قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Thursday, February 7, 2013

في شارع المشاط - 2


كما قلت لك: تلقيت الاتصال قبل اكتشاف الجريمة بعدة ساعات
الاتصال الهاتفي قال إن هناك طردا مهما لي في سلة المهملات أمام الجريدة، بالطبع تذكرت على الفور القصة السابقة.. الطرد الذي تلقيته منذ ثلاثة أشهر

ما لاحظته هو أن صوت المتكلم عادي جدا كأنه يتكلم في موضوع يتعلق بالعمل، أنت تعرف هذا الداء الشيطاني الذي يصيب من يهددون هاتفيا أو يمارسون دورا إجراميا، شيطان التمثيل يتقمصهم فيتكلمون بصوت مبحوح مفتعل، يصعب أن يتكلم أحدهم بطريقة طبيعية
وضعت السماعة كالعادة وطلبت من رجل الأمن مسعد أن يرافقني، لا أعرف ما سيفعله بالضبط لو كان الطرد يحوي قنبلة مثلا، لكني شعرت أن رجل الأمن يقدم بعض الأمن فعلا

وجدت الطرد المقصود ففتحته، كان يحوي شيئا غير معتاد، رباط حذاء!ـ
هذه دعابة سخيفة قاسية فعلا، من أسخف الدعابات التي تعرضت لها في حياتي، وبدأت أكيل السباب لهذا المتظرّف الرقيع الذي لا يجد تسلية سوى تعذيب أمثالي من الجادين.. و

وجدت الطرد المقصود ففتحته وكان يحوي شيئا غير معتاد

بالطبع كان هذا عندما دق الهاتف يخبرني بجريمة قتل في شارع المشاط
لست غبيا.. الارتباط واضح وقوي جدا
لكن كيف أشرح الأمر لرجال الشرطة وماذا أقول لهم؟

-5-

عزت صديق قديم ويثق في رأيي، إنه رائد في الشرطة، ونحن نتبادل علاقة التكافل الشهيرة، سأعطيك أخبارا عن الجرائم وأنت تكتب أن الرائد عزت الدريني تولى التحقيق أو كشف الجاني، نفس علاقة التكافل بين التمساح وطائر الزقزاق: التمساح يمنح الطعام المحشور بين أسنانه والطائر يمنح تنظيف الأسنان

حكيت لعزت قصة تلك الطرود فابتسم.. ازدادت ابتسامته اتساعا وهو يصغي لكل كلمة، وفي النهاية كان وجهه كاريكاتوريا إذ صار فمه يمتد من أذن لأذن، وقال لي:ـ
ـ أنصحك.. لا تحك هذه القصة لأي رجل شرطة مصري
قلت محتجا:ـ
ـ هناك سفاحون كثيرون ينذرون ضحاياهم، أنت تعرف زودياك! زودياك قد أنذر كثيرين قبل قتلهم، ومنهم الصحفية التي كانت تنشر أخباره في الجريدة

ضرب رأسه بكفه المفتوحة في ضجر وقال:ـ
ـ ليس لدينا زودياك ولا أعرف من هو زودياك، ما أعرفه هو أن مجرمينا بسطاء جدا ويتصرفون ببساطة ودون تخطيط، هذه تعقيدات لا نفهمها ولا ننتمي إليها، نحن في عالم الرجل الطيب الذي يقتل زوجته بالساطور ثم يضع جثتها في طست تحت السرير ويذهب لتدخين المعسل مع رفاقه

كان هذا مقنعا، لكن هناك شيئا لا يمكن تجاهله، هو هذه الطرود وهذه المكالمات
قال لي في ضيق:ـ
ـ ليس بيدنا عمل شيء سوى أن نفحص الطرد جيدا، لكن أؤكد لك أنه لن يقودنا إلى الفاعل، وفي النهاية سيكون علينا الانتظار.. الانتظار إلى أن تأتي مكالمة أخرى تعرف أنها لن تأتي

وهكذا انتهى النقاش
لكني حرصت على البحث عن معنى رباط الحذاء، هل له معنى معين؟! بالطبع لم أجد؛
نسيت الأمر تماما ومرت فترة لا بأس بها

لقد مر شهران تقريبا عندما حدثت الجريمة الثالثة
أنت تعرف أن هناك جريمة ثالثة، وإلا لما حكيت لك هذه القصة أصلا

-6-

يعرف علماء الجريمة عدة أنواع من القتلة.. هناك قاتل الجموع
Mass murderer
الذي ينقضّ على مدرسة أو حفل ليطلق السلاح الآلي ويردي عشرات من الأشخاص في وقت واحد في مكان واحد.. هناك القاتل الذي يقتل على نوبات
Spree murder
أي أنه يقتل عدة أشخاص في وقت واحد في عدة أماكن.. وهناك القاتل التتابعي الذي يقتل شخصا كلما مرت فترة زمنية معينة، يشعر بعدها بالحاجة إلى القتل من جديد

لا بد أن فترة شهرين كانت كافية كي يشعر هذا الرجل بظمأ جديد للجريمة
وكنت في ذلك اليوم في الجريدة ألتهم شطيرة من الفول راحت تتساقط على المكتب، وكنت في ورطة فبحثت عن مناديل ورقية، هنا دق جرس الهاتف؛ أمسكت بالسماعة بيدي اليسرى وأنا أحاول أن أحمي ثيابي من الفول، تبا للزيت الحار هذا

هنا سمعت صوتا يخيّل إليّ أنه صار مألوفا يقول:ـ
ـ هديتك في السلة أمام الجريدة
صعد الفول والحمض كله إلى أعلى المريء وشعرت بحريق في صدري، سألته في لهفة وبصوت راجف:ـ
ـ هلا أنهيت هذه اللعبة وقلت من أنت؟
ـ أنا لا ألعب.. من قال إنني ألعب؟
ـ تتصل بي وفي كل مرة...ـ
ـ أنا لم أتصل بك من قبل
ووضع السماعة

جلست أرقب السماعة في توتر، ثم وضعت باقي الشطيرة في ورقة الجريدة وتخلصت من هذا كله في القمامة، وهرعت إلى المصعد أهبط إلى الطابق الأرضي، هناك كان صندوق القمامة الشهير وهو صندوق عميق به كيس بلاستيكي أسود عملاق وله غطاء، يمكن أن تخفي فيه جثة فيل لو أردت، فتحت الغطاء وعبثت وسط القمامة المقرفة وفضلات الأكل، فوجدت طردا صغيرا من الورق المقوى.. نفس الطرد المعتاد
قلت لنفسي: لو حدثت جريمة قتل في شارع المشاط فأنا أمام فيلم رعب جيد

هذه المرة لم أستطع الانتظار ففتحت الطرد وأنا في الشارع، لو احتجنا إلى خبير بصمات بعد هذا فلسوف يمكنهم حذف بصماتي أنا
هنا اصطدمت يدي بطبق صغير، طبق كالذي تضع فوقه قدح الشاي، هذا الطرد لا يحوي أي شيء سوى قدح، هذا غريب

عدت إلى مكتبي في الجريدة ورحت أواصل عملي وأنا أشعر بأن معدتي تتقلص جدا.. هذه ليست معدة بل هي مخبار حمض هيدروكلوريك مركّز محفوظ في مختبر مدرسة ثانوية، ولم أشعر براحة إلا عندما دخلت الحمام فأفرغت كل شيء 
سوف تأتي المكالمة حالا، لا شك في هذا

بعد ساعتين دق جرس الهاتف.. هذا عزت يخبرني أنهم ذاهبون إلى شارع المشاط، هناك جريمة قتل
قلت له وقلبي يتواثب:ـ
ـ لقد صارت هذه عادة، ثلاث جرائم قتل في وقت قصير نسبيا، وكلها تحوي موضوع الطرد هذا؛ أنا على حق دائما
قال في نفاد صبر:ـ
ـ قابلني هناك حالا

الجريمة هذه المرة كانت أكثر إحكاما
شاب يُدعى هشام في البيت رقم 20 ويقيم في الدور الأرضي، يبدو أن هناك من دق الباب فذهب ليفتح، لم يجد أحدا فخرج من الباب إلى الشارع ليرى أفضل، لم ينظر لفوق ولم يتوقع أن يكون هناك من ينتظر على سطح البناية -لاحظ أن ارتفاعها طابقان- ليلقي من أعلى أصيص زهور ثقيلا.. تصويب محكم وتوقيت دقيق، وقد هوى الأصيص في المكان المنتظر بالضبط؛ رأس الفتى مهشم وقد تناثر الدم على الإفريز

صدفة مؤسفة؟ مع الأسف لا.. لأن رجال الشرطة وجدوا باب السطح مفتوحا حيث تسلل القاتل، ووجدوا المكان الذي رقد فيه على بطنه يراقب المدخل، ورأوا الحبل الذي يتدلى من أعلى وتتدلى منه صخرة ضخمة استخدمها في دق الباب وهو على السطح

قال عزت وهو يفحص الجثة:ـ
ـ برغم كل شيء لا تنكر أن وضعنا صار أفضل؛ هناك شيء يربط بين ثلاث الجرائم، أو يربط بين هؤلاء الأشخاص؛ سنكون يقظين والجريمة الرابعة ستكون أصعب وأصعب

.......

يُتبع