قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Monday, September 2, 2013

فى نهر الزمن



لن أتكلم فى السياسة كما وعدت، وهو قرار ممتاز فى زمن كهذا، ومع حالة الفاشية التى تسود المجتمع، حيث عليك اللعنة إن لم تتعصب بوحشية. لكن سأعرض عليك هذه القصة المسلية من قصص الخيال العلمى الكلاسية، وتدعى (الدائرة). أعتقد أن المؤلف يدعى فكتور كوماروف، وهى قصة تذكرك نوعا بفيلم (يوم جرذ الأرض) الأمريكى أو (ألف مبروك) فيلم أحمد حلمى المقتبس منه، كما أنها تذكرك بحالنا كثيرا.

ستانلى عالم فيزيائى يبتكر طريقة تعيد الزمن القهقرى.. بوسعك بجهاز الكرونوسكوب أن تعود للماضى لمدة ساعتين فقط.. وهاتين الساعتين تتيحان لك تصحيح ما اقترفت من أخطاء.

إن زوجته الجميلة الشابة جلين غير مقتنعة تماما بأهمية اختراع كهذا.. بل ترى أنه من المستحيل أن يستعيد المرء الماضى. ما حدث أنه نجح فعلا فى صنع هذا الاختراع. لقد اخترق الحاجز فعلا.

يقرر وزوجته قضاء وقت للنزهة فى متنزه قريب.. هناك جسر صغير من أخشاب متداعية يعبر فوق هاوية مخيفة. طلبت الزوجة فى حماس أن يلتقط لها ستانلى لقطة وهى فوق ذلك الجسر. هزت خصلات شعرها الأشقر وركضت كطفلة لاهية فوق الخشب..

هنا دوى صوت الخشب إذ ينهار.. صرخت فى هلع. فى اللحظة التالية تشبثت بيديها إلى حافة الهاوية، فألقى ستانلى الكاميرا وركض لينقذها.. صرخ وهو يزحف فوق الشريحة الخشبية الباقية من الجسر:
ـ«مدى يدك لى يا جلين !»ـ

لكن أصابعها انزلقت فوق قطعة الخشب، لحظة ثم سقطت فى الهاوية وهى تصرخ تلك الصرخة المتلاشية التى تختفى مع الوقت. ورقة مصفرة ذابلة تتدلى من شجرة عتيقة سقطت فى الهاوية معها.

رقد ستانلى حيث هو وقد فتح فاه فى ذهول.

فى لحظة ضاعت زوجته الجميلة للأبد... وفجأة خطرت له العبارة الشهيرة: ليتنى لم أسمح لها بأن.....

لكن لحظة !.. يمكنه بالفعل ألا يسمح لها بأن...... يمكنه أن يعود لساعتين مضيا. إنه البشرى الوحيد الذى يملك الكرونوسكوب. هرع يركض نحو سيارته وتعثر فوق الأشواك والصخور ثم ركب وانطلق.. إن ساعة ونصف ساعة تفصلانه عن البيت. لأول مرة يقود السيارة بهذه السرعة الجنونية وهو السائق الحذر. كانت هناك صعوبات بالغة.. من الممنوع أن تغير الماضى.. هذا يؤدى لتداعيات مخيفة فى الحاضر، كما أنه من المخاطرة أن تحاول إعادة إحياء شخص مات فعلا.

الكرونوسكوب ليس آلة زمن.. بل هو وسيلة تعيد الزمن نفسه للوراء ساعتين. معنى هذا أن تغيير الماضى وارد. بدأ تشغيل الجهاز وهو يلهث.. وراحت وحدة إعادة الزمن تعمل بلا توقف.

لقد عادت اللحظات إلى المتنزه وإلى جلين عندما كانت حية تضحك وتلعب..

سوف يكون حازما ويمنعها... قالت له فى مرح:
ـ«التقط لى صورة فوق هذا الجسر يا ستانلى!»ـ

ثم هرعت فوق الجسر قبل أن يستطيع الاعتراض أو منعها. ورأى نفسه يرفع الكاميرا ثم تداعى الجسر وصرخت وسقطت فى الهاوية. كل خلاياه كانت تحاول منعه لكنه يتصرف بالضبط كما تصرف فى المرة الأولى.. من جديد ركض نحو السيارة للبيت وشغل الجهاز..

الزوجة تصيح: «التقط لى صورة» ثم تركض فوق الجسر.. الصراخ.. الورقة الصفراء تسقط... لقد تكرر المشهد الأليم خمس مرات.

كيف لم يفكر فى هذا؟.. عندما أعاد احداث الساعتين كان من ضمن ما يتم إعادته عملية تشغيل الكرونوسكوب نفسه !. هكذا دخل حلقة مفرغة أبدية.. سوف يرى مشهد موت جلين للأبد ولا يقدر على الخروج. وهذا معناه كذلك أنها تموت مئات المرات.. تموت للأبد !

لقد كتب عليه أن يظل للأبد بين الثانية عشرة والثانية بعد الظهر !.

لكنه لاحظ بعين الفيزيائى الحساسة أن ورقة الشجر المصفرة لم تسقط فى ذات الموضع كما فى المرة الأولى.. موضع سقوطها يتغير فى كل مرة. إن قوانين الاحتمالات تتحكم فى العالم ولو أنك فجرت بناية وأعدت الزمن للوراء فلن تتكون ذات البناية بذات الشكل. بدأ يلاحظ أن هناك اختلافات دقيقة جدا بين مرة وأخرى. بل إن الأفكار التى تتوالد فى ذهنه لا تتوالد بنفس الشكل فى كل مرة.. هذه هى الدورة العشرون. معنى هذا أنه لم يسترح ولم يأكل منذ أربعين ساعة. لكن عليه أن يحاول إحداث تغيير طفيف فى كل مرة. يكسب وقتا يمكنه من كسر هذه الدورة الجهنمية. آلة التصوير !.. يجب أن يتخلص من آلة التصوير. هذا سيجعل جلين تندهش ولا تتجه للجسر.. بل هى توقفت لتلومه على خرقه، وهكذا استطاع أن ينتزعها من يدها ويركض معها وهى لا تفهم شيئا، نحو السيارة بعيدا عن الجسر !.. لقد نجح ! لكن الدورة مستمرة وسوف يقوم بتشغيل الجهاز اللعين للمرة الثلاثين.. لهذا عندما اقتحم المختبر مع جلين تناول أداة هشم بها الجهاز تماما فتصاعد الدخان الأزرق والوميض، ثم عاد الزمن إلى انتظامه الهادئ القديم !.. لقد كسر الدورة اللعينة.

أتذكر هذه القصة كثيرا هذه الأيام. يخيل لى أحيانا أن تاريخ مصر والعالم العربى كله هو ثلاثون عاما.. والثلاثون عاما تتكرر للأبد فى دائرة لا تنكسر أبدا. عشت خمسين عاما ونيفا متوقعا فى كل مرة أن هذه بداية جديدة وأن الدائرة سوف تنكسر، لكننا فى النهاية نعود لنقطة البداية. التاريخ يكرر نفسه بشكل مستمر.. فلتشرب أمريكا من البحر، وصورة صورة.. واللى حيبعد من الميدان عمره ما حيبان فى الصورة. كانوا يهاجمون عبد الناصر بلا توقف بينما أنت تتحمس له لأنه زعيم وطنى مخلص بنى الدولة الحديثة. اليوم اكتشفوا انه ملهم وعبقرى، فقط لأنه مزق تنظيم الإخوان. ألا ترى أن الإعلام عاد لدوره الطبيعى الأبدى فى التأليه والخداع بعد ما وضع قناع الصدق لمدة عامين ونصف؟.. صفوت الشريف يظهر من جديد فى صورة المذيعة الرقيقة التى كانت كل أسرة فى مصر تعتبرها ابنتها. بعد أعوام سيقول الإسلاميون إن وضعنا لم يتحسن وازداد سوءا لأننا ابتعدنا عن ديننا، وتبدأ أفكار سيد قطب تنبت من جديد وسوف يكون بعض الشباب مستعدا لسماعها. ألا تلاحظ أن السيناريو الجزائرى يتكرر فى مصر بدقة كما توقعنا بالضبط؟.. فى سوريا ألا تلاحظ أننا نعيش ذات أجواء حرب العراق، وأمريكا تنوى الهجوم بسبب أسلحة الدمار الشامل مع فارق بسيط هو أن صداما كان قد دمر أسلحته فعلا. أمريكا تبحث عن حل يلتف حول مجلس الأمن.

دائرة أبدية لا تتوقف ومن الواضح أننى لن أرى لحظة التحرر منها، فقد حضرت عشرات التجارب الجديدة فى حياتى منذ بيان 30 مارس الذى لا أعتقد أنك تذكره، ودولة العلم والإيمان، وحملة سداد ديون مصر، والفكر الجديد، و.. و.... اعتقدت أن نهاية الفيلم السعيدة جاءت فى يناير 2011.. انتصر الأخيار وعمت السعادة الجميع، لكن هاهو ذا الفيلم يبدأ من جديد..

قال لى صديق مثقف إن هناك كلاما شبيها بهذا للدكتور جمال حمدان. بصراحة لا أذكر إننى قرأت هذا الكلام للعالم الكبير فى كتابه الموسوعى (شخصية مصر)، ولربما كان هذا الكلام مستقرا فى ركن ما من كهوف لا وعيى، لكنه صحيح بشكل مخيف. استطاع بطل القصة أن يكسر الدورة عندما ألقى بالكاميرا فى الهاوية.. هل من فعل مماثل نقوم به قبل أن تبدأ الدورة من جديد؟