قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Monday, September 10, 2012

من فضلك.. لا تفسد دوائرى



من القصص الشهيرة جدًّا فى التاريخ، تلك القصة عن الفيلسوف والرياضى العظيم أرشميدس، صاحب مقولة (وجدتها وجدتها) إياها. الرجل الذى أتعبتك دراسة نظرياته الخاصة بالحجم والكثافة وإزاحة السوائل، والذى استطاعت اختراعاته أن تحمى جزيرة صقلية من الغزاة لفترة طويلة

تقول القصة إن غزو الجزيرة نجح فى النهاية بفضل (الولس).. أى أن الخيانة أدت إلى سقوط البلاد، ولم يكن عمنا أرشميدس حاضر الذهن عندما حدث هذا.. كان فى بيته منهمكًا فى حل مسألة هندسية معقدة أنسته كل شىء. أى أن الجزيرة تم احتلالها ووقعت المذابح والحرائق فى الشوارع، وهو لا يعلم شيئًا، ويجلس القرفصاء على الأرض، يرسم بالطبشور ويحاول إيجاد حل هندسى صعب. وما حدث هو أن الرومان دخلوا بيته وذبحوا الجميع.. وفوجئ العالم وهو مستغرق فى التفكير بصندل رومانى ملوّث بالعرق والدم والغبار يدخل مجال رؤيته ويدوس على الدوائر الطبشورية.. لم يرفع رأسه أو ينهض، بل قال فى تهذيب:ـ
ـ«من فضلك.. لا تفسد دوائرى»ـ

بالطبع كان رد الجندى هو أن قطع رأس العالم. أفسد دوائره فعلًا بالدم الذى سال ليغرق الطبشور. هذه قصة شهيرة جدًّا وإن كان أول ما تثيره من أسئلة هو: مَن رأى هذا ليحكيه فى ما بعد؟ ليس الجندى الرومانى بالتأكيد.. لكنها قصة مفعمة بالرموز والمشاعر الجيّاشة على كل حال

ما حدث هذا الأسبوع هو أن هذه القصة تكررت تقريبًا بنفس الشكل، لو افترضنا أن الجندى الرومانى هو مديرية أمن الإسكندرية والفيلسوف هو شارع النبى دانيال

بالنسبة إلى شخص غير سكندرى مثلى، فشارع النبى دانيال هو واحد من خمسة أو ستة معالم مهمة جدًّا تمثل الإسكندرية بالنسبة إليه. رائحة الكتب المميزة والأكشاك وحتى الباعة الذين بطبيعة عملهم اكتسبوا ثقافة عالية، ولهم صداقات مع أشهر مفكرى مصر

د.ضحى عرفة أستاذ الآثار اليونانية والرومانية بكلية الآداب جامعة الإسكندرية، تقول -فى مقال على شبكة الإنترنت- إن تاريخ الشارع يعود إلى بداية بناء المدينة ذاتها، عندما أمر الإسكندر الأكبر ببناء الإسكندرية وفقًا للتخطيط الهيبودامى الذى يعنى الشكل الشبكى أو رقعة الشطرنج، حيث كانت المدينة مقسمة إلى شارعين رئيسيين، أحدهما طولى والآخر عرضى، يخلق تقاطعهما ميدانًا كبيرًا فى المنتصف، ويعتقد أن شارع النبى دانيال جزء من الشارع الرئيسى الطولى الذى كان يمتد من شمال المدينة إلى جنوبها. هناك إشاعة لم تثبت صحتها قط عن وجود قبر الإسكندر الأكبر أسفل مسجد النبى دانيال. أما بالنسبة إلى مسجد النبى دانيال فالمرجح أن الضريح الموجود به على عمق 5 أمتار هو لعالم عراقى قدم من الموصل إلى الإسكندرية فى القرن الثامن الهجرى اسمه محمد بن دانيال الموصلى وهو أحد شيوخ المذهب الشافعى

بائعو الكتب موجودون فى الشارع منذ أربعينيات القرن الماضى، ومعظمهم حاليا خريجو جامعات

ما حدث هو أن الناس فوجئوا عند الفجر بهجوم حقيقى، قوامه بلدوزر وسيارات أمن مركزى وعربات إسعاف و.. و.. الهدف إزالة بعض الأكشاك المخالفة من الشارع. وقد تم تدمير تسعة أكشاك وبعثرة ما فيها من كتب على الأرض، وذلك بدعوى أنها مخالفة.. الجنود الرومان أفسدوا الدوائر كلها وأطاروا رقبة أرشميدس

لم يتم تدمير باقى الأكشاك لحسن الحظ، لأنها تملك تراخيص وإن كاد هذا يحدث فعلًا، واعتذرت القوات الغازية لأنها (لم تكن تعلم) أن هذه الأكشاك وضعها قانونى

كل هذا جميل، ونحن لا نريد أن ندخل فى دائرة لوم الأمن على أنه لا يفعل شيئًا، فإذا فعل اتهمناه بالغلظة. إزالة المخالفات عمل من صميم الأمن، لكن كما رأينا معظم هذه الأكشاك وضعها قانونى تمامًا، ثانيًا يجب أن يختلف أسلوب التعامل مع الكتب عن التعامل مع غُرز البانجو، ثالثًا: هىّ جات على دى؟

فى كل ركن من البلاد أُقيمَ كشك سجائر غير مرخص.. فى أى مساحة خالية وُضعت مقاعد ومنضدة وتحول المكان إلى مقهى أو غُرزة.. هل تعرف ماذا يبيعه هؤلاء الباعة الذين يقفون عند المطبات على الطريق السريع (القاهرة-الإسكندرية) وفى وضح النهار؟ ما محتوى تلك الأكياس المليئة بسائل له لون الموز باللبن؟ يبيعون البوظة طبعًا.. عندما تحاول الوصول إلى مجمع الكليات فى طنطا فأنت تجتاز سوق ثلاثاء، بما فيها من خضر وفاكهة وملابس داخلية وسوتيانات وكيلوتات وأوانى طهى.. عبور هذه السوق يستغرق نصف ساعة وقد فشلت الجامعة تمامًا فى الخلاص من هذه السوق، لأنها مسؤولية المحافظة وإخلاء الشارع يحتاج إلى حرب.. وماذا عن مخالفات البناء فى كل مكان؟ ماذا عن الطوابق المخالفة حتى لم تعد المياه تصل إلى الأدوار الأرضية فى البيوت؟ هناك مشكلة حقيقية فى سيدى بشر بالذات، فماذا عنها؟

هل ما زلت ترى أن أكشاك الكتب فى شارع النبى دانيال هى المشكلة فعلًا؟

على أن صديقًا سكندريًّا مثقفًا أثق برأيه قال لى إن الأمر كله يعكس نوعًا من تحرّش مدير أمن الإسكندرية بالثقافة والمثقفين.. يبدو أنه يتحسس مسدسه فعلًا كلما سمع كلمة ثقافة

على كل حال، لقد وصلت الرسالة، ورمز الكتب الملقاة ممزقة الصفحات فى الشارع بليغ جدا، ويذكّرك بألف قصة مماثلة.. من أول قصة أرشميدس حتى فيلم «451 فهرنهايت» حينما كانت الدولة تحارب الكتب بسيارات الإطفاء

الأخطر أن هناك مَن يحاول استغلال هذه الحادثة كدليل على محاربة الإخوان للثقافة، وكأن الرئيس مرسى رفع السماعة وقال لمدير الأمن: «دمّروا الكتب.. نريد أن ينتصر الجهل والظلام!». وهى تهمة خائبة طبعًا، لكن هناك مَن سيصغى لها بالتأكيد

من جديد، أهدى إلى الداخلية هذه الأبيات العبقرية لعمنا وتاج راسنا وأعظم فنانينا بيرم التونسى:ـ
أربع عساكر جبابرة يفتحوا برلين
ساحبين بتاعة حلاوة جاية من شربين
شايله على كتفها عيل عنيه وارمين
والصاج على مخها يرقص شمال ويمين
إيه الحكاية يا بيه؟.. جال خالفت الجوانين
إشمعنى مليون حرامى فى البلد سارحين؟
يمزّعوا فِ الجيوب ويفتحوا الدكاكين
أسأل وزير الشؤون ولّا أكلم مين؟

هكذا.. ترك الجنود الأشداء اللصوص وتفرّغوا لبائعة الحلوى الغلبانة التى تحمل بضاعتها فى صاج على رأسها. هنا لا يتعلق الأمر بالحلوى، بل يتعلق بجزء حضارى بالغ الأهمية لدى كل مَن يقرأ ويكتب فى هذا الوطن، وأعتقد أن الأسبوع القادم سوف يشهد عدة وقفات احتجاجية وسلاسل بشرية لحماية الشارع

من فضلك يا باشا.. لا تفسد دوائرنا