قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Thursday, April 18, 2013

الشيء في الصندوق - 4


أين عماد؟
كانت الساعة الآن الحادية عشرة ليلا، وقد أوشك الأب على غلق أقفال البيت.. ثم تنبه الجميع إلى أن الصبي عماد ليس هنا، وهذا شيء معتاد.. لكنه لا يطيل التأخر إلى هذا الحد لأنه عوقب كثيرا من قبل على تأخره خارج البيت.. الحقيقة أنه شبيه بقط حبيس لا يقر في البيت أبدا

عماد.. عماد.. أين أنت أيها الوغد؟
هكذا بدأت عملية البحث. وتم سؤال الجيران، ثم ارتدى الأب ثيابه من جديد وخرج يبحث عن الصبي وهو يطلق السباب.. من الخير للفتى أن يكون قد مات فعلا.. هذا هو المبرر الوحيد الذي يسمح بالغفران له.. فيما عدا هذا ليس من مصلحته أن يظل حيا.. سوف يموت فورا

جو التوتر العام ساد البيت، وبدأت الأم تقرأ القرآن وتهرع من حين لآخر إلى الشرفة

هالة شعرت بتأنيب ضمير.. ربما هو خائف جدا من موضوع السيجارة.. ربما خائف لدرجة أنه فر من البيت.. هي كانت قد أزمعت أن تكتفي بإرهابه.. لكن من أين له أن يعرف باقي نيتها؟

يجب أن نقول كذلك إن الجو كان ملوثا بالموت.. حادثة الموت التي وقعت صباحا جعلت الجميع متوترين
هكذا دخلت غرفتها وحاولت أن تفكر في شيء آخر، لكن صورة عماد كانت تبلبل ذهنها
مدت يدها للصندوق لتعيد تفحّص تلك اللفافة اللعينة.. وبشفتين تتحركان قرأت الأبيات:ـ

مدت هالة يدها للصندوق لتعيد تفحّص تلك اللفافة اللعينة ـ (رسوم: فواز) ـ

ولما توارى شعاع الأصيل
وعدنا من الغاب نبغي الرحيلا
لقد حان حينك يا ابن الدياجي
ألا تسمع الموت يأتي عجولا؟
خرجتَ لتلهو قرب الردى
فجاء الردى غاضبا مستحيلا

هنا توقفت وراجعت آخر أبيات
هناك جزء لم تقرأه من قبل.. هي متأكدة أن آخر بيت في القصيدة اللعينة كان البيت "لقد حان حينك يا ابن الدياجي.. ألا تسمع الموت يأتي عجولا؟"، فماذا حدث بالضبط ومتى؟ هناك بيت قد أضيف.. لا شك في هذا.. نفس الخط ونفس الحبر

كانت هالة قوية الشخصية تثق في حواسها جيدا.. أي شخص سواها كان سيعتقد أن البيت الأخير قد فاته، لكنها كانت متيقنة.. القصيدة اللعينة قد استطالت بيتا

البيت يتكلم عن شخص أراد اللهو قرب الردى فمات.. كان الردى أكثر براعة

 *******

في الصباح وجدوا البقايا وعرفوا القصة كاملة
الصبية الذين كانوا مع عماد رأوا المشهد ففروا لبيوتهم وأصابهم ذعر حيواني يمكن فهمه، وقرروا أن يلوذوا بالصمت.. لكنهم تكلموا في النهاية

عماد نام على قضيب القطار -بين القضيبين إذا شئت الدقة- ودفن رأسه بين ذراعيه بينما قطار الثامنة قادم، وكان ينوي أن يبهر الصبية بشجاعته.. هؤلاء المراهقون يمكن أن يفعلوا أي شيء كي يبهروا أترابهم. ما حدث هو أن شيئا يتدلى من القطار تمسك به.. تعلق بسرواله.. وهكذا فوجئ الصبية بأن زعيمهم قد اختفى. لم تمر العجلات من حوله في سلام، ويبدو أن جسده تفتت في ثانية واحدة

كانت ميتة شنيعة، وسوف أعفيك من وصف ما فعلته الأسرة والأم رحمة بأعصابك.. لقد حلت حقبة من اللون الأسود والكآبة على هذا البيت الذي كان آمنا

ظلت هالة تشعر بعدم راحة نحو ذلك الصندوق اللعين، وتلك الأبيات الغريبة التي قرأتها والتي ازدادت بيتا بلا تفسير واضح

ذات ليلة جلست في فراشها ومدت يدها تفتح ذلك الصندوق من جديد.. تحسست أبيات القصيدة وقرأتها مرة واثنتين.. وقررت أن تعرض هذه الأبيات على مدرس اللغة العربية الشاب جارهم، لعل الكلمات تخفي أكثر مما تفهمه هي. ثم غلبها النعاس والعلبة في يدها

هي الآن نائمة على ظهرها. صدرها يعلو ويهبط كأنها تعاني عسرا في التنفس. العرق.. العرق يجعل شعرها عجينة واحدة لزجة.. كهف مظلم.. مشاعل.. هناك من ينتظر في الكهف.. عينان شريرتان.. رائحة عطن غريبة.. هذه رحلة لم يقم بها بشري إلى عالم لم يره أحد. أعماق الظلمات.. المادة الخام للشر.. تشعر بهذا كله.. وتدرك أنها مذعورة، لكنها كذلك عاجزة عن النهوض.. عاجزة عن الفرار

كان هناك من ينتظر في الكهف وله عينان شريرتان ـ (رسوم: فواز) ـ

وسمعت صوتا يأمرها:ـ
ـ تخلصي من القصيدة! تخلصي من القصيدة إن شئتِ السلامة
كانت تسمع الصوت بوضوح، تعرف أن هذا "أوبار". لا شك في هذا برغم أنها لا تعرف من هو "أوبار" ولم تسمع عنه من قبل. كانت ترتجف خوفا.. عرفت أنها اختُرقت وأنها ترى ما لا يحق لها أن تراه

*******

كان البيت كله غافيا عندما اتجهت هالة إلى المطبخ.. صوت أذان الفجر يتردد من مسجد قريب. وضعت الصندوق على الموقد، ثم أشعلت عود ثقاب؛ سوف يحترق هذا الشيء القذر.. سواء كان خطرا حقيقيا أو وهما.. إنها تشعر بأنه ملوث بالدم.. لماذا ظهر بعد الحادث الأخير؟ ولماذا التقطه المرحوم عماد بالذات؟

بدأت النار تتمسك بالصندوق وتنهدت هي الصعداء. لكنها بعد لحظة بدأت ترتجف.. إن النار تلتف حوله لكنها لا تؤذيه. هذا الشيء أقوى من النار

جرّبت أن تحرقه عدة مرات وبللته بالكيروسين وجربت من جديد.. لا جدوى.. هذا الصندوق اللعين أقوى من أن يزول بسهولة

فكرت في أن تلقيه في القمامة، لكن الإجابة كانت قد وصلتها وشعرت بها في أعماقها بلا جدال. هذا ما يريده ذلك المسخ الذي رأته في الحلم بالضبط.. هناك أحمق سيجد الصندوق في القمامة ويفتحه، وسوف ينتقل الصندوق ليد أخرى ويموت شخص آخر.. وسوف تزداد القصيدة طولا

لو احتفظت بالصندوق فهي تجازف بميت آخر، أو جريمة قتل أخرى
ربما يقتل أبوها أمها، أو العكس، أو تفعل هي هذا كله
حاملة هذه الهواجس عادت إلى غرفة نومها التي تسلل لها ضياء الفجر الخافت الواهن.. جلست على الفراش كأنها بوذا يتأمل.. وقررت أن تنتظر حتى يصحو الجميع

*******

من المهم أن نجد من يحبنا.. لسبب واحد هو أننا نحتاج أحيانا إلى من يصدقنا.. وكان هاني يحبها فعلا.. مدرس اللغة العربية الشاب الذي يقطن قرب بابها يهيم بها حبا.. لقد تبادلا الحديث الصريح كثيرا وكانت تعرف أنه ينتظر.. يستجمع شجاعته قبل أن يكلم أباها

جلسا في ذلك المقهى الذي اعتادا الجلوس فيه، فرشفت بعض الشاي من الكوب.. ثم استجمعت شجاعتها وحكت له تلك القصة الطويلة
بالطبع لم يبدُ مصدقا، لكنه يحبها وعلى استعداد لسماع الكثير من هرائها.. ربما اعتبر هذا ترفا

لما انتهت من قصتها دفنت وجهها في الكوب حتى لا يسخر منها
قال لها:ـ
ـ وأين هذا الصندوق؟
نظرت حولها ثم وضعته على الشرشف أمامه. مد يده ليفتحه لكنها أوقفت يده في صرامة:ـ
ـ لا أعرف.. ربما تصيب اللعنة من يفتح الصندوق أو يقرأ القصيدة

ـ أنا سآخذ الصندوق الآن
قالت في جزع وقد اتسعت عيناها:ـ
ـ أنت لا تفهم. هذا هو ما يريده بالضبط.. يريد أن يجد مسارا جديدا للحياة
ـ لنقل إنني لن أمنحه هذه الفرصة

ثم مد يده يعبث وأخرج القصيدة.. قرأها مرة ومرتين ثم قال باسما:ـ
ـ ليس شعرا جيدا جدا.. لو كان هذا الشعر يكتب نفسه فهي طريقة غير ناجحة لكتابة الشعر.. ثم أن بعض الأبيات مكسورة

ثم التمعت عيناه وقال في حماسة:ـ
ـ أنا أكتب الشعر كما تعرفين.. سأكمل هذه القصيدة بنفسي

.......

يُتبع