قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Friday, February 22, 2013

في شارع المشاط - 4


-9-

الأرانب الصغيرة أهم شيء في الكون، وبعدها فليذهب الكل إلى الجحيم

عندما تراك الأرانب الصغيرة فإنها تتدافع نحو قدميك، وهي تحرك أنوفها بتلك الطريقة الساحرة.. أقدامها الصغيرة تدوس على أصابع قدميك برفق جميل، أما عندما يمسك الأرنب الصغير بأذنه ليمشط فراءها فهو يذكرك بحسناء تجدل ضفيرتها عند النهر، العيون الواسعة المفعمة براءة وتهيبا.. كتل بيضاء تتواثب كأنها ندف قطن حي

عندما تراك الأرانب الصغيرة تتدافع نحو قدميك ـ (رسوم: فواز) ـ

هكذا كانت لمياء تفكر وهي تقف في الحديقة الخلفية للبيت تلقي فتات الخبز للأرانب. هي ليست حديقة بالضبط بل هي أقرب إلى مسقط أو سماوي تم استغلاله للزراعة.. هناك شجيرتان صغيرتان وأسرة أرانب وأسرة دجاج.. هناك قط رمادي صغير يتمنى لو ظفر بشيء يوما ما لكن هذا مستحيل، لذا تعلم أن يحترم نفسه ويتعايش، كأنه زير نساء يتعامل مع زميلات عمل حسناوات ولا يريد أن يُطرد بسببهن

تفرغ من هذا ثم تتجه إلى مقدمة البيت التي تطل على شارع المشاط، حيث تجلس أمها هناك خلف سور الشرفة وقد وضعت عليه كوب الشاي بالنعناع.. أوراق خضراء نديَّة تطل وسط البخار، وفي يدها طبق من الأرز تنقيه.. هناك مشكلة بصرية، لذا تجهد عينها في النظر من تحت إطار النظارة

بعد قليل يأتي القط ليثب إلى حاجز الشرفة ويجلس جوارها ويقر.. هنا تتربع لمياء على الأرض جوار القدم المجعدة المليئة بالعروق، وتتأمل مسام الجلد في شغف وفضول

كسول.. لا تعرف شيئا عن العالم.. مفعمة بالجمال.. هادئة الطباع.. هذا هو مزيج الطباع الذي تتوقعه من فتاة نشأت في شارع المشاط

كانت تسأل أمها في فضول:ـ
ـ هل تسمعين عن حوادث القتل هذه؟
فتقول الأم في شرود:ـ
ـ أسمع
ـ كلها في شارع المشاط.. لقد مات أربعة

تقول الأم:ـ
ـ كلنا يعرف ذلك.. ونعرف أن القصة مستمرة.. سوف يموت آخرون
ـ والسبب؟
ـ نحن لا نسأل أسئلة.. سوف تعرفين عندما تكبرين
وتواصل الأم تنقية الأرز في هدوء تام.. بينما لمياء تتأمل الشارع الهادئ من جديد متسائلة عن البيت القادم والضحية التالية

-10-

كنت جالسا في الجريدة أدخن وأرمق الفضاء من النافذة الضيقة
هنا دق جرس الهاتف فرفعته في كسل.. جاء الصوت المميز يقول:ـ
 ـ هديتك في السلة أمام الجريدة

بالطبع كان من المستحيل أن نراقب سلة المهملات للأبد أو نضع كاميرا تراقبها.. ربما يصير هذا حتميا فيما بعد. أما الآن فعليّ أن أهرع للصندوق لأرى.. ليس لي من دور إلا التيقن من صحة نظريتي أو فسادها لا أكثر.. من الصعب أن أمنع جريمة القتل التالية

هرعت خارج الجريدة وبحثت في صندوق القمامة.. خمس مرات في شارع المشاط.. هذا رقم مرتفع جدا.. السفاح الذي قرر أن واجبه إبادة سكان الشارع، وهم قوم مسالمون جدا ينتظرون دورهم كالخراف في المذبح.. هذا شعور قوي أشعر به كلما رأيت شارعهم

في شارع المشاط لا توجد سياسة.. في شارع المشاط لا توجد دولة ولا حكومة.. في شارع المشاط لا توجد أوبئة.. إنه شارع غريب متفرد على هامش الوجود.. على هامش التجربة الإنسانية ذاتها، وعلى الأرجح سوف أبحث عن شخص يعرف تاريخ هذا الشارع.. من هو المشاط؟

كنت أفكر في هذا وأنا أعبث في صندوق القمامة
أخيرا أخرجت الطرد.. فتحته في لهفة كالعادة
كان مبطنا بورق الزبد الشفاف.. وقد التفَّ حول حرف ذهبي صغير.. حرف
D
يبدو أنه منزوع من قلادة ذهبية.. خفيف جدا، فلا أحسب أنه كلف صاحب الطرد الكثير من المال
هرعت إلى داخل الجريدة وطلبت عزت

جاء صوته المتململ شأن من أيقظته من نوم محبب.. فقلت في انتصار:ـ
ـ شارع المشاط من جديد
أطلق السباب على الفور:ـ
ـ الله يخرب بيتك! ما الهدية هذه المرة؟
ـ حرف ذهبي
ـ ومعنى هذا؟
ـ البيت الذي يحمل رقم خمسين طبعا
أطلق سبة أخرى وأدركت أنه يرتدي ثيابه والسماعة تحت ذقنه.. سوف يفتح أبواب الجحيم حالا

أرسل إلينا القاتل قطعة من ذهب ليقصد البيت رقم 50 ـ (رسوم: فواز) ـ

-11-

في لحظة رائقة من التفكير ، أدركت أن القاتل ينذرنا بجرائمه بطريقة مبتكرة، هي العناصر التي ترمز لانقضاء السنين.. أنت تعرف العيد البرونزي والعيد الماسي... إلخ

عندما أرسل إلينا حزاما جلديا في طرد، ماتت الضحية في البيت رقم ثلاثة.. العيد الثالث هو العيد الجلدي
عندما أرسل إلينا رباط حذاء كان يتحدث عن البيت رقم 13
عندما أرسل إلينا صورة ياقوتة كان يتحدث عن البيت رقم 40.. العيد الأربعون هو العيد الياقوتي
وعندما أرسل لنا طبقا من الصيني في طرد كان يتكلم عن البيت رقم 20
اليوم هي قطعة من ذهب.. إذن هو يتحدث عن البيت رقم 50

هذا يسهل الأمور.. ليست كل الأرقام مرتبطة بعناصر.. هذا يعني أن البيت رقم 23 مثلا أو البيت رقم 51 آمن تماما.. سوف يكون الخطر مقتصرا على الرموز المعروفة

هذا يسهل الأمور كما قلت.. لكن السفاح يغش بشكل واضح، صار يرسل إليّ الطرد بعد الجريمة وليس قبلها.. هكذا لا يمنحنا فرصة الاستعداد

النقطة الثانية هي الفهم.. لماذا يفعل ذلك ولِمَ اختار هذه الطريقة؟ لِمَ اختار شارع المشاط أصلا؟ ولماذا ينذرني أنا؟
ألغاز لا نهاية لها.. وفي نفسي تلاعبت رغبة خبيثة كريهة؛ لا تدعه يتوقف الآن يا رب! لو توقف لمتنا والفضول يخنقنا لمعرفة المزيد.. فلتستمر الجرائم إلى أن يرتكب خطأ جسيما أو نصير نحن عباقرة ونعرف كل شيء

كنت أفكر في هذا كله بينما السيارة تندفع نحو شارع المشاط.. السرينة تنطلق مولولة.. وعند مدخل الشارع أبطأ السائق السيارة ومضى بسرعة الرجل العادي نحو البيت الذي يحمل رقم خمسين
ترجّلنا سريعا وهرع عزت يدق الباب بقبضته كما يرى في السينما

قلت له في هدوء:ـ
ـ لا تتحمس جدا.. أعتقد أننا جئنا بعد فوات الأوان كالعادة
انفتح الباب.. هنا تراجعنا للخلف بسبب هذا الوجه الرقيق الذي تفتَّح في وجوهنا فجأة كزهرة.. فتاة شابة كانت ترمقنا في رعب، فشعرنا بأننا ألعن مجموعة من الأوغاد في التاريخ.. كيف تقع وجوهنا على هذه الشبكية الرقيقة؟

قال لها عزت بصوت مبحوح:ـ
ـ نحن من الشرطة.. هل أمك هنا؟
استدارت للخلف وصاحت:ـ
ـ ماما
ومن مكان ما ظهر قط فضولي.. ثم ظهرت سيدة عجوز تمشي كالبطة بسبب الروماتيزم المفصلي، وترتدي قميص نوم باهتا رثَّا

كانت عيناها متسعتين في ذعر.. وتساءلت ورائحة البهارات تتصاعد منها:ـ
ـ شرطة؟ لماذا؟
ابتلع عزت ريقه ثم قال:ـ
ـ هل أفراد أسرتك بخير؟ كم عدد أفراد أسرتك؟
ـ أنا وابنتي فقط

نظر إليّ عزت نظرة ذات معنى.. إما أنني أحمق وغبي، وإما أن الجريمة لم تقع بعد.. وهذا يعني أن استنتاجي كان ذا منفعة أكيدة

.......

يُتبع