قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Monday, September 15, 2014

صديقان



قصص كهذه تخبرك أن الإنسان معنى نبيل رائع، وأن الحياة ما زالت تستحق أن تعاش برغم ما ينغصنا كل يوم. الصديق الأول هو فتى امتلك روحا متوثبة وقلبا مرهفا حساسا وعقلا جديرا بعبقري، لكن جسده الواهن خذله ولم يتحمله طيلة رحلة الحياة الشاقة، وتخلى عنه فى لحظة بعينها قبل أن يحقق حلمه.

لم يُكتب لى للأسف أن أقابل محمد نصر كشك فى حياته، ولم أدرّس له قط، لكنى فيما بعد سمعت قصته الأسطورية التى يعرفها اليوم كل طالب طب وكل عضو هيئة تدريس فى طب طنطا. الفتى الذى أصيب بداء وهن العضلات المخيف Myopathy في سن مبكرة، ومع الوقت ومرور الأعوام تحول إلى دمية من قماش على مقعد متحرك، يجد عسرا بالغا فى الكلام وصعوبة فى رفع يده أو الكتابة. هذه صورة تذكرنا جدا بعبقرى الرياضيات البريطانى ستيفن هوكنج الذى حل أسرار الكون وهو سجين المقعد وداء التصلب الجانبي، لكن هوكنج كان يحاضر فى الفيزياء ولا يحتاج سوى لعقله، كما أنه يتخاطب ويلقي المحاضرات عن طريق أزرار جهاز مثبت فى المقعد. محمد نصر كان يريد أن يصير طبيبا.. ولم يكن هناك من يعينه سوى صديقه المخلص.

هنا إرادة تزلزل الجبال. لا أحد يتصور حلا للمشكلة، ولا كيف يمكن أن يمر هذا الشاب بما يجب أن يمر به، ولا كيف يستطيع فيما بعد فحص المريض أو الكلام معه أو كتابة العلاج. المفارقة هى أنه عندما دخل الكلية كانت لياقته الطبية تسمح لكن الحال تدهور مع الوقت. وقد توقع الجميع أنه سيعمل فى الطب الأكاديمى حيث تكون مهمته البحث العلمى وإلقاء المحاضرات فقط. لم ينتظر محمد نصر كشك حتى يجيب عن هذا السؤال.. لقد رحل منذ عشرة أيام تقريبا بعد ما كاد ينهى امتحانات البكالوريوس. لقد حضر هذه الامتحانات بالكامل، وكان يستعين بأصدقائه حتى يكتبوا الإجابات بدلا منه لأنه لا يستطيع أن يمسك بالقلم. يقول صديقه الطالب محمد الزغبى:
ـ«فى امتحان أمراض النساء أخطأ فى تشخيص إحدى الشرائح وكنت أعرفها فقمت بالتصحيح له.. لكنه أصر على ألا أكتب الإجابة التى لم يعرفها بنفسه»

لم أكن شاهدا على تلك القصة ولا أستطيع أن أقسم أنها حدثت، لأن العالم لا يحوي هذا القدر من القسوة، لكن زملاءه يقولون إن عضو هيئة تدريس بالكلية أهانته أثناء المحاضرة وسألته عما يفعله فى هذا المكان مع الأصحاء. أنقل لك ما قاله الطلبة ولم أره بعينى.

عاصفة من الدموع هبت على جامعة طنطا برحيله، وقد وقف زملاؤه مع عميد الكلية يصلون صلاة الغائب عليه. لكن الأمر لم يكن مجرد شفقة معتادة من التى تشعرنا بالرضا عن أنفسنا وأننا مرهفون رائعون. الأمر كان أعظم من هذا.. كان يتعلق بمعنى مطلق.. حلم تمنى كل واحد أن يتحقق فلم يمهله القدر، لكنه بعد رحيله ترك عطرا ساحرا سيبقى طويلا ويعلمنا الكثير عن أنفسنا والآخرين. بينما يبقى على وجه الأرض أشخاص كصراصير البالوعات.. مقززون لزجون لا يجيدون إلا ترقيص شواربهم ولا لزوم لهم على الإطلاق.

عندما ذهب وفد يرأسه عميد الكلية ووكلاؤها إلى بيته فى كفر الزيات للعزاء، طلب الأب باكيا من العميد أن يمنح ابنه بكالوريوس الطب الشرفي..

ـ«عشان يبقى اسمه خد بكالوريوس الطب.. ما يبقاش اسمه سقط»

وبالفعل طلب نفس الطلب كثيرون.. صادقا للأسف كتب د. خالد إسماعيل أستاذ الجراحة بطب طنطا على الفيس بوك: «انبرينا كلنا كأعضاء تدريس نطالب بتكريم محمد.. فأين كنا طوال سنوات الدراسة منه؟.. هل فكرنا للحظة أن نكرمه حيا؟.. هل فكرنا فى بداية كل تواجد له بأى قسم من أقسام الكلية أن نجعله رمزا للإرادة الفولاذية وقدوة للأصحاء، لعلهم يستحون ويحمدون الله على نعمة الصحة، ويلتزمون بالحضور فى مدرجات الكلية الخاوية من طلابها؟........... سامحنا يا ابننا الغالى فقد ذبحناك حيا وكرمناك بعد مماتك. متى نتعلم أن التكريم والإشادة تكونان للمرء فى حياته؟». كلمة جميلة مؤثرة جدا لكن لا أستطيع نشرها كاملة. اقترح د. خالد أن يوضع مقعد محمد المتحرك وعليه صورته فى مكتب وكيل الكلية لشئون الطلاب ليتذكره الجميع. ويهنئ الفتى على أنه لم يعش اللحظة التاريخية لدى التخرج، عندما يتقاضى مبلغ 248 جنيها راتبا من الدولة كطبيب امتياز.

الصديق الثانى هو طالب الطب محمد أبو العزم، فتى كفر الزيات الذى جعل حياته كلها مكرسة لصديق عمره محمد كشك. قال شهود العيان إنه كان طيلة سنى الدراسة يوصله بالمقعد المتحرك إلى كل مكان ويرافقه فى كل الدروس والامتحانات، ويستذكر معه، لدرجة أنه كان يوصله لباب اللجنة ثم يهرع ليجتاز امتحانه الخاص بسرعة، ثم يعود لصاحبه ليرافقه. هذا نموذج للإخلاص يصعب أن تصدقه.. يذكرك بقصة صديق الأساطير الذى قبل أن يعدمه الطاغية ديموكليس بدلا من صديقه إذا لم يعد فى وقت تنفيذ حكم الإعدام. فى الواقع لم تكن له حياة خاصة مستقلة من دون صاحبه، وأعتقد أن جزءا من ذاته قد مات عندما أهال التراب على هذا الصديق.

هذه القصص قاسية أليمة بلا شك، لكنها تترك فى نفسك إكسيرا غامضا لا يمكن التعبير عنه بكلمات. تشعر أنك صرت أفضل وأن العالم ليس بهذا السوء، وبرغم أن طالب الطب الشاب المصاب بالإعاقة قد لقى ربه قبل أن يتخرج، فإنه قد ترك لنا الكثير والكثير مما نتذكره ونعيش عليه. بالتأكيد سيعيش محمد نصر كشك أطول بكثير ممن بكوه ومن دفنوه ومن كتبوا عنه