قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Tuesday, August 14, 2012

الجين المستهتر



منذ أعوام عدة -فى عصر الجنرال شارون- اقتحم بلدوزر إسرائيلى الحدود مع لبنان وتوغل مسافة عشرين مترًا. لم تكن هناك حرب وقتها وكانت الأوضاع شبه هادئة. على كل حال لم يعش سائق البلدوزر ليتجاوز المتر الواحد والعشرين، لأن قذائف حزب الله أحرقته حيث هو، وفى ما بعد قال شارون عبارته الشهيرة -التى لا يستعملها إلا مع حزب الله- إن إسرائيل تحتفظ لنفسها بحق الرد فى الزمان والمكان المناسبين. الشبه قوى بين هذا الحادث وما وقع منذ أيام وتلك المذبحة التى أودت بحياة عدد كبير من شبابنا فى سيناء. على أن استجابة رجال حزب الله كانت سريعة جدًّا وقاسية جدًّا، وكنت أتوقع أن جيشنا النظامى سيتصرف بكفاءة مماثلة أو أكبر. هذا الحادث يدق أجراس خطر كثيرة، ومنها جرس يقول إننا لسنا بالقوة ولا الجهوزية اللتين نعتقد أنهما موجودتان. نفس الأخطاء والتقاعس والتراخى.. ونفس العجز عن الاستفادة من المعلومات المتوافرة. رأيت هذا الموقف مرارًا فى حياتى، حتى بدأت أعتبر أنه عيب كامن فى الجينات المصرية نفسها. فى 1967 ينذر عبد الناصر الجيش أن الهجوم سيكون صباح 5 يونيو.. ثم تصل إشارة الإنذار الشهيرة (عنب عنب) من موقع عجلون، تلك التى أرسلها الشهيد العظيم عبد المنعم رياض لينذرنا من أسراب الطيارات الإسرائيلية القادمة.. لكن لا شىء يحدث.. (سيد حبارة) غيّر مفتاح الشفرة ولم يخطر بها من بعده وهكذا ضاعت أهم شفرة فى تاريخ مصر.. وفى لحظة الحقيقة تجد الطائرات واقفة صفوفًا كبط ينتظر الذبح فى المطارات، ويتبين أن المصريين يستعملون نفس موجات اللاسلكى التى استعملوها عام 1956 لأنهم لا يتعلمون أبدًا. حوادث لا حصر لها.. مثلا حادث الأقصر الذى انتهى بذبح 58 سائحًا بالسكين، وتبين أنه لا يوجد إلا (سيد حبارة).. جندى شرطة واحد على مسافة ثلاثة كيلومترات. قال مبارك إن هذه خطة تهريج، وأطارت كلمته هذه رؤوسًا كثيرة.. ومن جديد يتكرر نفس السيناريو

يأتى هذا الحادث كذلك فى جوّ من الاحتفال وتهنئة النفس بكفاءة المخابرات المصرية، ليتبين لنا كالعادة أن هناك خللاً فى هذا الجهاز، وبالفعل هو لا يؤدى عمله جيدًا، كجزء من منظومة انهيار كل شىء فى مصر حاليا. الدولة التى ينقطع فيها التيار الكهربى خمس مرات يوميًّا بلا تفسير واضح، لا أعتقد أنها تملك جواسيس يثبّتون الميكروفيلم فى أهدابهم، ويحملون أقلامًا تُطلِق سهامًا مخدرة، ويتسللون إلى البيت الأبيض لسرقة مستند مهم. وقد سمعنا رئيس جهاز المخابرات العامة المصرية يقول إن المخابرات بلغتها أنباء عن الهجوم، لكنها لم تتصور أن يقتل مسلم أخاه المسلم ساعة الإفطار! هذه الجملة فى حد ذاتها تكفى لتطهير جهاز المخابرات من جديد. علم المخابرات لا يمكن أن يتكلم بمنطق أم بيومى وأم بلبل، أو أمينة زوجة سى السيد التى كانت ترى أن ملكة إنجلترا أُمّ، ويمكن أن تخاطب قلبها مباشرة لتجعل الإنجليز يخرجون من مصر. هكذا نكتشف أن المخابرات جهاز كأى جهاز آخر فى الحى العشوائى الكبير الذى يحمل اسم مصر، وقد ضربه العطب. ورغم الضربات الساحقة الماحقة التى يوجهها إلى إسرائيل بلا توقف فى المسلسلات التليفزيونية (موضة رأفت الهجان) فكل هذا نوع من الحشيش نتسلى به عن الحقيقة. والحقيقة هى أن إسرائيل هى التى أنذرتنا من الهجوم. ببساطة هى دولة ديمقراطية متقدمة أخذت بأسباب العلم، ولا يتولى منصب حساس فيها إلا من يستحق ذلك

مشكلة أجهزة المخابرات وأمن الدولة.. إلخ.. عندنا معشر العرب.. هى أن مهمة الجهاز تتحول مع الوقت إلى العناية بأمور الجهاز نفسه. تشعر أن هؤلاء السادة يحبون جدا لعبة الغموض والخطورة والأهمية و(البلد حتروح فى شربة مية).. نحن نقوم بأشياء خطيرة جدًّا.. نحن مرعبون.. هل تذكر وجوه ضباط يوليو بالشارب الكث والنضارة السوداء الغامضة؟ تكتشف بعد هذا أنهم كانوا يناقشون بذات الخطورة أخبار أندية كرة القدم.. راجع الكتاب الممتع «مصر بتلعب» للزميل محمد توفيق وأنا أعدك أن يظل فمك مفتوحًا من الذهول لعدة ساعات. وفى الوقت نفسه يفشلون فى معظم القضايا الخطيرة التى تمس أمن الدولة فعلاً.. بالتأكيد هم يعرفون ماركة الفانلة الداخلية التى يرتديها أى معارض، لكنهم يعجزون عن التنبؤ بتسلل كل هؤلاء ليذبحوا شبابنا. بل ويدمرون أفلامًا مهمة صورتها كاميرات المتحف المصرى يوم جمعة الغضب

جو الغموض الذى يحيط بهذا الجهاز يعطى أصحابه شعورًا متناهيًا من القوة والسيطرة، وحتى فى الولايات المتحدة نحن نعرف هوفر، وفى مصر كان صلاح نصر رجل مخابرات قويًّا يعرف ما يفعله، لكنه كذلك أساء استخدام هذه القوة

من ارتكب هذا الهجوم فى سيناء؟

أعتقد أننا لن نعرف أبدًا كالعادة. لاحظ أننا حتى هذه اللحظة لا نعرف من المسؤول عن تفجيرات كنيسة القديسين، ولا تقل إنه العادلى لو سمحت لأن أى تحقيق لم يجرِ. ولا تقل فى ثبات إن جمال مبارك هو مدبر تفجيرات سيناء.. حتى لو كنت تحب أن تعتقد هذا فما دليلك؟ لم نعرف بعد مصير رضا هلال يقينًا.. ألغاز كثيرة جدًّا بلا حل وستظل كذلك. العزيز بلال فضل يذكرنا بالقاعدة المهمة فى الأدب البوليسى (مَن المستفيد؟). هذا يضع أطرافًا كثيرة جدًّا فى ميزان الشك، ومنها بالطبع إسرائيل التى يسعدها أن تسرى فى المجتمع المصرى حالة كراهية للفلسطينيين، وأن تلاحق مصر الأنفاق، وأن يدب الخلاف بين الحكومة وحماس. لكن لا أظن إسرائيل ترحب بالحرب مع مصر أبدًا مهما كان ضعف مصر الحالى.. مصر مشكلة بحجمها الديموجرافى والقومى والثقافى ويمكنها أن تتعب إسرائيل طويلاً. نفس الشىء ينطبق على حماس.. ليس من مصلحتها أبدًا أن تخسر مصر أو تلاحق مصر الأنفاق كلها. المستفيد هو شخص يهمه انهيار حكومة مرسى، وهذا يضع الفلول على رأس القائمة، بالتنسيق مع عناصر جهادية من سيناء طبعًا. هناك احتمال واحد يستبعد قاعدة المستفيد، لأنه لا منطق يحكم أفكار هؤلاء. من الممكن أن تكون العملية اجتهادًا ذاتيًّا من قاعديين متحمسين فى سيناء يريدون فرقعة العلاقات ويرون أن هؤلاء الشباب المصرى الصائمين كفرة وقتلهم حلال. أى هم يلعبون ضد العالم كله

الاحتمالات كثيرة.. ولن نعرفها أبدًا.. والحقيقة مدونة الآن فى ملف ما على مكتب مسؤول مخابرات، لكنها لن تنشر أبدًا. إنه الجين المستهتر وليس الجين الأنانى الذى وصفه الخواجة دوكينز. وعلينا أن ننتظر الحادث القادم فى قلق ما لم نغير ذلك الجين الخمول المستهتر فى خلايانا