيه الجثث وينتهى بفرض الأحكام العسكرية، لكنها تمت بسلاسة كأننا فى النرويج. هناك، إذن، حنفية بلطجة يمكن ليدٍ ما أن تفتحها أو تغلقها

وطبعا الغرض واضح، لا بد أن يلبس وزير الداخلية الجديد النشط تهمة، وأن يصطدم بجدار، وأن يجلس كالتلميذ المذنب فى مجلس الشعب، هذا تمرين مشهور جدا ومعروف منذ أيام انقلاب الأمن المركزى الذى أطاح بأحمد رشدى. لعبة لا تفشل أبدا. لقد بدأ الأمن يعود وحان الوقت لتدمير ذلك. لهذا يجب أن لا نبتلع الطُّعم على الفور. سوف يأتى بعده وزير داخلية آخر يجلب المصائب ويكلفنا حياة عدة مئات، ولا يفعل أى شىء أبدا، وسوف يأتى اليوم الذى يتوسل فيه البعض أن تطلقوا سراح العادلى ليمسك بزمام الأمور، لأنه ليس هناك من يقبل منصب وزير الداخلية بعد اليوم

وهذا يعنى أن الثعابين ما زالت كثيرة جدا ونشطة وتتلوى بلا توقف تحت الأعشاب، ما زال هناك الكثير من الصديد، إما من الفلول أو أصحاب المصالح أو رجال الداخلية الذين تم التخلص منهم، أو أفراد يهمهم أن يفرضوا الحكم العسكرى على مصر. هناك لوبى عملاق منظم يعمل لتدمير هذا البلد وترويعه

وكان المفترض أن تهدأ الأمور بعد الانتخابات وتشكيل مجلس شعب منتخب، لكن الأمور ما زالت كارثية،. ولا أعتقد أن رحيل المجلس العسكرى سيحل المشكلة. يبدو أنه لا بديل عن ثورة أخرى. وهذه الثورة لن تكون لطيفة مهذبة مثقفة كالثورة الأولى. نعم، يجب أن تحدث ثورة أخرى لكن ليس بهذه الطريقة وبكل هذه الدماء وهذه النيران، أريدها حضارية كثورة 2011 الرائعة

لكن هذا لا يعنى أبدا أن الخلل لم يأت من الجماهير كذلك. قال لى الكرويون كلهم إنه كان هناك حشد رهيب للعنف والعواطف قبل المباراة. وعلى الفيسبوك طلب أحدهم من «ألتراس الأهلى» أن يترك وصيته لدى أمه. نفس الأجواء التى سبقت مباراة الجزائر بالضبط. معنى هذا أن الشرارة كانت موجودة أصلا، وتضخمت مع التدافع وسقوط الكثيرين تحت الأقدام، ثم عندما اشتعلت تركتها الشرطة -ربما باستمتاع كذلك- تحرق كل شىء. لا داعى لأن نخدع أنفسنا ونتهم المجلس و«الداخلية» بكل شىء

هناك تحرر حقيقى للعنف فى النفوس، وهناك استمتاع غير عادى بالحرق والتدمير. لهذا كان مشهد بورسعيد داميا شنيعا. شباب تحت العشرين يلبس كل واحد منهم ذلك السويتر اللعين ويغطى رأسه بالأنوراك (القلنسوة) ويدس يديه فى جيبى السويتر. تشعر طيلة الوقت بأنه غير أصيل على الإطلاق، وأنه يقلد صورة المتمردين التى يراها فى النشرات للثائرين فى إنجلترا وأمريكا. رأيت بعض صورهم فى الأحداث الأخيرة على شاشة التليفزيون وأقسم بالله إنهم كانوا يمثلون. سوف تجد مبررا للثوار فى التحرير بكل تأكيد، لكن ما مبرر كل هذا الحرق للمبانى الحكومية؟ وما ذنب مبانى الضرائب إن لم يكن الغرض هو تدمير الدولة ذاتها؟

وما دمنا بصدد تدمير الدولة، فماذا عن قطع الطرق فى كل موضع من مصر وإغلاق الهويس وتدمير السياحة، لمجرد الاحتجاج على انخفاض الأجور؟ وماذا عن خطف السياح لأن القبلية صارت أعلى من أى قانون؟ ابننا مجرم وقاتل لكننا سوف ندمر الدولة لو لم تطلقوا سراحه

وما يزيد الأمر سوءا أنك تشعر أن بعض هذا الغضب والتوتر لدى المتظاهرين هو بسبب وصول الإخوان المسلمين للبرلمان بانتخابات نظيفة. إذن نهد ونبدأ من تانى كما كنا نفعل فى ألعاب الحوش فى المدرسة الابتدائية. لماذا يحاول المتظاهرون الزحف إلى مجلس الشعب لاقتحامه؟ فإذا كوّن الإخوان دروعا بشرية انفجروا فى الصراخ فى الصحف عما فعله بهم الإخوان؟. أقول هذا والقارئ يعرف أننى ناصرى حتى النخاع، ولا أميل بأى شكل إلى الإسلام السياسى، لكنى أحب العدل كذلك. لدرجة أن هناك من هتف: (الشعب يريد رحيل الإخوان)!، والسؤال هنا أى شعب بالضبط يريد ذلك؟ أليس هو الذى انتخبهم؟ يبدو أن كل من يهتف وحده اليوم يصيح: (الشعب يريد كذا..)ـ

أتمنى أن يكف الإعلام عن التهييج، ليس الثوار دائما على حق، تصور أنهم يخطئون أحيانا، وليس كل من يلبس السويتر ويضع على رأسه قلنسوة ويقذف الطوب قدِّيسا. وليست «الداخلية» و«العسكرى» وكْرين للشياطين دائما، على كل حال أنا أهنئ الإخوة الصحفيين، وأرجو أن يكونوا قد نالوا نقاطا كثيرة عند القارئ، وأن يعتبرهم (جان جاك روسوهات مصر)، أرجو كذلك أن يكونوا قد كسبوا الكثير من المال. هذا هو المهم أما مصر فلها رب يحميها

كان يا ما كان، كان هناك بلد عظيم شامخ عريق اسمه مصر، ثم قرر أبناؤه أن يدمروه إلى الأبد، ولا حول ولا قوة إلا بالله