قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Monday, August 6, 2012

الكهرباء يا ملك الزمان



فى القرن الماضى دارت المعركة الشهيرة بين العبقرى الأمريكى إديسون والعبقرى الصربى تسلا، حول الكهرباء وهل من الحكمة الاعتماد على التيار المتردد أم المستمر، مع حلم تسلا بأن يجعل الكهرباء فى الهواء كله كأنها موجات الراديو.. كهرباء بلا أسلاك متاحة للجميع. هذا امتداد لفكر تسلا الذى يعرف الفيزيائيون أنه أول من اخترع الريموت كنترول، لكنه منحوس فى كل شىء فعله، لهذا نُسب الاختراع العبقرى لآخرين. للأسف كان إديسون هو الأقوى والأقدر.. المخترع العظيم لم يكن بالصورة المثالية التى نعرفها عنه، ولم يرق له قط أن ينافسه عالم مجهول من شرق أوروبا بدأ حياته بالعمل عنده. هكذا انتصرت أفكار إديسون فى النهاية. كان الرجلان يؤمنان أنهما على باب ثورة علمية بسبب الكهرباء.. الحقيقة أننا على أبواب ثورة هنا فى مصر فعلا، لكنها ليست علمية

الكهرباء! قبس من علم الخالق منحه لنا، فأنار عقولنا وأفكارنا وبيوتنا. فى الأساطير الإغريقية كان الآلهة شديدى البخل بعلمهم، لذا تركوا البشر فى الظلام والبرد، إلى أن قام برومثيوس بسرقة سر النار من الأوليمب وعلمه للبشر. هنا لم يسرق أحد شيئا، ولكن الله منح الإنسان لمسة من علمه فاستطاع أن يكتشف الكهرباء.. لمسة العلم هذه أضاءت كل حارة وكل زقاق وعليها سهر التلاميذ ليلا يدرسون، وبالكهرباء دخلوا شبكة الإنترنت يعرفون كل شىء عن العالم، وفتحوا أجهزة التليفزيون التى صارت نافذة كونية، بينما المراوح أو أجهزة التكييف تجعل حياتهم محتملة إن لم تكن جميلة، وعندما ضعف ضخ المياه تمكنوا من اختراع المضخة التى ترفع الماء بالكهرباء إلى بيوتهم. الكهرباء!. قبس من علم الخالق ومن رحمته.. وفجأة انتهى هذا كله

عندما تصير دولة كاملة بلا كهرباء فقد انتهى أمرها أو هى لم تعد دولة أصلا

أقول هذا بعد ما عاد التيار الكهربى إلى الحى بعد ساعات من الانقطاع. هنا وضع شبيه بالقبر بالضبط: لا ماء.. لا نور.. لا هواء.. لا ينقصنا سوى بعض الديدان وبكتيريا الكلوستريديا كى يصير التطابق تاما

انقطاع الكهرباء.. الضيف الجديد الذى جاء ليبقى ويزيد الحياة تعقيدا، وهو يحدث ست مرات كل يوم.. سبعة أيام فى الأسبوع. ضمن مسلسل الانهيار السريع إلى قاع الهاوية الذى نمر به منذ أشهر.. بسرعة جنونية نتحول إلى الصومال أو العراق.. كأن البلاد تخوض حربًا شعواء، وتنظر حولك فلا ترى حربا

لم تعد مشكلة المرء الإعلان الدستورى ولا من يتولى أى وزارة.. مشكلتك ببساطة هى أن تجد بعض الماء عندما تدخل الحمام، لأن مضخة الماء متوقفة بسبب الكهرباء، وأن يجد أطفالك نسمة هواء بدلا من أن يموتوا.. هل المولدات تعمل بكفاءة فى كل المستشفيات حقا؟ وماذا عن الحضانات وأجهزة التنفس الصناعى؟

تمشى فى الشوارع المظلمة التى تحولت إلى شوارع أشباح، لترى الميكانيكية والصنايعية يجلسون ويدهم على الخد أمام محلاتهم. لا أحد يعمل.. البيع والشراء مستحيل.. كساد

بالطبع لم يعد أمام القادرين سوى شراء مولدات كهربية، لكنك سوف تكتشف وقتها أن هذه المولدات تعمل بالسولار أو بنزين 80 وهو غير موجود

من الواضح تماما أن الرئيس مرسى يتعرض لحرب بالغة الشراسة والقسوة، وهناك فيلم رأيته فى اليوتيوب يظهر انقطاع التيار الكهربى فى أثناء حلف اليمين الدستورية. أعتقد أن هذا الفيلم حقيقى فعلا، وهو يمثل إهانة بالغة وصفعة للدولة ورئيسها. حكى لى أحد الدارسين بالخارج عن انقطاع الكهرباء الفجائى فى مؤتمر بالأسكندرية حضره مبارك مع بعض الدارسين، وأعتقد أن كل مسؤول عن هذا الانقطاع لم يحتفظ برأسه طويلا

وهنا تأتى نقطة مهمة. يجب الاعتراف أن مرسى فشل فعلا فى حل مشكلات الكهرباء والبنزين والقمامة وهو مسؤول تماما عن هذا الفشل. ليس الوقت مبكرا لإصدار هذا الحكم القاسى. وبالتأكيد لم تخل الشوارع من القمامة يوم 27 كما وعد. الكهرباء ليست موضوعا مترفا أو يحتمل الانتظار.. سوف نصبر على البطالة والأمية والصحة والغلاء والثانوية العامة، لكن لا توجد دولة تعيش بلا كهرباء ولا بنزين

سواء كانت هناك عصابات تعمل فى الظلام لقطع الكهرباء وإعادة رمى الزبالة فى الشارع أم لا، فعمله هو القضاء عليها وفرض إرادته كاملة، وإن فشل فعليه أن يعلن أسباب فشله أو يرحل. أذكر أننى فى واحد من امتحانات الكلية الشفوية فشلت فى الإجابة عن سؤال، فاعتذرت للممتحن، لأن الجيران يحدثون صخبا منعنى من التركيز، ولأن حرارتى عالية، ولأن الكهرباء انقطعت أمس.. إلخ. قال لى فى برود: ما دمت أتيت للامتحان فأنت المسؤول الوحيد أمامى

هكذا فى ليلة سوداء من ضمن الليالى الرمضانية التى أحالوها سوادا وعرقا وعطشا، اتصلت بالكهرباء لأشكو للمرة الألف.. صار من دأبهم أن يرفعوا الخط أو يعطلوه، لكنهم فى هذه المرة ردوا. وسمعت صراخ الناس الغاضبين على الطرف الآخر، بينما الموظف يقسم لى إنهم لا يعرفون السبب وإن الكهرباء تنقطع عنهم من فوق.. جميل.. شبكة الكهرباء لا تعرف لماذا تنقطع الكهرباء. اتصلت بشرطة النجدة فأقسم لى الرجل إن الكهرباء منقطعة عن المحافظة نفسها ولا أحد يعرف السبب.. انقطاع الكهرباء صار لغزا كونيا بلا حل مثل السحابة السوداء أو موت عمر سليمان أو اختفاء رضا هلال أو فتح السجون فى الثورة

ثم راح الموظف يردد الاسطوانة القديمة: كان مبارك وعصابته يسرقوننا لكن كان فى زمنهم كهرباء وبنزين.. أى أنه لا بد لى ومن تضرر معى أن نخرج الآن فى مظاهرة تطالب بإسقاط مرسى وتولية شفيق أو إخراج مبارك من السجن، وإلا فلنمت فى مكاننا

الكهرباء يا ملك الزمان.. كما فى مسرحية الأديب السورى العظيم سعد الله ونوس، حيث كان فيل الملك يقتل الناس ويدوسهم، فأرسل الناس وفدا منهم ليقابل الملك.. لكنهم إذ وجدوا أنفسهم فى حضرته شعروا بالرهبة والهيبة، وادعوا أنهم جاؤوا يطالبون بتزويج الفيل حتى لا يشعر بالوحدة

ليس مرسى هو ملك مسرحية سعد الله ونوس بالتأكيد.. لكننا نطالبه بأن يتحرك بسرعة وحزم وقسوة، لأن البلاد تغلى فعلا بسبب ثورة الكهرباء هذه.. إن مخطط إفشاله يسير بنجاح تام، وهو أحد المسؤولين عن ذلك بكل هذا البطء، وكل هذا الصمت وهذا الغموض