قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Thursday, March 28, 2013

الشيء في الصندوق - 2


عندما يخرج الجنون من القمقم، فلا شيء يقدر على إعادته
لأسباب ما يخرج هذا الغاز من الأنبوب، ثم يتسرب في كل مكان. لا أحد يقدر على جمع الغاز أو حبسه
هكذا كان اللحاد جالسا في تلك الغرفة الصغيرة عند مدخل المقبرة

كان جالسا أمام بابور الجاز -موقد البريموس حتى لا يتضايق اللغويون- وقد وضع فوقه إناء صغيرا به ماء ولحم وبصلة.. وكان يرمق النار متلمظًا.. الليلة سيكون العشاء دسما. صحيح أنها لقمة جاءت من نبش القبور.. أي أن ما يطبخه هو مجازيا لحم موتى، لكنه كان قد تجاوز مرحلة هذه الاعتبارات الأخلاقية
سمع طرقات على الباب الخشبي المتداعي. فنهض ليفتح

في اللحظة التالية كان الأخوان في الغرفة، وقد استطاع أن يرى الشيطان في عينيهما.. الشيطان.. هذا مشهد رآه من قبل ويعرفه
ـ خيرا؟ لماذا عدتما؟
قال هشام لاهثًا:ـ
ـ الصندوق خاو.. لا يوجد شيء
ـ هذا شأنكما.. ليست مشكلتي
هنا قال صلاح وهو يمسك بالرجل من فتحة الجلباب ويجذبه:ـ
ـ نحن نعتقد أن شيئا كان في الصندوق وقد تمت سرقته

أمسك صلاح الرجل من فتحة الجلباب وجذبه ـ (رسوم: فواز) ـ

صاح الرجل أنه لم يفعل.. عندما تكون ضيق العينين خبيث النظرات نحيلا كفأر، فإن إنكار التهمة هو بالضبط الأسلوب المناسب لجعلك تبدو كاذبا
راح الرجل يقسم.. أنتما حصلتما على الصندوق.. أنا نلت الحلوان.. انتهى الأمر.. ماذا تريدان بعد هذا؟
ـ نريد الشيء الذي في الصندوق
ـ لم يكن هناك شيء في الصندوق

كان الغضب قد بلغ الذروة.. وكل محاولة إنكار تؤكد لهما أنه سرق شيئا.. هكذا ازداد الضغط على ذراعه.. يمكنك سماع العظم الهش وهو يوشك على التحطم
ـ تكلم

السباب ينهال على رأس الرجل، والصفعات.. شابان قويان غاضبان مع رجل هش وحيد. في النهاية سقط على الحصيرة الموضوعة على الأرضية فراحا يوجهان الركلات لرأسه.. لم يعد هناك تعقل.. ركلة... ركلة.. ركلة... سوف يمر وقت طويل قبل أن يدركا أنهما أحمقان وأن فرصة استجوابه انتهت

توقفا ونظرا إلى المشهد
ـ لقد مات يا صلاح
كان المشهد مؤكدا ولا يحتاج إلى تخطيط مخ وتخطيط قلب للرجل الراقد على الأرض. وفي لهفة راح الشابان يفتشان في الغرفة. عن ماذا؟ لا يعرفان.. عن الشيء الذي جعلهما يقتلان لأول مرة.  الآن برز احتمال معقول هو أن الرجل صادق.. لقد تسرعا جدا

لم يتفقا على الخطوة التالية، لكنهما وجداها بديهية.. كل شيء في هذه الغرفة يحمل بصماتهما.. لذا أطفأ هشام البابور -موقد البريموس حتى لا يتضايق اللغويون- وفتح الصمام ثم راح ينثر السائل قوي الرائحة في كل مكان. للأسف لن يأكل أحد هذا اللحم الذي نضج.. لكن دعنا نتذكر أنه معنويا أقرب للحم الموتى. على باب الغرفة ألقى هشام بالثقاب المشتعل، وفرا بعيدا قبل أن يتعالى اللهب
سوف يحترق كل شيء

على الأرجح لن يتعب الطبيب الشرعي نفسه في البحث، ولن يجد آثار التهشيم في عظام الجمجمة.. لسنا في قصة لأجاثا كريستي هنا
فلنفر

*******

كانا يرتجفان.. وشعر هشام بأن القتلة أشخاص فوق الواقع. كيف تمارس حياتك بشكل طبيعي بعد الفتك بإنسان؟
هناك في الشقة دخل كل منهما الحمام ليغتسل، ممارسا مشاعر ماكبث بعد قتل دونكان (لو اجتمعت بحار العالم جميعا على محو هذا الدم ما استطاعت)ـ

في النهاية جلس هشام يدخن وينظر إلى الصندوق المربع الصغير. مشئوم.. نحس.. مد يده وعالج المسمار المحوي.. استطاع أن يفتحه ويخرج الوريقة الغامضة التي حيرته من قبل، فراح يتأملها:ـ

جلس هشام يدخن وينظر إلى الصندوق ـ (رسوم: فواز) ـ

ولما توارى شعاع الأصيل
وعدنا من الغاب نبغي الرحيلا
دعت لي بسلوى وصبر جميل
إذا ما الوصال غدا مستحيلا
وتسمع في الليل همس القبور
وأنفاس من غاب عودا نحيلا

ما معنى هذه الأبيات السخيفة؟
قرأها بصوت عالٍ على مسمع صلاح، وكان الأخوان يمقتان الشعر طبعا ولا يفهمانه لهذا لم يحصلا إلا على فكرة عامة عن معنى هذه الأبيات
جلب صلاح زجاجتي خمر، وصب في كأسين كبيرين.. منذ زمن عرف الأخوان أنهما لا يتصنعان أي شيء أمام بعضهما. لهذا فعلا كل الموبقات أمام بعضهما دون خشية

بعد الكأس الرابعة قال صلاح بلسان معوج:ـ
ـ أنا قد أكون وغدا منحلا.. لكني لست قاتلا.. هذا أقوى مني
قال هشام بلسان أكثر اعوجاجا:ـ
ـ يجب أن تنسى هذه الجريمة.. تنساها وتنسى أنك نسيتها.. لم يبقَ منها سوى غرفة محترقة ورماد
ـ ربما احترقت لكنها ستظل حية في ذاكرتي.. سوف يطاردني المشهد ما حييت

ثم نهض مترنحا نحو الباب وهو يستند إلى الجدار
ـ إلى أين العزم؟
قال صلاح:ـ
ـ لا أستطيع قضاء الليل هنا.. لا أستطيع أن أراك أمامي.. سوف أبحث عن مكان آخر
ـ ليس من الحكمة أن تخرج وأنت ثمل.. من الوارد أن ينزلق لسانك

قال صلاح وهو يعالج المزلاج بيد راجفة:ـ
ـ هذا ما أنويه فعلا... سوف ينزلق لساني
ـ هل تمزح؟
ـ ربما كان في هذا خلاصي
وواصل معالجة المزلاج

الخمر لها إرادة خاصة بها.. تدهشك دوما بما تفعله وأنت لا تعرف أنها فعلته. لا يعرف هشام كيف طارت الزجاجة من يده لتضرب أخاه في مؤخرة رأسه
عندما سقط صلاح على الأرض تذكر هشام الألعاب الغليظة الخشنة التي كان يمارسها في طفولته مع أخيه.. كان يمزح.. هذه ألعاب أطفال خشنة نوعا لكنها ألعاب.. هو لم يقتله.. بالتأكيد لم يفعل.. فقط أراد منعه من التمادي

صلاح يرقد الآن خلف الباب والدم ينزف من مؤخرة رأسه والزجاج المهشم تناثر على الأرض
إنه نائم.. بالتأكيد هو نائم.. لا توقظوه
ضحك هشام كثيرا وهو يراقب أخاه النائم.. لعب أطفال ظريف
عاد للمقعد وأشعل لفافة تبغ أخرى.. الدخان يرسم اسم هشام واسم صلاح في فراغ الغرفة

صندوق لعين قذر.. لقد جعل الأخوين يتشاجران.. صب لنفسه كأسا أخرى
مد يده إلى الصندوق وراح يعبث بأنامله.. لقد عبثت بهما العمة اللعينة.. لم تترك شيئا لكنها تركت لهما دعابة قاسية فعلا
أخرج الوريقة المقيتة التي كتبت فيها الأبيات

ولما توارى شعاع الأصيل
وعدنا من الغاب نبغي الرحيلا
دعت لي بسلوى وصبر جميل
إذا ما الوصال غدا مستحيلا
وتسمع في الليل همس القبور
وأنفاس من غاب عودا نحيلا
وقابيل يلقى أخاه الحبيب
فتجري الدماء ويهوى قتيلا

حك رأسه مرتين.. أغمض عينيه وراح يحاول أن يجعل بصره أقوى.. وربما بصيرته
هذه الأبيات اللعينة.. كانا بيتين فقط.. هو متأكد من هذا.. لا شك في هذا
هذه القصيدة تستطيل! إنها تزداد بيتا كلما هلك إنسان آخر

.......

يُتبع

Thursday, March 21, 2013

الشيء في الصندوق - 1


فريشت.. فريشت.. فريشت
الصوت يحطم الأعصاب. يمكنك أن تجن بلا مبالغة. هناك تلك النغمة المكتومة، وهناك ذلك الإحساس القوي بالتربة الرطبة.. قليلة هي الأصوات التي تنقل لك رائحة العفونة، لكنها الحقيقة

فريشت.. فريشت.. فريشت
كلب ينبح من بعيد وهو مولع بأن يطيل نغمة النباح لتتحول إلى عواء طويل موحش. أما عن ذلك الصوت فأنا لم أسمع صوت البومة إلا في السينما.. ربما كانت بومة.. لو لم تكن فهي كارثة

على ضوء الكشاف يعمل اللحَّاد في فتح القبر. لا تراه إلا بصعوبة، لكنك تعرف مهمته المشئومة.. بينما يقف هشام وصلاح خارج القبر متوجسين يتلفتان في ذعر.. أخوان.. يمكنك أن تدرك هذا من الملامح المتشابهة

على ضوء الكشاف يعمل اللحَّاد في فتح القبر ـ (رسوم: فواز) ـ

هذه ملامح أكلة لحوم بشر أو مصاصي دماء.. لا شك في هذا.. الوجه الأسمر والنظرات الزائغة والخدان الغائران.. الحقيقة هما ليسا مصاصي دماء بالمعنى الحقيقي بل بالمعنى المجازي

هشام يمسك بلفافة تبغ متوترا وينفث كميات دخان لا يمكن وصفها.. السبب هو أنه يريد أن ينسى الرائحة الكريهة الخانقة. صلاح لا يدخن، لذا لف أنفه بمنديل وحاول ألا ينظر

فريشت.. فريشت.. فريشت
الهواء يدخل إلى العمة التي توفيت منذ أسبوع.. طبقة الأسمنت ما زالت هشة بليلة من الداخل. الرائحة قاتلة.. وفكرة أن تفتح العمة عينيها القاسيتين لتقول لهما:ـ
ـ مش عيب كده يا ولد منك له؟
لن يعيشا بعدها. سوف يسقطان ميتين.. هذا أكيد

لكن اللحَّاد بالداخل، وهو يعرف ما يفعله.. مع اللحَّاد أنت مطمئن. الطمأنينة الرتيبة للاحتراف.. هذا أقوى من أي شبح أو مسخ. هناك على الأرض بعض من لا يخافون الموتى.. من يؤمنون أن هذا القبر لا يحوي إلا بروتينا متحللا وكبريتا وكربونا وهيدروجينا

سحابة دخان أخرى

أخيرا تظهر الساقان النحيلتان للحَّاد وهو يخرج.. بالطبع يمارس عمله بالكلسون الداخلي، وعندما يخرج تدرك أنه رجل نحيل ضامر
ـ سيجارة 
ناوله هشام سيجارة بيد راجفة وأشعلها له. جفف اللحَّاد عرقه وسحب نفسا عميقا ثم قال:ـ
ـ هذه هي

في يده كان الصندوق الصغير.. الصندوق الذي يذكرك بعلبة شاي مبطنة بالقطيفة.  بالطبع صارت لهذا الصندوق أهمية سيكولوجية ثقيلة بعد ما ظل في كفن الفقيدة أسبوعا كاملا. لقد اتسخ بتابوت الموت لو كنت تفهم ما أعنيه

كانا يعرفان أن الصندوق يحوي سرا مهما.. ويعرفان أن العجوز ظلت تحتفظ به حتى آخر لحظة في حياتها، ويعرفان أنها طلبت أن يدفن معها فلا يراه أحد سواها

كان الصندوق مفعما بالاحتمالات.. صندوق بهذا الحجم لا يمكن أن يضم مالا.. على الأرجح يضم حجرا نفيسا أو قطعة حلي لا تقدر بثمن. إن أسرة الفقيدة نفذت الوصية حرفيا.. العمة لديها أغبى مجموعة من الأولاد يمكنك أن تجدها في حظيرة.. لم يخطر ببال أحدهم أن يفتح الصندوق أو يلقي نظرة. نفذوا وصية أمهم حرفيا وخاطوا الكفن على السر

حسن.. هناك أشخاص لا يقبلون الأمور كمسَلّمات. هذه هي العجينة التي جاء منها المستكشفون القساة الذين ذبحوا شعوب أمريكا الجنوبية، ولم يكن هشام وصلاح يحبان عمتهما البتة، كما أنهما كانا من الطراز.. لن أقول الطراز المفلس.. بل هما من الطراز الذي تتجاوز طموحاته وشهواته دخله. هكذا وجدا أنهما يرغبان فعلا في معرفة محتويات ذلك الصندوق

لن يؤذي هذا العمة العزيزة.. الشاه لن يضيرها سلخها بعد ذبحها، والقصة كلها رمزية على كل حال.. تغيير وصية ميت أمر ذو قيمة معنوية أخلاقية لا أكثر

وعندما أخذا الصندوق كانا يشعران باحتقار بالغ نحو اللحَّاد برغم كل شيء.. كل اللحَّادين لصوص قبور بطبعهم، وهم مستعدون لبيعك لمن يطحن عظامك ليجعلها سمادا أو لطلبة الطب أو لمن يطعمك للخنازير.. لكن يظل السؤال قائما: هل فتح اللحَّاد الصندوق؟ هل أخذ شيئا ما؟

احتمال قائم خطر.. لكن كيف يثبتان العكس؟.. خطر لهما على كل حال أن الوقت ضيق.. لم يجد اللحَّاد فرصة ليسرق ما في الصندوق

وأخيرًا نقدا اللحَّاد ماله، واتجها بالصندوق المريع نحو البيت

**********

لدى الأخوين شقة مفروشة يقيمان فيها بعيدا عن باقي الأسرة، وبما أن مزاجهما واحد فقد كانا يتبادلان ساعات استخدام الشقة.. الليلة هما بحاجة لأن يكونا معا

عالج هشام الصندوق.. كان هناك مسمار محوي صغير يغلقه فرفعه، وألقى نظرة للداخل. رائحة العمة العطرية الخفيفة تملأ داخل الصندوق فعلا

أخرج وريقة صغيرة مطوية من داخل الصندوق.. ثم بدت على وجهه خيبة الأمل.. لا شيء.. لا شيء على الإطلاق.. فتح الصندوق بقوة، ثم استلّ سكينا فراح يمزق أستار الصندوق.. بعد لحظات تحول الصندوق إلى نفايات.. لا يوجد شيء

همس صلاح وهو يرتجف:ـ
ـ افتح الورقة
بيد واحدة فتح هشام الورقة الصغيرة، وقرأ بصوت عال:ـ
ـ هذا شعر.. بيتا شعر يقولان:ـ

ولما توارى شعاع الأصيل
وعدنا من الغاب نبغي الرحيلا
دعتْ لي بسلوى وصبر جميل
إذا ما الوصال غدا مستحيلا

فتح هشام الورقة الصغيرة وقرأ بصوت عال ـ (رسوم: فواز) ـ

قال صلاح في خيبة أمل:ـ
ـ ما هذا الكلام الفارغ؟
قال هشام محاولا الفهم:ـ
ـ صبرا.. هذه قصيدة.. هناك شفرة كالعادة.. شفرة كلمات معينة تقود لمكان كنز.. أنا متأكد من هذا, لا أحد يصر على دفن هذا الهراء معه في القبر ما لم يكن.. ـ

ثم راح يحرك شفتيه محاولا الفهم:ـ
ـ ربما هناك شارع اسمه الأصيل. ربما هناك غابة دفن فيها المال.. من هي سلوى؟
نهض صلاح غاضبا:ـ
ـ القصة بسيطة.. المرأة قد جنت.. هذا كل شيء

ثم تقلص وجهه وهتف في توحش:ـ
ـ أو اللحَّاد قد خدعنا
ـ هذا وارد
وتبادلا نظرة وحشية.. لم يكن عنده وقت كاف للسرقة
أم كان عنده؟

الأمر ليس صعبا.. في ظلام القبر يجد الصندوق.. يزيح المسمار. يجد جوهرة أو حلية.. يدسها في جيبه. يخرج مغبرا لاهثًا إلى الأبلهين في الخارج

ما يعرفه صلاح هو أنه تناول سكينا بينما تناول هشام خنجرا، وانطلق الاثنان لا يلويان على شيء نحو المقبرة
يجب أن يتكلم اللحَّاد وإلا فالذنب ذنبه

.......

يُتبع

Monday, March 18, 2013

من فنون التثبيت



هناك أشياء تظهر فى العالم بمجرد أن يتم صك المصطلح الخاص بها، وقد لاحظ الساخر العظيم مارك توين أن مرض السرطان ظهر بعد ما اخترع العلم مصطلح السرطان، لذا هو يؤرخ قائلاً (قبل اختراع السرطان كانت الأمور كذا وكذا..). نفس الشىء بالنسبة للتثبيت.. قبل أن يظهر مصطلح (تثبيت) لم يكن هناك تثبيت على ما أذكر.. كان هناك سطو مسلح..فما بعد شاع التثبيت، ويبدو أنه جزء من ثقافة العصر

لن أزعم على طريقة حزب (احنا آسفين يا ريس) أن الحياة كانت جنة قبل الثورة. أذكر قبل الثورة بأشهر أننى كنت مدعوًا لحفل توقيع فى القاهرة، وعندما وصلت السيارة إلى شبرا اتصل بى ابن شقيقتى ليخبرنى بقصة مسلية؛ هى أن لصًا صعد وراء أختى فى سلم بيتها بطنطا، وانتزع الحقيبة التى كانت تحملها.. النتيجة أنها فقدت توازنها وتدحرجت طابقين كاملين، بينما فر هو بالحقيبة. هذا عمل يحتاج إلى أعصاب قوية من اللص ليدخل بيتًا ويصعد فى الدرج وينتزع حقيبة سيدة تقف على باب شقتها. هكذا عدت أدراجى.. لم يعد من الممكن الذهاب لحفل توقيع بينما لا أعرف ما يدور فى طنطا فعلاً

فى ذات الزمن كانت هناك قضايا مثل سفاح بنى مر وابنة ليلى غفران واختفاء رضا هلال، وهى قضايا دخلت دائرة الألغاز الكونية التى لن نعرف حلها إلا عندما نموت.. وكنا نشكو أن الداخلية لا تهتم بالأمن الجنائى بتاتًا بل جل اهتمامها هو الأمن السياسى وأمن الأسرة المالكة. وكنت تذهب للشرطة تشكو شبابًا ضربوك أو يتحرشون ببناتك فينصحك الضابط بأن تستأجر بعض البلطجية. وقبل الثورة بأيام حدث انفجار الكنيسة الأشهر والذى لم تعرف أسراره بعد، وقال البعض بلا دليل إن مدبره هو العادلى... لا أنفى ذلك أو أصدقه ولكن أطالب بالتحقيق. الشرطة لم تكن بالكفاءة التى نتخيلها قبل الثورة برغم أنها كانت بكامل عافيتها.. آخر مقال كتبته قبل الثورة كنت أطالب فيه باستقدام خبراء أجانب لإصلاح المنظومة

بعد الثورة استمرت حالة الانفلات هذه وتفاقمت، إلى أن بلغت ذروتها هذه الأيام، ومن الواضح تمامًا أن انهيار الشرطة هو الحل السحرى للكثيرين لأنه يقود لنزول الجيش لتولى مقاليد الحكم.. بيان أول للقوات المسلحة.. مظاهرات لا يكن.. اعتصامات لا يكن..إخوان لا يكن.. الله.. الوطن

المجد للتثبيت فهو لغة العصر.. ويبدو أن السنجة والكزلك صارا ينتميان لعصر عزيز لن يعود، بعد ما صار السلاح الرسمى اليوم هو البندقية الآلية... يقول أحد المعلقين الظرفاء على الإنترنت إنه يفتقد زمن الأخلاق الجميلة عندما كانت لفظة (ابن الكلب) تعتبر شتيمة

مؤخرًا كان هناك حفل توقيع فى الزمالك فى مكتبة دار الشروق، وقد قمت بترتيب كل شىء للسفر مساء. عدت لبيتى فى طنطا بصعوبة بالغة ظهرًا لأن طوابير السولار تسد كل مكان. السيارات تقف ثلاثة صفوف أمام محطات البنزين وعليك أن تمر بسيارتك من ثقب الإبرة.. فى البيت اتصل بى السائق الذى سيقود سيارتى إلى القاهرة، وكان فى مشوار فيها صباحًا... قال لى باختصار شديد إن الأحوال زى الزفت، وإن القاهرة مغلقة تمامًا بسبب إضراب سائقى الميكروباص، وإن الطريق السريع عجين من السيارات التى لا تتحرك، وأنه تلقى الكثير من قوالب الطوب فى كل نفق مر تحته، وإن معظم السيارات تعود من القاهرة لأنها عاجزة عن دخولها.. ثم قال فى لهجة حيادية:ـ
ـ«لكن أنا تحت أمرك!»ـ

اتصلت بصديقين فى القاهرة فقالا لى إنه من الحكمة ألا أسافر.. اليوم بالذات.. طبعًا كانت القطارات معطلة لمدة ست ساعات لأسباب مماثلة، وكل الطرق مغلقة فى مصر.. صار من ثقافة الثورة أن تبدأ يومك بغلق الطريق أولاً لأنك محتج أو لأنك غاضب، ثم تعلن مطالبك. وهكذا لم يعد من مناص سوى الاتصال وإلاعتذار عن عدم الحضور

يبدو أن القرار كان حكيمًا لأن أحد معارفى تم تثبيته قرب قويسنا فى نفس اليوم والوقت، مع محاولة سرقة سيارته، وتم إطلاق الرصاص عليه لكنه نجا بحمد الله

عندما مررت بميدان المحطة حكوا لى عن الرجل الذى كان يركب دراجته فى الثانية صباحًا ليشترى دواء لابنته، وتم تثبيته.. تلقى طعنات قاتلة ثم ألقوا به من فوق الكوبرى ليتهشم

اتصلت بصديقى الطبيب فوجدت أنه تم تثبيته مرتين أثناء عودته من العيادة. يبدو أننا تحولنا إلى دولة من المثبّتين - بكسر الباء -والمثبّتين  - بفتح الباء -. صيدليات كثيرة من ذوات الخدمة الليلية قامت بتركيب بوابة حديدية ذات نافذة، بحيث يتعامل الصيدلى من خلالها مع الجمهور الليلى.. الجمهور المتعطش للترامادول طبعًا، والذى سيقوم بتثبيت الصيدلى للحصول على كل قرص ترامادول فى الصيدلية

واضح أن التثبيت هو الموضة، وأن من يثبّتون سوف يتم تثبيتهم.. وهكذا. إلى أن نصل إلى وضع توازن شبيه بتوازن الغازات، وهكذا تستقر الأمور ولا يثبت أحد الآخر لأن الدورة شملت الجميع

والحل؟ لايبدو هناك حل فى الأفق. الكلام عن الضبطية القضائية والميلشيات كلام فارغ بالتأكيد وهو بالفعل وصفة الحرب الأهلية الجاهزة.. أنت تعرف ما سيحدث بالضبط عندما تعتبر كل فئة أن الصواب فى جانبها وتحاول فرضه بالقوة. فى الحقيقة أثير الكثير جدًا من الدخان والصخب حول بيان النائب العام، وكنت أتمنى أن أقول إن وراء الدخان لا توجد إلا نار ضئيلة أو لا نار على الإطلاق، لكن فوجئت بالأخ الزمر يتكلم فى قناة (الجزيرة مباشر) عن الميليشيات الإسلامية مستحسنًا، ووجدت تصريحًا للداعية فوزى السعيد يقول: "لولا أن رئيس الجمهورية أمر ألا يحمل السلاح فى أحداث الاتحادية لرأوا منا ما لا يتوقعونه، وأقول للأقلية الخارجة -المارقة- على رئيس الجمهورية لن تستطيعوا مواجهة الشعب بأكمله، وإذا احتدم الأمر فسيرون منا ما لم يكونوا يحتسبون". وهو كما ترى كلام يصعب الدفاع عنه أو الالتفاف حوله. كلام الشيخ يقول بالضبط إن لدينا السلاح لكننا لم نستعمله، ونحن جاهزون للعنف متى اقتضت الضرورة

هل حقًا تقدم هذه التصريحات خدمة لمرسى أو تهدئ النفوس المشتعلة؟.. وفى الوقت الذى تنفى فيه الحكومة موضوع المليشيات هذا تؤكده هذه التصريحات

فى لقائه مع هيكل، شبّه تيتو يوغوسلافيا بحفنة رمال يمكن بالضغط أن تتحول إلى كتلة شبه متماسكة، لكن ما إن يزول الضغط حتى تتفتت ثانية. يمكن القول بوضوح إن قبضة الحكومة متراخية تمامًا على الرمال. قلت من قبل إن مرسى يقود البلاد إلى حيث يريد بالضبط. إنه ذكى لكنه لا يتمتع بالكفاءة أو الحزم. أوضاعنا تزداد سوءًا بلا توقف، ويمكن تخيل ما سنصل له بعد عام من هذه المتوالية. الحل ليس فى إزاحة مرسى أو استعداء الجيش عليه كما يفعل الإعلام أربعًا وعشرين ساعة. هذا هو طريق دخول النفق المظلم الغارق بالدماء الذى لن يخرج منه أحفادنا

الحل الوحيد هو الانتخابات المبكرة وهذه ليست بدعة، وكل دول العالم المتحضرة تلجأ لها.. لنجدد الثقة بالصندوق ولتخضع الانتخابات لأعلى رقابة ممكنة.. إما أن يقول الصندوق إن الناس تريد استمرار مرسى، فليبق إذن ولتهدأ النيران والعواصف.. وإما أن يقول الصندوق إنه لا يريد الرجل.. فليرحل فورًا وليأت من يستطيع أن يجمع حبات الرمل هذه.. ليأت من يستطيع وقف مسلسل التثبيت

Thursday, March 14, 2013

في شارع المشاط - اﻷخيرة


المؤلف: والآن حان الوقت كي نتفرق.. لن نبقى جميعا في مكان واحد. قد أقدم لك نهاية لا تروق لك، لذا أنصحك من اللحظة الأولى أن تختار النهاية التي تناسبك، وتريح نفسك من قراءة نهايات أخرى

هذا ليس اختراعا خاصا بي.. معظم قصص إيلري كوين البوليسية كانت تضم أكثر من نهاية. لو كنت قد قرأت جوهرة النجوم السبعة -التي ترجمتها أنا منذ فترة- لرأيت أن برام ستوكر اختار لها نهاية كئيبة مخيفة، وبعد وفاته قام مؤلف آخر بكتابة نهاية باسمة، وأنت تختار النهاية الأنسب حسب مزاجك السوداوي

هناك قراء يحبون طراز قصص الفنديتا والمنتقم العائد.. أقترح أن يطالعوا النهاية "أ".. ساعة الانتقام

هناك قراء مولعون بالرعب والجو الشيطاني لذا أنصحهم بالنهاية "ب".. اليوبيل

هناك قراء يحبون النهايات المفتوحة المستفزة التي لا تقول شيئا وتترك لخيالك الكثير.. أنا شخصيا من هذه الطائفة، لذا أقترح النهاية "ج".. اللعبة

هناك قراء لا يحبون أي شيء أكتبه.. حسن.. لا أملك لهم سوى الاعتذار

*******************

النهاية "أ" ساعة الانتقام

عندما رأيت الموكب قادما من بعيد أدركت من يحيطون به
كان رجلا شرطة يحملان ما بدا لي كجثة فتاة.. صرخت الأم في هلع وارتمت على ركبتها، لأن ساقيها لم تعودا قادرتين على حملها

كان رجلا شرطة يحملان ما بدا لي كجثة فتاة ـ (رسوم: فواز) ـ

 عندما دنوت أكثر رأيت الوجه الجميل نائما نومته الأخيرة.. وأدركت أن الرأس تهشم تماما
كانت دموعي تسيل بلا توقف.. هذه المرة فقدت وقاري وانحنيت أطوقها بذراعي، وسمعت عزت يكرر السؤال:ـ
ـ أين صديقتها؟ 
ـ كانت وحدها

صاح في الأم بجنون:ـ
ـ ما اسم صديقتها؟ أين تسكن؟
لم ترد المرأة.. كانت قد تحولت إلى نوع من النباتات العاجزة عن الكلام واتخاذ قرار

لقد وجد رجال الشرطة الفتاة عند تلك الفتحة التي تقود للشارع الخارجي. يبدو أنها كانت تحاول العبور عند المنحدر وبائع الفول إياه.. هناك كان القاتل ينتظرها ووجه لها ضربة عاتية على رأسها.. خمسة وعشرون عاما انتهت في لحظة

لقد فشلنا.. فشلنا مرارا.. القاتل أقوى مننا بمراحل

-15-

كان هذا منتصف الليل وأنا في بيتي.. أحملق صامتا في نار الموقد الذي وضعت عليه بعض الشاي.. لقد جف الشاي تماما لكني صرت عاجزا عن اتخاذ قرار.. لا أستطيع أن أطفئ النار

دق جرس الباب فاتجهت لأفتحه متسائلا عمن يكون هناك
كان عزت يقف هناك.. بدا لي مهموما ومعه كل الحق في ذلك
سمحت له بالدخول، ثم بحركات آلية أعدت ملء البراد لأعد له الشاي من جديد

وقف على باب المطبخ يراقب ما أقوم به، ثم قال في حرج:ـ
ـ أنت كنت تميل لها.. أليس كذلك؟
هززت رأسي موافقا أن بلى.. بعد صمت اتجه إلى شطيرة محشوة بالجبن الرومي على الموقد، وتناولها وقضم منها قضمة كبيرة.. سألته إن كان يريد أن يأكل فقال:ـ
ـ لا.. لم أظفر بشيء من الطعام منذ الصباح.. قضيت معظم اليوم مع أم لمياء هذه

نظرت له في حيرة، فقال:ـ
ـ عرفت منها أشياء كثيرة.. عرفت أن أهل الشارع يعتقدون أن لعنة حلت بهم، بسبب سوء معاملتهم لفتاة حملت سفاحا.. كانوا يكرهونها ويشعرون أنها ساحرة شريرة.. ثم اكتشفوا حملها فعاقبوها بشكل جماعي قاس.. ضربوها بقسوة وألقوا بها خارج الشارع.. أنت تعرف كيف تكون هاته النسوة ساديات قاسيات.. كان اسم الفتاة أحلام. هنا تذكرت شيئا.. تذكرت قصة حكيت لي عنها عن فتاة أنقذتها وأخذتها إلى المستشفى لكنها ماتت في يوم عيد ميلادها.. كان اسمها أحلام.. أنت وجدتها قريبا من الشارع، لكننا لم نعرف أي شيء عن كونها من شارع المشاط

نظرت له في تحد وتساءلت:ـ
ـ ماذا تريد قوله؟
ـ أعتقد أنك ارتبطت بهذه الفتاة أحلام جدا.. ولم تتحمل فكرة موتها بين ذراعيك. عندما ماتت.. حسن.. لم يحدث شيء.. لكن هل تعرف أننا كنا نراقب هاتف الجريدة منذ فترة؟ لم يتصل بك أي شخص اليوم ولا أمس.. أعتقد أن أحدا لم يتصل بك قط

ثم ابتسم في شيء من الشفقة وقال:ـ
ـ هناك فتاة اتصلت بنا وقالت إن رجلا دفع لها مالا كي تذهب لبيت لمياء وتصحبها معها إلى نقطة عند نهاية الشارع.. رحلت بعدها فلم تعرف ما حدث، لكن الرجل الذي وصفته يشبهك كثيرا
بدأت أتراجع.. بالفعل أنا لا أفهم عن أي شيء يتحدث.. الشاي يواصل الغليان على الموقد
ـ هناك شيء آخر.. في كل زيارة للشارع كنت تتعرف بالناس.. هذا معقول.. لكنك مهتم جدا بمعرفة سنهم.. هل تعرف سببا لهذا؟

ثم أردف وهو يواصل المضغ، حتى شعرت بدهشة بسبب الحزن المرتسم على وجهه مع أنه مستمر في الأكل
ـ هناك اثنان من رجالي رأياك في الشارع صباح الجريمة.. لم يبد لهما هذا ذا أهمية.. أنت تتردد على لمياء منذ فترة.. لكنك لم تقل قط إنك قابلتها يوم الحادث
ـ لم ألقها

ـ هذا أثار عدة أسئلة.. طلبت رأي طبيب نفساني.. هل تعلم ما قاله لي؟ قال إن هناك احتمالا أنك عشت طفولة قاسية وكنت طفلا منبوذا.. مشهد موت الفتاة البريئة قد هز توازنك النفسي ، وقد تمرد جزء من عقلك الباطن ليجعل منك قاتلا.. قاتلا ينتقم من سكان ذلك الشارع.. هكذا كان القاتل يرسل لك تلميحا صعبا من وقت لآخر. طبعا كنت تتخيل أن هناك اتصالا تم بك.. يضع لك الهدية في الصندوق لتخمن وتحاول أن تمنع.. الفارق هنا هو أنك كنت تقتل أولا ثم تهرع لتبعث بالإنذار لنفسك.. وكان الجزء الثاني منك يجري من الجريدة مذعورا ويحذرنا وهو في هذا صادق

كنت أرتجف بلا توقف.. هذا هراء.. كلام فارغ بالتأكيد
لكن.. في الوقت نفسه ثمة جزء من ذاتي يعرف أن هذا حقيقي.. حقيقي تماما
قال عزت في أسى:ـ
ـ أرجو أن ترتدي ثيابك وتأتي معي.. أنا آسف.. لو كنت بريئا سيكون علي أن أثبت هذا 
لم يكمل العبارة.. كنت قد تناولت براد الشاي وقذفته في وجهه.. سمعت الصرخة الشنيعة وهو يغطي ملامحه ويتلوى ألما.. فتحت باب الشقة واندفعت جريا قبل أن أبدل ثيابي
أحلام.. لمياء.. شارع المشاط.. الانتقام.. من أنا؟

أريد أن أنفرد بنفسي لأحاول الفهم.. ولكي أستطيع الفهم يجب أن أفر إلى مكان بعيد. لا يجب أن أسمح لهم بالقبض عليّ الآن.. ربما فيما بعد
سامحني يا عزت.. أنت تعرف أنني لست على ما يرام
يجب أن أعود لشارع المشاط بحثا عن إجابات. يجب

تمت

*********************

النهاية "ب" اليوبيل

رأيتهم قادمين
وعرفت على الفور أن رجلي الشرطة يجران فتاة يلوون ذراعها خلف ظهرها وهي تبكي.. لمياء بالذات.. ومن خلفهما كانت فتاة أخرى منكوشة الشعر تتحسس حلقها وتتهانف. صحت في عصبية محاولا منعهما:ـ
ـ صبرا.. سوف تهشمان ذراعها

أمرهما عزت بأن يخففا الوثاق، وهرعت الأم تصرخ وتولول فأمرها في خشونة أن تصمت.. استدار لرجليه فقال أولهما:ـ
ـ كانت هناك عند نهاية الشارع بين الجدارين، وكانت تلف الإيشارب حول عنق صديقتها الأخرى.. أعتقد أننا جئنا في الوقت المناسب

هل هذا صحيح؟ نظرة واحدة لوجه لمياء كانت كافية لتخبرك أن هذا صحيح
ولكن كيف؟ لمياء استدرجت صديقتها لتخنقها
لمياء هي القاتل

كنت أنا في حالة مزرية من الحيرة والدهشة. ولا أعرف كيف ولا متى وجدت أنني أنقض على لمياء لأضربها.. كنت غاضبا وشعرت بالإهانة لأنني مخدوع. لكن رجال الشرطة أمسكوا بي فورا، ورأيت عزت يغطي وجهه في إرهاق بكفه، ثم يقول لي وهو يلهث:ـ
ـ أرى أن ترحل الآن.. أنت بالذات سوف تسبب مشاكل لو بقيت هنا

ومن جديد لا أعرف كيف وجدت نفسي في سيارة شرطة تنهب الأرض لتعيدني لبيتي.. كانت في رأسي بؤرة مجانين.. لمياء هي القاتل؟ كيف ولماذا؟ هل استطاعت هذه الرقيقة أن تقتل هذا العدد ومنهم رجال أقوياء وأطفال؟ وما دوري أنا؟

ارتميت في الفراش في شقتي بثيابي وحاولت النوم

-15-

اتصل بي عزت وطلب أن ألحق به في مكتبه بمديرية الأمن حالا
لم أفهم ما يريد، لكنه طلب معتاد على كل حال.. صحفي الحوادث يذهب لمديرية الأمن أكثر مما يذهب لبيته

بعد ساعة كنت هناك، ودخلت مكتبه.. لأجد أن هناك اثنين معه، وكانت العجوز أم لمياء جالسة ترتجف.. وأمام العجوز كانت فتاة نحيلة ضامرة لها وجه سقيم كئيب لم أرها من قبل.. والكل كان يبكي كأنه مهرجان للعويل

قال عزت في لهجة انتصار:ـ
ـ السيدة أم لمياء قد تكلمت.. خوفها على ابنتها جعلها تحطم جدارا سميكا
نظرت للسيدة في عدم فهم فأضاف عزت وهو يشير للفتاة السقيمة:ـ
ـ سامية.. من سكان شارع المشاط.. كانت لها أخت ربما سبق لك أن عرفتها.. اسمها أحلام
سقط الاسم عليّ كالصاعقة فانتفضت.. لو كان هذا فيلم سينما لسمعت صوت ضربة الوتريات الشهيرة.. ما معنى هذا؟ ما دور أحلام هنا؟

قال عزت:ـ
ـ سامية رأت أختها تموت وأرادت أن تنتقم من الشارع كله.. كانت تعرف عنوانك وعملك وتعرف أنك حاولت إنقاذ أختها؛ لذا بدأت ترسل لك هذه الرموز لعلها تساعدك في الفهم.. كانت تتحدث بالرمز لأنها خافت أن تكون صريحة جدا

قلت معترضا:ـ
ـ لكن صوت المكالم...ـ
ـ لا مشكلة في أن تجعل رجلا يتكلم بدلا منها طلبا للتمويه.. طبعا نفس الرجل في كل مرة

ثم أشار إلى العجوز التي راحت تحملق فينا بعينين لا تريان تقريبا وقال:ـ
ـ ما تحكيه أم لمياء يعود لزمن بعيد.. كل سكان شارع المشاط يعرفون أن التضحية الكبرى قادمة، والسبب هو أنهم يمتون لعقيدة قديمة.. ليس هذا دينا سماويا نعرفه.. إنهم يعتبرون أنفسهم خطاة.. منذ قرن ينتظرون هذه الأيام. وعندما يلتقي الحكماء في بيت أحدهم ليلا ينفخون في البوق المصنوع من قرن الخروف.. معنى قرن الخروف بالعبرية هو اليوبيل.. كان العبرانيون يمارسون هذا في أسبوع الأسابيع كما يقولون. واليوبيل هو الاحتفال.. وهكذا يختارون الضحية القادمة ويختارون قاتلها.. طبعا لديهم قائمة بسن كل سكان الشارع

نظرت للعجوز في ذهول.. لا أفهم. القاتل هو..ـ
قال عزت:ـ
ـ القاتل هو كل أهل الشارع.. كل جريمة قتل كان لها قاتل مختلف من سكان الشارع.. يقتل صاحب الرقم المختار.. معظم سكان الشارع لا يعرفون السر إلا وقت التنفيذ، وعندها يجد القاتل نفسه تحت تأثير المخدرات.. مع تهديد بنبذه وانتحاره اجتماعيا.. هكذا بعد أيام من الضغط يفعلها.. لمياء لم تكن تعرف أساطير الكبار ثم عرفتها.. وقضت أياما تجاهد نفسها إلى أن اقتنعت ونفذت

ثم أشار إلى سامية وقال:ـ
ـ واحدة فقط حاولت خرق صمت الشارع.. السبب أنها لم تغفر لهم قتل أختها.. القتل الذي لم يتلق أي واحد عقابا عليه
كانت الفكرة أقوى مني
إذن سكان الشارع كانوا ينتظرون مصيرهم كالخراف.. كانوا يعرفون أن الذبح قادم لهم. ولماذا؟ من أجل عقيدة لا نعرف عنها أي شيء

لمياء كانت مرغمة على أن تقتل.. تقتل فتاة في الخامسة والعشرين من عمرها.. صديقتها ومن أترابها
قال عزت وهو يشير للمخبر كي يأخذ العجوز:ـ
ـ سوف يستغرق الأمر الكثير من العمل.. تحقيقات لا حصر لها.. لكننا سوف نصل للنتيجة. أعتقد أن مشكلة شارع المشاط قد انتهت

نظرت لسامية طويلا.. بالفعل أرى ملامح أحلام.. أحلام البائسة التي حولوها لجسد دام باك على قارعة الطريق.. القساة
قالت سامية بصوت مبحوح:ـ
ـ أنا اعتبرتك أخا لي.. برغم أنك لا تعرفني
لم أرد وغادرت المكان مهموما

-16-

جاءت المكالمة الهاتفية وأنا في الجريدة.. رفعت السماعة فسمعت ذلك الصوت المميز يقول:ـ
ـ هديتك في سلة المهملات
هل جن الجميع؟ لقد انتهت القصة.. سامية كانت ترسل الطرود.. صحيح أنهم لم يقبضوا عليها لكن لا أعتقد أنها ستعود لتمارس عملها بهذه السرعة

جاءت المكالمة الهاتفية وأنا في الجريدة ـ (رسوم: فواز) ـ

نزلت إلى الصندوق وبحثت.. أخرجت العلبة وفتحتها.. كانت تحوي قطعة من شعبة مرجانية جافة.. نحن نتكلم عن المرجان إذن.. هل أبلغ عزت؟
عدت لمكتبي وجلست أرمق القطعة. مرت عزة جواري فقالت ضاحكة:ـ
ـ كل عام وأنت بخير.. سوف يصير عمرك ستة وثلاثين عاما بعد أسبوع! أردت أن أستبق الأحداث وأهنئك

ابتسمت في عصبية
مرجان.. خمسة وثلاثون.. هل هي صدفة؟ أنا اعتبرتك أخا لي برغم أنك لا تعرفني.. هكذا قالت سامية.. هل يعني هذا شيئا؟ هل يعني أنهم يعتبرونني من سكان شارع المشاط ويسري عليّ ذات العهد؟
هذا احتمال خطر لو أردت رأيي

سأظل قلقا لفترة إلى أن أتخلص من عقدة الخمسة والثلاثين عاما هذه
أين ذهب الجميع؟ المكتب خال.. هذا ليس معتادا في هذه الساعة. بيني وبينك أنا أشعر بقلق بالغ.. يجب أن أرحل بسرعة
خمسة وثلاثون.. مرجان 
شيء مقلق فعلا

تمت

******************

النهاية "ج" اللعبة

كانت لمياء قادمة مع رجلي الشرطة
ممتقعة الوجه منكوشة الشعر لكنها حية وسليمة
لما رأتني هتفت في دهشة:ـ
ـ ماذا هناك؟ لماذا يلاحقونني؟

برغمي ركضت نحوها وأمسكت بيدها.. قلت لها:ـ
ـ كنت خائفا.. حسبت أنك الضحية القادمة
لم ترد ونظرت لي طويلا.. كانت ترتجف كورقة.. ترتجف أكثر مما يمكن أن يفسره الذعر من شرطيين. هل حدقتاها متسعتان أم أنني أتخيل؟ أطرقت إلى الأرض ورحت أنظر لقدميها. القدمين الصغيرتين كقدمي يمامة.. عندما تكون قدما الفتاة رقيقتين كهذه فإنها تقابل عددا هائلا من الرجال الخجولين المطرقين لسبب لا أعرفه! غير أنني لم أكن أنظر إلى القدمين.. كنت انظر إلى الحذاء الأسود، وأقسم أنني أرى عليه قطرات دم
ابتلعت ريقي.. وحاولت أن أنسى

بعد ساعة بالضبط جاء رجلا شرطة يخبراننا أن البيت رقم 23 فيه مشكلة خطيرة.. هناك فتاة شابة مذبوحة.. الفتاة في الخامسة والعشرين من عمرها، ويبدو أن الذبح تم من الخلف.. هناك من وقف خلفها ثم مرر النصل تحت ذقنها

لا.. لا يوجد سلاح جريمة.. القاتل تخلص منه أو أخذه معه
ابتلعت ريقي من جديد مع خواطري.. لن أندهش لو عرفت أن القتيلة صديقة لمياء. لم نعرف اسمها بعد لكن لمياء سوف تكتشف الاسم وتصرخ

-15-

كنا نمشي على كورنيش النيل، ونحن نعرق كوزي الذرة الساخنين
لمياء الجميلة التي تغلغلت في حياتي.. لا أريد شيئا سوى أن أهجر العالم وأعيش معها في شارع المشاط للأبد.. حكيت لها عن حياتي وعن وحدتي. حكت لي عن.. لا شيء.. هي لا تعرف شيئا في العالم سوى أمها وقطتها والأرانب

قلت لها إنني أريد الزواج منها.. أريد الحياة في شارع المشاط.. أريد أن أربي الأرانب معها ونجلس في العصر نراقب الشارع الهادئ 
قالت متحاشية النظر لي:ـ
ـ للشارع سر.. سر مخيف.. صدقني لن تحب الحياة فيه

سألتها:ـ
ـ هذا يتعلق بجرائم القتل تلك؟
قالت وهي تقذف بقايا كوز الذرة:ـ
ـ نعم.. لكن ليس الأمر كما تتخيل.. هناك قصة أعقد

نظرت في عينها بثبات وسألت:ـ
ـ أنت قتلت تلك الفتاة.. في اليوم الذي جئت لك ملهوفا
لم تتكلم.. كأن كلماتي صفعتها. لكن كلماتي كانت صادقة.. أعرف هذا.. هي لم تذبح أرنبا قبل أن تأتي لتقابلني يومها لكن حذاءها كان ملوثا بالدم.. لماذا كانت مذعورة؟

قالت بصوت كالفحيح:ـ
ـ أنت تعرف أشياء كثيرة.. أنا أريد شيئا واحدا.. أن تلحق بي في الشارع الليلة.. هناك أشياء لابد أن تراها
وعدتها بذلك وحددنا مكان اللقاء
وعند منتصف الليل كانت واقفة في الظلام على بعد أمتار من بيتها
لما رأتني رفعت إصبعها لتسكتني ثم مضت مسرعة وأنا ألحق بها

رأيتها تدخل مدخلا مظلما بين بيتين. ثم وجدنا سور شرفة صغيرا يطل على خرابة خلفية فوثبت لتكون بالداخل.. لحقت بها وقلبي يتواثب.. لا أعتقد أنها ستقتلني لكن لو فعلت فلن ألومها.. وقفت جوار باب شرفة موارب.. خلف الباب هناك غرفة واسعة مظلمة تنيرها بضعة شموع.. دنوت منها وحبست أنفاسي

أستطيع أن أرى داخل الغرفة خمسة أو ستة أشخاص ملتفين حول مائدة
أسمع كلاما غريبا يقال.. ثم سمعت صوت رجل يقول:ـ
ـ نفخنا في اليوبيل قرن الخروف.. والآن فلتمد أختنا يدها في الجوال وتلتقط الوحي القادم

ثم سمعت جلبة خافتة.. بعدها جاء الصوت يقول:ـ
ـ العاج.. لقد تكلم بعل.. سوف يكون العاج اختيارنا 
رفعت لمياء يدها من جديد تشير لي أننا سنعود.. ثم وثبت من جديد في خفة لتخرج من الشرفة، ولحقت بها في الظلام.. كانت تركض لاهثة متجهة نحو بيتها وأنا أركض خلفها

وقفت تلتقط أنفاسها المتقطعة ووضعت رأسها على كتفي وهمست:ـ
ـ هل فهمت؟ هل فهمت؟
ـ هذه طقوس ما

ـ هذه طقوس اختيار الضحية القادمة طبقا لاختيار اليوبيل.. العاج.. سوف يبحثون عن ضحية في الرابعة عشرة من عمرها بين سكان الشارع.. هذا نوع من القربان يتم بصورة دورية. لديهم تاريخ ميلاد كل سكان الشارع. القاتل سيكون من أبناء الشارع.. لا نعرفه لأنهم سيكلفونه بالمهمة قبلها بيومين.. أنا مثلا لم أكن أعرف أنني سأقتل ولم أكن أعرف موضوع اليوبيل هذا، ثم خضعت لضغط نفسي وعلاج بالعقاقير حتى صرت جاهزة

ـ لكن لماذا؟
ـ لأن معظم سكان الشارع من عبدة بعل. وهذا قربان قديم
ـ هذا مخيف.. معناه أن دورك آت يوما ما.. لا بد أن هناك أكثر من قطعة فضة عندهم
ـ هذا وارد.. الآن تفهم.. لو جئت لتعيش معنا في الشارع فعليك أن تقبل المرور باللعبة.. كم عمرك؟
ـ خمسة وثلاثون
ـ المرجان. المرجان سوف يحدد مصيرك يوما ما

سألتها في حيرة:ـ
ـ ولماذا تصلني هذه الطرود؟ ولماذا ينذرونني أنا بالذات؟
ـ أنت مددت يد العون قديما لفتاة من الشارع اسمها أحلام.. أعتقد أن واحدا من أقارب أحلام أو أخوتها يحاول أن يوقف الجرائم ويرسل لك تلميحات كي توقف هذه الجرائم
كانت عيناها واسعتين خائفتين

تذكرت شوارع القاهرة الكئيبة.. تذكرت الزحام والدخان.. تذكرت الجريدة.. تذكرت حياتي
الحقيقة أنني أنتمي لشارع المشاط.. أنا من سكانه
ربما أتلقى طردا فيه قطعة من المرجان وربما لا.. هذه مقامرة لا تستحق أن أفقد لمياء خوفا من خسرانها.. وبعد قليل سوف أفلت من قبضة المرجان.. سوف أتقدم في العمر وأدخل دائرة الياقوت 
ربما لا يصلني الطرد أبدا

ثم ما أروع هذه الإثارة! لعبة خطرة تشبه الروليت الروسي.. لن يكون هناك ملل في الحياة بعد هذا.. تصور أنك مهدد بالقتل في كل دورة جديدة.. وعندما تموت الضحية التالية تتذوق أنت الحياة كما لم تتذوقها من قبل.. حياتي قبل شارع المشاط كانت هباء فعلا
سوف أبقى
ولثمت أنامل لمياء الرقيقة وهمست:ـ
ـ هل أمك متيقظة في هذه الساعة المتأخرة؟

تمت

Monday, March 11, 2013

فى زمن الغم الجميل



بما أن الأحوال سيئة والبلد تحترق بالمعنى الحرفى للكلمة، فقد قررت أن أبتعد بك بعض الوقت إلى واحة منعشة ننسى فيها ما هو كائن وما سيكون. سوف نتكلم عما كان

لم ألق الأديب عمر طاهر من قبل إلا من خلال كتاباته، وعندما قابلته فى إحدى حفلات التوقيع لم أتوقع كم هو صغير السن. ربما سبب انطباعى السابق عنه هو هذا الرأس الأصلع والوجه المتجهم فى الصورة التى يستعملها دائمًا، وعلى كل حال أعتقد أنه جاء من ذات المنجم الذى جاء منه العزيز بلال فضل من قبل؛ وهناك سمات عامة تحدد القادمين منه: سن صغيرة لا تتفق مع هذه الموهبة والنظرة الناضجة للأمور - موهبة لا شك فيها - قراءات واسعة - تجربة عريضة مع قدر لا بأس به من المرمطة السابقة، فهو ليس (أفنديًا) على الإطلاق - قدرة على عزف السلم الموسيقى كاملاً من ذروة الجدية والتجهم إلى ذروة المرح والسخرية. لا أطلق على أى منهم أنه كاتب ساخر، لأن هذا يحاصر منطقة إبداعه فى خانة السخرية. إنه أديب وكفى.. يبكيك إذا اقتضى الأمر ويضحكك إذا اقتضى الأمر

قرأت مؤخرًا كتاب (زمن الغم الجميل) آخر إصدارات عمر طاهر، فوجدت أنه يجمع مجموعة من مقالاته قبل ثورة يناير. كانت أعوامًا صاخبة خطرة، وكان بوسع أى طفل أن يدرك أن الأمور لن تظل على هذه الوتيرة للأبد. كان السيل قد بلغ الزبى مع مقتل خالد سعيد وانتخابات مجلس الشعب المخجلة التى لفقها عز. كنا نشعر بقدوم شيء ما لكننا لا ندرك كنهه ولا صورته، وبدت لنا سلطة مبارك راسخة أزلية لا يمكن القضاء عليها إلا بعصيان مدنى منظم. وكان عبد الحليم قنديل يدعو بلا توقف لمظاهرة المئة ألف التى سوف تسقط أركان الحكم لا محالة!.. لم نكن نعرف مصطلح مليونيات وقتها

أمور غريبة أشعر كأنها حدثت منذ دهور، وتذكرك بقصيدة نزار قبانى:ـ
«أتلو رسائلنا فتضحكنى.. أبمثل هذا السخف قد كنا؟»

قام عمر طاهر بجمع مقالاته التى كتبها قبل الثورة، وهى تعكس بالضبط بانوراما لبلد موشك على الانفجار.. النتيجة ممتعة جدًا وتخبرك بالكثير عن أنفسنا وعن هذا البلد. وهو يذكرك بتلك الأيام فى المقدمة فيقول: «أيام كان طموح الوطنيين أن ينجح المعارضون فى انتخابات البرلمان: مصطفى بكرى عن دائرة حلوان، والبدرى فرغلى عن بورسعيد، وحمدين صباحى عن البرلس............أيام كنا نحلم أن تعود أيام اللوء أحمد رشدى فى الداخلية، بينما نتبادل قصصًا أسطورية عن حملاته على أقسام الشرطة»ـ

«أيام كان طموح بعضنا أن يأتى إسماعيل الشاعر وزيرًا للداخلية لكونه أرحم من العادلى»

هل حدث هذا حقًا؟.. لشد ما تغيرت الأمور.. ما أذكره هو أنه كانت هناك حالة من الظمأ لبطل تتعلق به قلوب الناس، وهكذا كان حلم أحمد رشدى الراكب على حصان أبيض، وحلم إسماعيل الشاعر.. وكان كثيرون يؤمنون بعمر سليمان باعتباره الرجل الشريف الخطير الصامت، والذى لا يتفق مع مبارك تمامًا، ويعرف كل شىء

يواصل عمر طاهر: «أيام كنا نرى أن مبارك أرحم من جمال مبارك..»ـ

تلك كانت أيام الإعجاب بأسامة الباز والجويلى والجنزورى ومصطفى الفقى. تمسكنا بصور خيالية نعتقد أنها قادرة على تحريرنا.. ولم نكن نعرف أن العاصفة قادمة لتطير كل شىء وتجتث كل شىء، وأن الزمن القادم سيفرز رموزه.. من منا كان يعرف أسماء مثل وائل غنيم أو شادى الغزالى حرب أو أحمد دومة أو باسم يوسف أو الجخ؟.. أنا كنت أعرف أن للشاعر أحمد فؤاد نجم ابنة اسمها نوارة.. بس كده

يقول عمر: «أيام كان التنفيث متاحًا فى حدود جريدة الدستور قبل أن يجرى لها د. السيد البدوى جراحة إزالة الرحم.. ومتابعة برنامج القاهرة اليوم قبل أن يتم رفع عمرو أديب من الشاشة..»ـ

صحيح.. نسينا تمامًا قصة جريدة الدستور واللعبة التى لعبوها للخلاص من إبراهيم عيسى. د. السيد البدوى الآن من عتاة الثوار.. هناك أشياء يجب ألا ننساها

يواصل عمر طاهر سخريته فيقول إننا كنا قبل الثورة نخشى دخول أقسام الشرطة.. بعد الثورة لم تعد هناك جدوى من دخول أقسام الشرطة!.. كنت تخاف عندما تقترب من لجنة مرور.. بعد الثورة صارت اللجان مهمة قطاع الطريق. قبل الثورة كنت تحتاج لواسطة للحصول على فرص عمل لأبنائك.. بعد الثورة قضى المجلس العسكرى على فرص العمل أساسًا

يقول فى نهاية المقدمة إن الأمر يشبه قطع
puzzle
كبير عليك أن تعيد تركيبه لتخرج بصورة عامة. أما عن عنوان (الغم) فالسبب معروف، وأما لماذا هو جميل فلأنه كان مفتاح الثورة.. ولأن كل أيام ربنا جميلة

بالفعل هذه نقطة مهمة جدًا.. أحمد عز وجمال بيه مبارك هما مفجرا ثورة يناير ولا شك فى هذا. كراهية النظام ومبارك كانت قوية جدًا مما جعل مصر كلها تتوحد وبقوة.. لما انتهى مبارك بدأت الفرقة من جديد

تستمتع بمقالات الكتاب فعلاً، وهى تمضى بك فى رحلة واسعة بين موانئ الذكريات، لكن للكتاب ذلك العيب الكامن فى كل الكتب التى تجمع المقالات القصيرة، ويتكرر كثيرًا فى كتبى، وهو سرعة الانتقال من فكرة لأخرى وعدم التجانس. هذا النوع من الكتب يحتاج لعملية تصنيف صارمة ودقيقة، فمن الممكن دومًا تقسيم الكتاب إلى فصول. يمكنك أن تدرك أن هناك مجموعة مقالات تختص برمضان ومقالات كروية تحتل حيزًا محترمًا.. إن عمر طاهر من الزملكاوية المخضرمين. هناك مقالات تخص وزارة الداخلية ومقالات عن مجلس الشعب. هناك مقالات فنية نقدية

قبل الثورة وبعدها لفترة طويلة، كنت متحمسًا جدًا للدكتور البرادعى، وكنت أعرف يقينًا أننى سأنتخبه، وأنضم لحملة الدعاية له لو رشح نفسه رئيسًا للجمهورية. لهذا اندهشت عندما وجدت أن عمر طاهر لم يكن متحمسًا له وقتها. يقول إنهم يتحمسون له كما يتحمس مجلس إدارة الزمالك لأسماء كبيرة سرعان ما تفشل لأنها لا تعرف احتياجات الفريق. يقول إن البرادعى لم يعش فى مصر منذ عام 1964 سوى ستة أعوام. ليس على دراية بالمصالح المتشابكة والكوادر المهمة ولا يعرف سعر تذكرة المترو أو أرقام البطالة وأسماء المرشحين فى انتخابات أى نقابة، أو كيف يرضى شعبًا شكاكًا بطبعه. يرى أن خبرة البرادعى العريضة لا تناسب طبيعة مشاكلنا، وكما يقول عادل إمام: «البلد مش محتاجة مهندسين.. البلد محتاجة صيع !». طبعًا ما زلت لا أوافق على هذا الرأى، وأرى أن اهم مزايا البرادعى كانت هى تلك النظرة الفوقية خارج المستنقع.. لهذا يبدو أحيانًا عسير الفهم متشددًا

هناك جزء لا بأس به من الكتاب يتحدث عن مباراتنا مع الجزائر، وهو ممن يرون أن المنتخب الجزائرى حالة فريدة لأنه يمارس نوعًا أكيدًا من الترهيب والاستفزاز. إنه يدعو لدق طبول الحرب صراحة، ويقول: «أنا أيضًا مش دبلوماسى ولن أتخلى عن تعصبى يوم المباراة.. أعطوا كل لاعب جزائرى وردة وسأذكرك عزيزى القارئ، سترى كل لاعب يلتهم الوردة أمام الكاميرات على سبيل استفزاز لاعبينا»ـ

هذه المباراة جزء مهم من الواقع السياسى قبل الثورة، ونحن نعرف دور ولدي مبارك فى هذه القصة

هكذا ينتقل الساحر الشاب من موضوع لموضوع، فتشعر أحيانًا أنك كنت فاقد الذاكرة، وأن قطاعات كاملة من ذكرياتك كانت مظلمة حتى أضاءها. والنتيجة النهائية مفيدة لنا وسط هذا الهباب الذى نعيش فيه: لنتذكر أن حياتنا لم تكن رائعة وقتها بل كانت سيئة، ولم يكن هناك أمل من أى نوع. أكتفى بهذا القدر وأقتبس عبارة جميلة من 70678 عبارة صالحة للاقتباس: «فى بلد من النادر أن تغير فيه القراءة شيئًا، يصبح مقالى جريمة، لكن عزائى الوحيد أننا فى بلد يتغاضى فيه الناس عن الجريمة من أجل جسم الجريمة!». جسم الجريمة الذى سيلف فيه بقال علبة سلامون أو يلف فيه بائع شبشبا أو تشعل به ربة بيت وابور جاز.. أو يلف فيه صيدلى عازلاً طبيًا لشاب خجول، أو يغطون به جثة على الطريق الصحراوى.. أو.. أو..ـ

Saturday, March 9, 2013

في شارع المشاط - 6


هكذا فتحت لمياء الباب ونظرت إليّ في دهشة وحيرة.. ابتسمت ملطفا ورفعت حاجبيّ بمعنى (أنا هو ذلك الرجل.. هل تذكرين؟)، ثم تهلل وجهها قليلا ودعتني للدخول.. لا بد أنها حسبتني من رجال الشرطة، فقلت لها بصوت خفيض:ـ
ـ هناك أشياء أريد أن أسألك عنها
قالت في ارتباك:ـ
ـ تفضل واسأل

فتحت لمياء الباب ونظرت إليّ في دهشة وحيرة ـ (رسوم: فواز) ـ

بالطبع ليس هذا هو المكان ولا الزمان.. إن ما لديّ هو حديث طويل وأتوقع منها حديثا أطول، لو كان هناك شيء فعليها أن تخبرني به.. وإن لم يكن فعليّ أن أرهقها وأزعجها بالأسئلة إلى أن أؤمن أنها لا تعرف

ـ أولا كم سنك؟
ـ سني خمسة وعشرون عاما.. وما زلت لا أفهم
ـ هل يمكن أن نتكلم في مكان منفرد بعيدا عن هنا؟
ـ لا

قالتها في بساطة وبراءة ومن دون حدة أو غضب.. كأنها تقرر حقيقة مطلقة، وأدركت أنها بالتأكيد تحسبني أريد ما يريده أي شخص آخر يراها، الغزل.. أن أخبرها كم أنا مقروح الجفن مسهود، وأضحى التنائي بديلا عن تدانينا.. إلخ

الحقيقة أنني كنت أتمنى ذلك، لكن هذا ليس وقته كما ترى، كنت بحاجة إليها لأنني أرى أمامي جدارا محكما شديد القوة والصلابة.. هناك جزء هش نوعا أو هو أقرب إلى الصلادة، وأنا أريد أن أطرق على هذا الجزء فقد أجد ثغرة.. لمياء هي الجزء الهش في الجدار أو هذا ما حسبته
لم أتكلم.. لم أبحث عن كلمات
فقط استدرت لأبتعد، وفي نفس اللحظة تقريبا انغلق الباب بصرامة من خلفي

-14-

قلت لك ألا تسألني ثانية عن أحلام
أنا لا أمزح.. من السهل أن تثير غضبي فأكف عن سرد هذه القصة؛ لقد أنذرتك من قبل

أنا لا أذكر إن كانت أحلام أنثى أم لا.. أعني أنها كانت حاملا وكانت تلفظ أنفاسها الأخيرة؛ لا بد أنها كانت أنثى إذن، لكن لم أرَ فيها أي أنثى؛ رأيت كيانا سقيما شاحبا وبين ساقيها كانت بركة من الدم تنزف، هناك إلى جانب الطريق كانت ملقاة، ووقف عدد من عابري السبيل يخشون أن يساعدوها أو يمدوا لها يد العون؛ بدت لهم مخيفة، بدت هي الموت نفسه ينتظر من يمد يده ليخطفه معه

كان هذا هو الشارع الرئيسي.. لم أعرف وقتها أن هذه الفجوة بين بنايتين تقود إلى شارع المشاط
لم أكن أصلا أعرف أن هناك شارعا بهذا الاسم
وكانت سيارتي العتيقة من طراز 1100.. انحنيت وحملت الجسد المنهك النازف لأضعه في المقعد الخلفي، ونظرت إلى الناس في قرف.. ماذا تخشون يا أيها المشئومون؟ هل تتوقعون أن هذه الفتاة لص متنكر سوف يذبحكم؟ تبا لكم وللامبالاتكم

حتى قبل أن أبلغ المستشفى أدركت من منظر ساقيها أنها تلقت ركلات كثيرة جدا
قصة واضحة.. الحامل لا تتلقى ركلات إلا لو كانت حاملا بشكل غير شرعي،  وبالتأكيد معظم هذه الركلات لنساء مسنات؛ الرجال لا يملكون أبدا الأعصاب الكافية لركل امرأة حامل، النساء يستطعن

من أنت؟
من أنت؟
عرفت من شفتيها الجافتين أن اسمها أحلام.. هذا كل شيء
وعرفت أنها فقدت جنينها

وما لم تقله هو أنها جاءت من شارع المشاط.. عبرت تلك الفجوة بين الجدارين لتصير في الشارع العمومي.. ثم سقطت أرضا
ولكن.. ـ
قلت لك ألا تذكرني بهذه القصة.. انسَها وانسَ أنني ذكرت شيئا منها

***

كما قلت لك، لم أستطع الوصول إلى شيء مع الفتاة لمياء،  لكي أعرف أي شيء فلا بد أن أنفرد بها؛ بالطبع لن أستطيع معرفة أي شيء في وجود الغراب المسن أمها، لكنني على كل حال مسرور لأن الموت لم يحدث في بيتهم في المرة السابقة، احتمال فقدها كان 50% وهو احتمال مقلق لو كنت تفهم ما أعنيه

واصلت الحياة بعيدا عن شارع المشاط.. تصور هذا! هناك مشاجرات في السلخانة، وهناك سرقات سيارات، وهناك سطو مسلح، وهناك من يجدونهم قتلى في بيوتهم، تصور هذا! هناك عالم كامل عملاق خارج شارع المشاط، وهذا العالم قادر على جذبي داخله

كنت غارقا في هذه التفاصيل، دعك من أنني أحب عزة زميلتي فعلا، أعتقد أنني سأخطبها عما قريب، لكن لنبقِ هذا سرا، المشكلة هي أن لمياء تظهر كالشبح بيننا كلما دنوت منها
دق جرس الهاتف فرفعت السماعة
الصوت الذي عرفته جيدا من مجرد الشهيق، من مجرد التنفس، يقول لي:ـ
ـ هناك هدية لك في صندوق الق...ـ

لم أنتظر للفهم.. طبعا لم يكن الهاتف مراقبا؛ هذا الوغد يتصل بشكل غير منتظم وعلى فترات متباعدة جدا، وهكذا هرعت أركض في الشارع لأبحث في صندوق القمامة عن هديتي
مزقت اللفافة بسرعة وفتشت فيها

هذه المرة وجدت طبقا صغيرا بحجم طبق فنجان القهوة، طبقا من فضة
حملت اللفافة مسرعا عائدا إلى المكتب، وطلبت عزت، ثم تذكرت
الفضة.. خمسة وعشرون! يا للمصيبة! اليوبيل الفضي، خمسة وعشرون عاما
عندما جاء صوته صحت في جنون:ـ
ـ عزت.. سوف يقتلون لمياء! عمرها هو.. تصرف من فضلك

وجدت طبقا صغيرا بحجم طبق فنجان القهوة ـ (رسوم: فواز) ـ

كان قلبي يتواثب حتى صرت واهنا جدا.. لو جريت لفقدت وعيي وسقطت أرضا.. لا بد من أحد يفعل لي هذا
قال عزت مهدئا:ـ
ـ صبرا.. لا بد أن الشارع يعج بمن هم في نفس السن، لا يوجد دليل
ـ هناك دليل، أنا منحوس! بالتأكيد ستموت هي

قال كأنه يكلم طفلا:ـ
ـ صبرا.. الحقيقة هي أن لديّ ستة رجال يحومون في هذا الشارع أو حوله.. سوف أرسل رجلين يراقبانها الآن.. لن يحدث لها شيء

قلت وأنا أرتجف:ـ
ـ على الأرجح سيكون كل شيء قد انتهى، انتهى كما في كل مرة
انفجر في غيظ:ـ
ـ يمكن أن أنقذها لو كففت أنت عن تضييع وقتي والبكاء كالمطلقات في محكمة الأسرة

هكذا وضعت السماعة وأسرعت أضع سترتي وأدير محرك سيارتي قاصدا شارع المشاط اللعين.. لقد تلفت أعصابي فعلا؛ سوف أتحاشى الرد على أي مكالمات في المرة القادمة
ترى كيف ماتت؟ مشنوقة أم مذبوحة أم سقط شيء ثقيل على رأسها؟ سنعرف حالا

عندما وصلت عند المنزل رقم 50 أدركت أن هناك مصيبة فعلا
كان عزت يقف مهموما أمام البيت ذي الأرانب.. وهناك رجلا شرطة يتكلمان وقد بدت الخطورة على وجهيهما، وفي الخلفية رأيت ما توقعته: السيدة العجوز.. الأم.. حية.. تبا
من الواضح أنها قلقة ولا تفهم ما يحدث

دنوت من عزت ولامست ذراعه.. نظر إليّ في جدية ثم قال:ـ
ـ الفتاة ليست هنا.. غادرت الدار منذ ساعة مع صديقة لها.. الرجال يبحثون
ابتلعت ريقي
لن تكون جولة هادئة إذن.. لا بد أن القاتل سينهي مهمته الآن مع مجيء رجال الشرطة
هنا سمعت ضوضاء ورأيت ما أثار ذهولي

.......

يُتبع

Tuesday, March 5, 2013

من ملفات الحرب - 4



يذكرنى مرسى فى أسلوب الحكم بمثال له إيحاءات كثيرة. عرفت عروسا ريفية يستعد أهلها للزفاف، وهى غير راضية عن العريس بتاتا.. وهكذا اندمجتْ فى البكاء والهستيريا والأعراض النفسجسمية المعروفة؛ فما كان من أهلها والعريس إلا أن أسرعوا بخطوات الزفاف.. بسرعة وحسم.. يرددون دوما أنها حين تجد نفسها فى بيت مغلق مع عريسها فسوف تنسى هذا كله وتندمج فى دور الزوجة الشابة. أى أن علاج النفور من الزيجة هو الإسراع بها. نفس الشيء ينطبق بشكل ما على بمبى بمبى وأغنية سعاد حسنى.. هل تذكر مقطع (كنت بهرب قال وأقوللك آه ولأ.. خدتنى بالقوة وريتنى ياروحى السعادة.. أشكرك ياحبيبى عندك ألف حق). طبعا هناك ألف علامة استفهام حول السعادة المزعومة، وما إذا كان مرسى هو حسين فهمى ومصر هى سعاد حسنى.. تبقى مصيبة. لكن هذا المثال يقفز إلى ذهنى كلما رأيت ما يفعله الرجل

مرسى يربح معركته بلا توقف، ويقودنا بالضبط فى الطرق التى يريدها. سواء رضيت عن أدائه أو اعتبرته الشيطان جاء ليحكم، فلا تنكر أن الرجل فعل بالضبط ما أراده. الشتائم تنهال عليه والعقبات، ومليون جريدة مخصصة لسبه وإطلاق الشائعات ضده، وألف محطة فضائية ساهرة من أجل إسقاطه، ومليارات تهرق من أجل إفشاله وحرق كل شيء وإغلاق كل الطرق، لكنه بارد جدا وهادئ جدا ويفعل بالضبط ما يريد

بالطبع أتحدث هنا عن سعة الحيلة ولم أتحدث عن البراعة فى حكم البلاد، فمن الواضح أن حالنا زى الطين حاليا... الاقتصاد منهار والبلد ممزقة والسياحة فى الحضيض والخدمات سيئة والمنطاد احترق، وقد سبق أن قلت إن حل الانتخابات المبكرة يبدو معقولا وعادلا ليهدأ الجميع، لكن كم من هذا الانهيار يتحمل مرسى مسئوليته، وكم يتحمل الرافضون ليلا نهارا؟.. كما قلت من قبل: يتمنى كثيرون أن تحترق مصر ثم تغرق لتكون هذه نهاية الإخوان.. كف عن العمل سبعة أشهر ثم أعلن أن مرسى أدى لانهيار الاقتصاد وخرب البلد

مرسى يربح بالتأكيد.. وهو فى الطريق لنجاح آخر هو إتمام الانتخابات البرلمانية، وكل شيء يؤكد أن مجلس الشعب القادم إخوانجى.. هكذا ستجد العروس الغاضبة نفسها بالفعل فى بيت العريس دون أن تفهم كيف.. لماذا؟.. هل هو التزوير؟.. هل هو الزيت والدقيق؟. السبب هو الخطأ التاريخى الذى سترتكبه المعارضة وجبهة الإنقاذ بمقاطعة الانتخابات تاركين للإخوان كل شيء

أولا أنت تعرف أن المقاطعة ستتفتت مع الوقت.. ستبدأ مراحل رفض الاستفتاء الشهيرة: 1- نرفض المشاركة فى هذه المهزلة – 2- قررنا المشاركة حتى لا نترك لهم الحبل على الغارب – 3- خسرنا لأن الانتخابات كانت مزورة بشهادة العالم – لندع لمليونية شنق مرسى.. إلخ

أغلب من يرفضون الآن سوف يقبلون فيما بعد، وسوف أذكرك، لكن لن يكون العدد كافيا. المشكلة بالنسبة لمعارضى مرسى هى أنها انتخابات خطرة ويجب ألا تتم بأى شكل. نجاح مرسى فيها سوف يكون كاستفتاء مبكر على شرعيته وسوف يصير أقوى

الضربة الكبرى التى وجهتها المعارضة وجبهة الإنقاذ لنفسها، والتى فضحت الكثيرين لدى الشارع المصرى هى نغمة استعداء الجيش الواضحة.. نغمة: من الواجب أن يتدخل الجيش الآن لينقذ مصر.. ينقذها من إيه بالضبط؟.. ألم تجربوا الجيش بعد الثورة وقبل الثورة؟.. أين ذهب (يسقط يسقط حكم العسكر) و(لا للمحاكمات العسكرية) وكشف العذرية.. إلخ. فجأة نسوا هذا كله وابتلعوه بعد ما مزقوا صور الجندى الذى يحتضن طفلة على زجاج كل الحافلات، وصاروا يطالبون بحكومة عسكرية تطرد حكومة مدنية منتخبة.. والسبب؟.. لأنهم يكرهون الإخوان أكثر من حبهم للديمقراطية وتداول السلطة. هنا تبدأ جريمة خيانة عظمى فى رأيي؛ هى محاولة بعض المواطنين تحرير توكيلات لإسناد إدارة البلاد للقوات المسلحة.. وهى الخطوة التى وصفها عبدالمنعم أبو الفتوح نفسه بالكارثة الوطنية

فاجأنى البرادعى يقول للبى بى سي: «إذا كانت مصر على شفا التراجع للخلف، وإذا كان القانون والنظام غائبين، فإن الجيش عليه واجب وطنى بالتدخل.... الانتخابات خطر على البلاد وتضعها على طريق الفوضى الشاملة وعدم الاستقرار، وإنها إن حدثت سيكون تدخل الجيش هو الأمر المنطقى، لتحقيق الاستقرار حتى يمكن استئناف العملية السياسية». هكذا من أجل كراهية الإخوان تلغى الثورة كأنها لم تكن، ونبدأ من الصفر.. اطرد الصندوق وهات دبابة بدلا منه. طيب ما تطلعوا مبارك وخلاص.. على الأقل هو يملك الخبرة وأنتم لا تملكونها. بل لماذا لا تطلبون التدخل الأمريكى والغزو وخلاص؟

البرادعى من رافضى الانتخابات بشدة، ويرى أن حالة التوتر والخلاف غير مناسبة لعمل انتخابات.. هل تتوقع أن تهدأ الأمور؟.. نحن منذ عامين نتشاجر ونتبادل السباب ونمزق ثياب بعض، ونحرق بعضنا بالمولوتوف.. فهل تتوقع تفاهما قبل عام 3200؟. وهل كانت الأوضاع مستقرة وجميلة عندما رشح حمدين صباحى وبثينة كامل نفسيهما للبرلمان والرئاسة فى عصر مبارك وعصر حكم العسكر؟

أضف لهذا أن البرادعى يصحو كل يوم ليكتب (هذا الحادث الأخير أسقط شرعية النظام).. هناك حادث دائما.. يعنى شرعية النظام كانت موجودة أمس؟ لابد للشرعية لكى تسقط أن تكون موجودة لو كنت تفهم قصدى

عمرو موسى يقاطع الانتخابات حتى الآن «لأن أوضاع البلاد بشكل عام لا تسمح بإجراء انتخابات فى الوقت الراهن، ولابد من التركيز على الاقتصاد». هل تتوقع أن إيرهارد نفسه يستطيع التركيز على الاقتصاد الآن، دون أن تحرقه زجاجة مولوتوف؟

هذه النغمة فى كل مكان، والآن فقط بدأ السيد مصطفى بكرى والمستشارة تهانى الجبالى يعلنان أن « الدعوة لمليونية دعم الجيش هدفها إعلان التضامن مع الجيش ضد جماعة الإخوان المسلمين». وهى نغمة تحريض للجيش واضحة جدا. الإخوان شقوا الوطن فانهضوا أثابكم الله ولتملأ دباباتكم ميادين مصر. مرحب مرحب حكم العسكر

من جديد بدأ التفرق كما حدث مع زوجة أوديسيوس التى ظلت تنتظر زوجها وظل خطابها يتصارعون. وهو ما يعنى بالفعل أن مرسى يكسب معركة جديدة، ومن جديد سوف يترك لهم الحرية كاملة فى شتمه والسخرية منه على فيس بوك وتويتر، وبرامج باسم يوسف وهانى رمزى وكل برنامج تقريبا.. قولوا ما تريدون وسوف أفعل ما أريد. يبدو أن كل من يأتى بعد مبارك يتعلم الدرس بسرعة

الشاعر عبدالرحمن يوسف الذى أعتبره يقف فى الجانب الآخر مع المعارضة، كتب مقالا جميلا معقولا جدا عن أساطير المقاطعة، وأعلن أنه سيرشح نفسه، وفند كل حجج المقاطعة حجة تلو أخرى. ولخص الموقف بأن شعبية الإخوان الآن منخفضة وهناك فرصة عادلة معقولة لمن ينافسهم، ويقول عن الرافضين: « إنهم أناس يريدون النصر حالا، ومن يخالفهم فى وجهة نظرهم السطحية تلك، لا بد أن يكون عميلا لأى أحد، للإخوان، أو لأمريكا، أو لإسرائيل... اختر ما شئت». العنب فوق الشجرة حامض دائما.. هذه حقيقة

فى نفس الوقت تلعب جبهة الإنقاذ ألعابا عجيبة، كأن تطالب بأن تستمر المناطيد فى التحليق بعد كارثة المنطاد إياها !... السبب أن الحكومة قررت وقف المناطيد إلى أن يكتمل التحقيق. فجأة صارت الجبهة متعاطفة جدا مع أصحاب المناطيد الغلابة، ولو قررت الحكومة استمرار المناطيد لاجتمعت الجبهة لتشجب هذا الإهمال والاستهتار

الخلاصة: المقاطعة خطأ تاريخى آخر من سلسلة أخطاء جبهة الإنقاذ والمعارضة، ونجاح جديد لمرسى الذى يقودكم بالضبط إلى حيث يريد كأنه ذلك العريس الريفى. يجب الاندماج فى اللعبة السياسية ومحاولة الظفر بدلا من تضييع الوقت فى حرق الملعب

وفى النهاية.. اعتاد المعلقون على النت السخرية من عبارة (أنا مش من الإخوان لكن...) باعتبارها نوعا من الديباجة الرسمية الثابتة للجان الإلكترونية للإخوان، وأنا أقول إنه على الجانب الآخر هناك عبارة (أنا انتخبت مرسى وتحمست له فى البداية ولكن...) وهى ديباجة ثابتة لألد أعداء الإخوان. أنا لست من الإخوان ولم أنتخب مرسى، ولم أنتخب الإخوان فى مجلس الشعب، وقلت لا للدستور.. لدى كل ما يكفى كى أزعم أننى مناضل. لكنى لست مناضلا ولا حاجة.. قد أكره الإخوان، لكنى أكره من يتمنون سقوط مصر كى يفشل الإخوان أكثر

Friday, March 1, 2013

ضوضاء

1 مارس 2013


لا تقلقي يا سيدتي. إن حالة الجنين ممتازة ودقات القلب منتظمة وقوية. أعتقد أنه سيكون ذكراً. ذكراً جميلاً يحمل عيني أبيه وأنفك. فقط يجب أن تأتي بانتظام لنطمئن عليك.

هالة. إن الألم يتكرر كل خمس دقائق. أعتقد أن الأمر لا يقبل تفسيرات أخرى. الطفل قادم. هيا. خذي نفسًا عميقًا كما تعلمت. أخرجيه برفق. ادفعي لأسفل. هيا. تماسكي. هيا. لحظة. إنه لا يتنفس ولونه أزرق تمامًا. تعال يا دكتور عصام وقم بالتشفيط لهذا الصبي. اشفط المخاط من أنفه وحلقومه وأعطه بعض الكورامين في الحبل السري. جرب ثانية. هيا. اصفع مؤخرته بقوة. هيا. الحمدلله. لقد بدأ العواء. إنه حي. حي. هلم خذيه يا إنصاف ليراه أهلها ويعطوك البقشيش.

في شارع المشاط - 5


لم يمت أحد
لا أتجاوز الحقيقة بكثير لو قلت إن هذا سبّب لي خيبة أمل! أنا بشري، ومن طباع البشر أن أتمنى أن أكون حكيما ملهما.. لم يمت أحد.. إذن عليَّ أن أعيد حساباتي

لكني لن أعيد حساباتي من البداية.. هناك نقطة مهمة هي أن هذه الرموز التي تصلني لها ارتباط قوي بالأرقام.. لها ارتباط بفكرة اليوبيل. حتى أنني قد أطلق على هذا السفاح اسم "قاتل اليوبيل"ـ

نفس الهواجس دارت في ذهن عزت
صارحني بها وهو يتفقد الفناء الخلفي، والأرانب الصغيرة تتشمم حذاءه. قال لي:ـ
ـ كل شيء جاهز كي يصير اسم القاتل هو "قاتل اليوبيل" ونتحرك على هذا الأساس.. لكن الوغد مصمم على أن يحيرنا.. لو لم يرتكب جريمة هنا الآن فنحن نبني على تربة مخلخلة

ثم اجتاز المنزل إلى الشرفة.. هناك كان ذلك المقعد من الخوص والذي يطل على الشرفة المنخفضة. جلس عليه وأراح ظهره وتنهد وفرد ساقيه أمامه.. قال وهو يغمض عينيه:ـ
ـ كمية سلام غير عادية في هذا الشارع.. آخر شارع تتوقع أن يمرح فيه سفاح

ثم قطف بعض أوراق النعناع من نبتة جواره، وفرك الأوراق وتشممها ثم بدأ يلوك بعضها.. إنها غير نظيفة ملوثة بالغبار، لكننا كنا نعرف أن غبار هذا الشارع غير ملوث.. نفس المنطق الذي يجعلك تشرب قطرات المطر بلا تردد

جاءت الفتاة الحسناء حاملة صحفة عليها عديد من أكواب الشاي الصغيرة أعدتها في المطبخ، وراحت تقدم لكل واحد منا، بينما كل واحد يشكرها ويطري جمالها بطريقته وثقافته.. متشكرين يا عروسة.. تسلم إيدك يا شابة.. شربات فرحك يا رب.. إلخ

جاءت الفتاة الحسناء حاملة صحفة عليها أكواب الشاي ـ (رسوم: فواز) ـ

قدمت لنا كوبين، ثم مدت يدها ببساطة واقتطفت المزيد من الأوراق الخضر -بلا غسيل- ووضعتها في كوبينا. رفعت الكوب لأشرب وسألتها:ـ
ـ ما اسمك؟
ـ لمياء
ـ في أي مدرسة أو كلية أنت؟
ـ أنا أنهيت دراستي في كلية التجارة

نظرت إليها مليا.. تبدو صغيرة جدا على أن تكون متخرجة.. بكل فراسة لن تجد لها سنا أنسب من المدرسة الثانوية.. ومعنى هذا أنها في سن الخطبة.. هناك كثيرون سوف يفكرون في الأمر بلا شك

جاءت أمها من مكان ما بالداخل.. منحنية تمشي كالبطة. قالت لها:ـ
ـ نحن بحاجة إلى بصل يا لمياء. اذهبي لأم ميمي وخذي منها ستة أو سبعة رءوس كبيرة
كان الأمر واضحا.. الأم تنوي أن تطهو لنا وجبة سريعة ما دمنا ننتظر

قال عزت في أريحية:ـ
ـ ما هو رقم البيت؟ سأرسل أحد رجالي
احتجَّت العجوز.. بالطبع بدا غريبا أن يذهب مخبر لجارتها لاقتراض البصل، لكن عزت طمأنها.. لا نستطيع المجازفة بأن تذهب الفتاة لأي مكان الآن.. إما أن يجلب رجلي البصل وإما أن تنسي الموضوع.. لا داعي للبصل أصلا

هكذا ذهب بسطويسي ما من رجال الشرطة إلى المنزل رقم 55، فتحت له أم ميمي الباب وأصابها الهلع طبعا.. احتاجت لفترة حتى تستوعب أن مخبر شرطة جاء ليقترض منها بصلا.. دخلت البيت على حين وقف ابناها ينظران للمخبر في فضول

بعد ثوان سمع المخبر صرخة ذعر.. اندفع داخل البيت، هناك في الكرار كانت الزوجة واقفة وقد غطت فمها وبدت في أسوأ حال ممكنة.. عند قدميها ووسط حزم البصل المتناثرة، كانت جثة رجل قام أحدهم بتمزيق عنقه من الخلف.. هذا الرجل هو زوجها

هكذا نسينا موضوع البصل والغداء، ونسينا كل شيء عن الأرانب
انطلقنا نركض نحو ذلك البيت الهادئ الذي تحول إلى مسرح مذبحة
رقم 55.. ما معنى هذا؟
هل أصيب القاتل بالعجز عن العد أم أن قوانين اللعبة تغيرت؟

هناك وقفنا في بلاهة نرمق الجثة.. الجثة التي ذبحها أحدهم ولا نعرف من.. لقد صار شارع المشاط أخطر شارع في العالم
سؤال آخر: هل أنا عبقري أم غبي آخر؟
مجرد عجزي عن الإجابة يعني أنني غبي

-12-

فترة صاخبة أخرى من البحث.. تحقيقات , أسئلة عن أعداء الرجل
إنه مدرس جغرافيا.. هذا يعني أن لديه أعداء كثيرين، لكن ليس لدرجة قتله طبعا.. أعداء مدرس الجغرافيا لن يساعدوه عندما يرونه وهو يقتل، لكنهم لن يبدءوا بالقتل على ما أظن
لا توجد بصمات على قطعة الذهب سوى بصماتي طبعا.. لا توجد علامات على العلبة.. لقد صار الأمر معقدا

كنت جالسا أدرس تفاصيل الموت
هنا لاحظت وجود تطابق شبه تام بين سن الضحية ورقم المنزل
حزام جلدي ثم قتل طفل في الثالثة.. الفتاة المراهقة ورباط حذاء.. نحن نتحدث عن رقم 13.. بدا لي بديهيا أنه المنزل رقم 13 بسبب عنوان الفيلم.. الياقوتة.. ماتت بعدها امرأة في الثالثة والأربعين.. الحقيقة أن هذا لم يكن دقيقا.. عندما راجعنا تاريخ الميلاد عرفنا أنها في الأربعين.. عندما تلقينا الطبق الصيني كنا نتحدث عن شاب في العشرين.. لم نكن نعرف السن بدقة

الجريمة الأخيرة.. الزوج الميت في الخمسين
هكذا تتضح الأمور أكثر
ما زالت النظرية صحيحة وقابلة للاختبار

اتصلت بعزت لأخبره:ـ
ـ الرموز تدل على سن الضحية القادمة.. هذا أقرب للمنطق وفكرة اليوبيل
قال محتجا:ـ
ـ لكن رقم البيت كان يتفق مع الرمز في كل مرة باستثناء الأخيرة
ـ هذه دعابة قاسية منه على الأرجح.. عرف أننا سنفكر في رقم البيت بينما هو يفكر في السن.. اختار بيوتا تحقق الخيارين معا.. فكر في أننا سنبلع هذا الطعم.. وهذا على فكرة يعقد الأمور جدا، لأن البحث عن البيت رقم 25 سهل، أما حماية كل شاب في الخامسة والعشرين من عمره فأمر عسير

كانت الأسئلة كثيرة.. وكنا على كل حال قد تجاوزنا ترف السؤال: من القاتل؟ صار هذا نوعا من الدلع يبلغ مبلغ قلة الأدب والوقاحة.. نحن الآن نسأل أسئلة معقولة مثل:ـ
لماذا هذا الشارع بالذات؟
لماذا يختار القتلى بطريقة اليوبيل؟
لماذا ينذرني أنا دون سواي؟ هل أحدث فارقا سواء بجهلي أو بعلمي؟ سواء وصلت للسر أو لم أصل فالجريمة ستقع.. فلماذا يتعب نفسه؟
لماذا يتعامل سكان الشارع بلا مبالاة مع الأحداث؟

لماذا ينذرني أنا دون سواي؟ ـ (رسوم: فواز) ـ

كنت أفكر في لمياء.. سكان هذا الشارع يخفون شيئا ما.. ولمياء على الأرجح تعرف هذا السر، لكنها الأقرب إلى البوح به.. عرفت هذا من نظراتها
سوف أحاول الاقتراب منها أكثر لأفهم

-13-

أحلام كانت تموت فعلا.. وقد أدركوا أنها حامل. حامل وهي غير متزوجة
كانت هذه هي اللحظة التي أدركوا فيها أن عليها أن ترحل.. أن تموت في مكان آخر، لقد غيرت حياة الجميع وأفسدت كل شيء.. لم يعد أحد يتحملها ولا يتحمل نظراتها

وكنت أنا في الصورة.. ربما كان حظا حسنا أو سيئا.. لكني اعتبرت أن الله تعالى أرسلني من أجلها
هذه قصة أفضل أن أنساها على كل حال.. لا تسألني عنها ثانية من فضلك

.......

يُتبع