قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Thursday, October 11, 2012

رسائل المحبة - 7


عند ذلك المحل الخالي الخاص بالاتصالات في شارع جانبي أوقف سيارته، واعترف لنفسه بأنه فقد الاتجاه تماما.. لا يعرف أين هو بتاتا.. كان المحرك يلهث من الإنهاك، وكذلك هو.. قلبه يتواثب بلا توقف.. الدخان يتصاعد من ماسورة العادم ومن رئتيه

طلب الهاتف من البائع الذي ظل يرمقه في دهشة.. هناك أمر يتعلق بالحياة والموت.. ليس أقل

طلب رقم اللواء جابر الذي يحفظه لحسن الحظ.. عندما جاء صوت الرجل المتقدم في السن، والذي يبدو أنه كان يوشك على النوم بعد الغداء، صاح حمدي في ذعر:ـ
ـ سيدي.. أنا لا أستطيع السيطرة على نفسي
احتاج إلى بعض الوقت حتى يشرح سبب اتصاله من هاتف آخر

هتف اللواء عبر الهاتف:ـ
ـ اهدأ يا حمدي.. أين أنت؟ ولماذا فررت من المراقبة؟
ـ لا أعرف السبب يا سيدي.. لهذا اتصلت.. أنا في ورطة.. كأن.. كأن هناك جزءا من ذاتي يدفعني دفعا إلى الموعد
ـ أين أنت؟

استعلم عن العنوان من البائع المذهول، وأملاه على اللواء.. هنا قال رجل الأمن المسن عبر الهاتف:ـ
ـ ليكن.. سوف تبقى حيث أنت ولا تتحرك.. سوف تلحق بك سيارات الشرطة حالا.. بالمناسبة هل عرفت إلى أين أنت ذاهب أصلا؟
ـ الاستاد الرياضي.. الرابعة عصرا
ـ كيف عرفت ذلك؟
ـ لم يبلغني أحد.. عرفت وحسب

الحقيقة أنه تلقى مكالمة هاتفية منذ فترة تخبره بالمكان.. والمكالمة تضمنت إنذاره من البوح بحرف
ـ هذا العنوان الذي تصفه قريب من الاستاد فعلا.. معنى هذا أنك وصلت
ـ لا أدري.. الحقيقة أنني فقدت الاتجاه تماما

قال اللواء بلهجة من ينصح صبيا أحمق تجاوز الحد:ـ
ـ اسمع.. سوف تظل حيث أنت.. سوف تجلس ولا تتحرك إلى أن نصل إليك.. أعتقد أنك تمر بشيء يشبه التنويم المغناطيسي.. أعطِ الهاتف لصاحب المحل

فعل حمدي كما طلب اللواء، وراح يراقب في بلاهة المحاورة بين صاحب المحل المذعور والطرف الآخر.. نظرات البائع القلقة.. محاولة التصديق.. هل من يكلمه لواء شرطة حقا أم هو مقلب كبير؟

في النهاية أغلق الهاتف، وقال لحمدي:ـ
ـ معذرة.. أعتقد أن عليّ أن أنفذ كلامه.. يقول إن هذا لمصلحتك

قال حمدي في استسلام وهو يحك رأسه:ـ
ـ سأبقى هنا.. سأحاول أن أبقى هنا، لكن لا أضمن النتائج.. قد أضربك أو أفتك بك في أي لحظة قبل أن يصل رجال الشرطة

اتجه البائع إلى باب خلفي في المتجر الصغير:ـ
ـ هذا مخزن صغير يتسع لشخص واحد.. أرجو أن تدخله.. هذا لمصلحتك
ـ سوف تغلقه عليّ؟

وتحركت في روحه مخاوف الكلوستروفوبيا القديمة، لكن لا بأس.. لن يطول الأمر قبل أن تدوي صافرات الشرطة

مد البائع يده المفتوحة وهمس:ـ
ـ أرجو يا سيادة الرائد أن تناولني الطبنجة.. هذه أوامر اللواء
ـ هل تمزح؟
ـ لا أمزح.. لكن طالما ظلت الطبنجة معك فبوسعك أن تقتلني وتفر في أي وقت

في تردد أخرج حمدي المسدس ودسه في يد البائع.. ستكون هذه أول مرة

هكذا دخل المخزن الضيق وانتظر حتى انغلق الباب.. لحسن الحظ أن الوقت عصر، والإضاءة ممتازة لأنها تتسرب من نافذة صغيرة على ارتفاع مترين عن الأرض.. إن هذا المخزن يطل على زقاق ضيق.. واستطاع أن يرى المطر عاد ينهمر من جديد

سوف ينتظر.. لن يذهب إلى موعد الموت

****************************

أنا وأنتِ ضحيتان لقوى لا نفهمها
أنا وأنتِ منبوذان خطران يجلبان الموت

كنا نمشي في شوارع المدينة وقد تعانقت أناملنا.. وحّد المصير بيننا فتعانق قلبانا.. كنا غريبين منذ ساعات، والآن يخيل إليّ أننا معا منذ ولدت المحيطات

ـ اسمك ليس لمياء طبعا
ـ واسمك ليس نصر طبعا

لم يجسر أحد على السؤال عن الاسم الحقيقي، لشدة ما تدب الحياة في الأسماء بعد لحظات! كم أن هذا غريب.. لو أطلقت اسما على علبة ثقاب لصار منطبقا عليها.. بعد قليل سوف تشعر أن هذا هو الاسم الوحيد الصالح لها، هذه لمياء ولن أسمح لها بأن تحمل أي اسم آخر

لكننا سوف نعرف اسمينا الحقيقيين عما قريب، كنا نعرف الحقيقة.. سوف نتزوج على الأرجح.. سوف نمزج ألمنا معا.. سوف نمزج حيرتنا معا.. سوف نصير شيئا واحدا

قلت لها والمطر يهطل من جديد:ـ
ـ نحن موصومان.. نحن شيطانيان
ـ نعم.. بلا ذنب

كان المطر ينهمر وتحوّل شعرها إلى شيء يشبه شباك الصيادين عند إخراجها من البحر.. وسال شعري على عيني كأنه سائل أسود، كنت أرى الوصمة الحمراء على جبينها وجبيني.. لو أن أي واحد رآنا لأدرك السر وولى ذعرا

كنت أرى الوصمة الحمراء على جبينها وجبيني

الشوارع خالية والبرد يجتاح عظامنا
قالت لي:ـ
ـ هل عرفت من أين تأتي خطاباتك؟

قلت لها في شرود:ـ
ـ لا.. ثمة رؤى متداخلة مبهمة لا أعرف كنهها.. لا أقدر على الشرح.. فقط أجد الخطابات عندي تنتظر أن تُرسل.. ثم أكتشف أني أرسلها.. لا أعرف كيف ولا متى

ـ هذا يحدث معي حرفيا.. خطر لي أنني مجنونة وأفعل كل هذا وأنا غائبة عن الوعي.. ربما هو نوع من السير أثناء النوم.. لكن لو كان هذا صحيحا فلماذا يطيعني الناس؟

قدمت لها اعترافا أسوأ:ـ
ـ أنتِ وزعت خطابات تدعو إلى الموت اليوم.. يوم 27 إبريل.. أليس كذلك؟
ـ بلى

كنت أعرف أنا أيضا أنني فعلت هذا.. هناك مذبحة ستحدث اليوم لا أعرف كيف ولا متى، لكني مسئول عنها

كانت ترتجف بالدموع وصدرها يعلو ويهبط:ـ
ـ أنا مجرمة
ـ أنا قاتل

توقفنا أسفل بناية شامخة، وكان ميزابها يتدفق بلا توقف.. يوشك أن يبلل ثيابنا.. سمعت صوت الرعد في السماء.. غريب أنني لم أرَ البرق

قلت لها وأنا أمسك بيدها:ـ
ـ سوف نتزوج.. أنت تعرفين هذا؟
قالت في غموض وهي ترمق السماء:ـ
ـ بل سوف نموت.. أنت تعرف هذا

قلت بغباء حقيقي:ـ
ـ كيف نموت ونحن من نميت؟
ـ سوف نقضي على نفسينا.. عندي خطاب من خطابات المحبة يدعو إلى الموت يوم 3 مايو
أنا أعرف يقينا أن عندك خطاب مماثل
ـ وماذا في ذلك؟

ـ سوف تعطيني خطابك وأعطيك خطابي.. هكذا سوف نفتك بعضينا ببعض
ـ وهل هذا حل؟
ـ هو حل ناجح جدا للبشرية.. نحن عقربان.. لا بد من الخلاص منهما
ـ وماذا يضمن لك أننا سننفذ ذلك؟
ـ التجربة هي المحك

كانت تتكلم بقسوة وثبات.. وخطر لي أنها مخبولة، ثم تذكرت الدماء التي سوف تسيل عن طريقنا برغم إرادتنا.. ربما كان هذا أفضل شيء نفعله، أن نفتك ببعضينا

*****************************

لقد تأخرت سيارات الشرطة.. ليته يستطيع أن يشعل لفافة تبغ، لكن المكان ضيق وهناك صحف وأوراق كثيرة على الأرض

جلس حمدي على كومة من الصحف وراح يرمق حذاءه

هنا وقعت عيناه على المظروف.. المظروف الأنيق الملقى وسط الأوراق في المخزن الخلفي الصغير

عبث في المظروف حتى فتح الخطاب، وجد السطور التالية:ـ
ـ"الخميس 27 إبريل
استعِد لقتل رجل في الرابعة عصرا
مع فائق الاحترام.."ـ

عبث حمدي في المظروف حتى فتح الخطاب

شعر بقشعريرة وانتصب شعر رأسه.. هذا الخطاب ليس له، بل وصل إلى صاحب محل الهاتف

هذه دعوة لمذبحة جديدة.. ومن قال إن الموعد في الاستاد الرياضي؟ المكالمة قالت إن الموعد قرب الاستاد الرياضي.. وهذا هو ما يحدث الآن.. والساعة الرابعة عصرا فعلا

إذن وجوده هنا لم يكن صدفة.. وقد أعطى البائع مسدسه بكل غباء، وجلس ينتظر في المخزن كأنه خروف ينتظر الجزار

.......

يُتبع