قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Tuesday, January 20, 2015

لا تخبروا أمّي!



ثمة برنامج ممتع يقدمه على قناة ناشونال جيوجرافيكس ابن المخرج العالمى (لوى بونويل)، وفى هذا البرنامج يزور المقدم أخطر البقاع فى العالم، حيث الكوارث السياسية والاقتصادية والطبيعية، ويقدم تحقيقا ممتعا، وفى كل حلقة يقول لنا: «لا تخبروا أمى أننى فى المكان الفلانى!». ستجن أمه رعبا لو عرفت أن ابنها فى أزقة كراتشى المظلمة، أو مع تجار المخدرات المكسيكيين، أو مع آيات الله فى إيران..

تذكرت هذا عندما قرأت كتاب يسرى فودة الممتع (فى طريق الأذى: من معاقل القاعدة إلى حواضن داعش)، وهو كتاب فريد من نوعه لأنه يحكى عن تحقيق صحفى استقصائى حقيقى، مثل ما كنا نسمع أن المراسلين الأجانب يقومون به. كل من عشق الصحافة بدأ بكتاب هيكل الرائع (إيران على حافة البركان) حيث ذهب الشاب هيكل ليجلس مع آية الله كاشانى ومع الثوار ومع الشاه.. حتى أن أتباع كاشانى كادوا يفتكون به لأنهم اعتبروه سخر من إمامهم فى مقاله. لم تكن هذه آخر مقالات هيكل من هذا الطراز، فقد ذهب لمعظم أماكن الصراع، ولم يجلس فى مكتبه إلا بعد أعوام شاقة طويلة. كفاح هيمنجواى مع الحرب الاسبانية معروف، ونحن ندرك اليوم أن أول ضحايا النزاعات المسلحة هم الصحفيون الاستقصائيون، فمن ُقتل منهم بالرصاص ولم يُذبح أمام الكاميرا ليتسلى الناس برؤيته فى يوتيوب، يعتبر نفسه محظوظا.

اليوم يقدم لنا يسرى فودة مغامرتين خطرتين جدا لا يحب بالتأكيد أن تعرف السيدة والدته بهما، وتدلان على أنه صحفى استقصائى عالمى من الطراز الأول. هذا شاب صادق مثير للجدل، ولأنه صادق محايد لا ينحاز لأى طرف، فهو يكسب الأعداء بنفس السرعة التى يكسب بها الأصدقاء فى عصر (إن لم تكن معنا فأنت ضدنا). فى هذا الكتاب يقدم لنا ما يصلح ليكون فيلما سينمائيا مذهلا، وإن كنت آخذ عليه أنه لم يدخل فى تفاصيل ما رأى.. اكتفى بالمغامرة التى تحبس الأنفاس، لكننا خرجنا من الكتاب ونحن لم نعرف الكثير عن القاعدة وداعش، إلا أننا عرفنا الكثير عن يسرى فودة وعدم زواجه وعشقه للتدخين وتشجيع نادى تشلسى.. إلخ!

منذ البداية يعلن يسرى أن هذا العنوان (فى طريق الأذى) مأخوذ من كتاب لأستاذه مارتن بيل من البى بى سى، الذى اقتحم معه معاقل الخطر فى البوسنة والهيرسك من قبل.

فى مقدمة الكتاب يقول ببساطة: من واقع ما أتيح لى من تجربة خاصة، فليس لدى أى شك فى أن تنظيم القاعدة هو الذى أراد ففكر فخطط فجند فدرب فمول فأرسل فنسق فمضى فى تنفيذ ما أراد. ما حدث فى ذلك اليوم (11 سبتمبر) وفى السنوات القليلة التى سبقته هو الذى يحتاج إلى مزيد من التحقيق . هكذا يغلق منذ البداية باب نظرية المؤامرة أو أن الفاعل ليس القاعدة (أنا نفسي أعتقد أنه ليس القاعدة). وفى الكتاب يفند كتب الفرنسى تييرى ميسون صاحب كتاب الخدعة الكبرى، ونظرية احتياج البنتاجون لزيادة الميزانية من ثم دبروا هذه العملية، وهى التى ذكرت حرفيا فى فيلم (قبلة طويلة قبل النوم).

ثم هو يعلن أن علاقته بقناة الجزيرة انتهت لأن مسار القناة تغير بعد غزو العراق، وبعد الإطاحة بمديرها شديد الكفاءة محمد جاسم العلى، وهكذا بدأت مرحلة الاستثمار السياسى للقناة.

بأسلوب شائق يقص علينا المغامرة التى قام بها عام 2002 عندما اتصل به شخص مجهول وهو فى لندن يدعوه لتقديم برنامج يحيي ذكرى أحداث سبتمبر. بل إنه وضع له سيناريو الحلقة مع أسماء الضيوف.. إلخ. ثم دعاه إلى إسلام آباد. كان من السهل على يسرى فودة كصحفى الجزيرة أن ينال تأشيرة دخول إلى باكستان. وهكذا وجد نفسه ذاهبا إلى باكستان بعد ثلاثة أسابيع من قطع القاعدة لرقبة مراسل أمريكى حاول أن يقابل رجال القاعدة هو دانييل بيرل. الذهاب لكراتشى بالطائرة.. تلقي التعليمات التى تتغير كل لحظة هاتفيا للتضليل. يصل مندوب القاعدة للفندق ويطلب من يسرى فودة ألا يغادر الفندق غدا بانتظار تعليمات. الغد هو الجمعة لذا يقول يسرى إن هذا يحرمه من صلاة الجمعة. هنا يتوقف أمام عبارة مثيرة للتأمل.. قال له المندوب: لا تصلّ الجمعة وسيغفر لك الله! . يتساءل فودة من أعطى نفسه هذا التفويض الإلهى بأن يغفر لمن يريد ويعاقب من يريد؟. من يحق له رسم الحدود ومتى؟.

فى النهاية عبر عمليات تمويه معقدة جدا عبر الشوارع وعصابة على العينين، وجد يسرى نفسه أمام الكويتى خالد شيخ محمد الذى تفتش عنه FBI، ثم اليمنى رمزى بن الشيبة المتهم بتفجير المدمرة كول. عرف فيما بعد أن الأول رئيس اللجنة العسكرية للقاعدة، والآخر منسق عملية 11 سبتمبر أو (الثلاثاء المبارك) كما يسمونها.

هكذا تمضى أيام على يسرى فى هذا البيت.. يضعون تصور البرنامج، ومنهم عرف تشكيل العملية وركاب كل طائرة، وعرف أن محمد عطا المصرى كان المحور الرئيس الذى لولاه لما تمت العملية. وعرف أن الخطة كانت أولا ترمى لأن تسقط الطائرات فوق مفاعل نووى أمريكى، كما عرف أن الطائرة (يونايتد 93) التى قيل إنها تقصد البيت الأبيض كانت تقصد الكونجرس. تم التصوير لكنهم اشترطوا أن يظل الفيلم معهم ثلاثة أسابيع حتى يقوموا بالمونتاج له عن طريق مؤسسة السحاب الخاصة بهم. وقد كانت هناك مشاكل كثيرة جعلته يكتفى بصوت رمزى فى الجزء الثانى من حلقة سرى للغاية. ثم حدثت كارثة القبض على خالد شيخ محمد ورمزى بن الشيبة بعد إذاعة الحوار مما جعل الكل يحسبون يسرى هو من قاد الشرطة للرجلين. هكذا صارت حياة الرجل فى خطر حقيقى.. يسرى فودة ضد القاعدة!... لكن القاعدة نشرت بيانا يبرئ ساحته من اعتقال الرجلين، وأن فودة نفذ الفيلم كما أرادته القاعدة بالضبط، كما أنه أجرى الحوار فى مايو بينما الاعتقال تم فى سبتمبر.

فى النصف الثانى من الكتاب المدعو (العبور إلى المجهول)، نرى محاولة خطرة منه للعبور إلى العراق متنكرا كرجل بدوي وبلحية طويلة. كان هذا هو العام 2006 وقد اهتم بكلمات مفكر القاعدة أبى مصعب السورى الذى قال إن حركة الجهاد العالمية مراحل.. أول مرحلة هى فى الشام، وبعدها يتم الاقتراب من إسرائيل خطوة بخطوة. لهذا يقترح عليه صديقه عدي رحلة مرعبة من سوريا للعراق حتى يقابل أمير القاعدة ويرى اجتماع الرجال لتنفيذ عملية!. لم يقبل هذا السيناريو طبعا، لكنه برغم هذا يخوض المغامرة المخيفة فى الصحراء وعبر الحدود، لدرجة أن طائرات الأباشى الأمريكية التى تحمى موكب رامسفيلد تحوم فوق رأسه.. يمكنك أن تدرك مدى التنظيم المرعب لهذه الكوادر القاعدية، غير أنه فى النهاية يدرك أن الخطر أكبر مما يقدر ويقرر العودة، ويقع فى يد المخابرات السورية ثم يطلق سراحه، بعد ما أدرك أن السيناريو العراقى سوف يتكرر حتما فى سوريا. الكتاب ممتع جدا وقصير نسبيا (233 صفحة وصور كثيرة جدا) ويمكن أن تنهيه فى جلسة واحدة. واعتقادي الخاص أن الاقتراب من هذه التنظيمات جعل يسرى فودة يحمل نوعا من التعاطف غير الكامل نحو أفكارها، فهو يشرح وجهة نظرها بحماسة فى عدة مواضع من الكتاب. يجب أن أتوقف لأننى تجاوزت المساحة. لكنى أقول أولا إن ما قام به هذا الصحفى الشجاع عمل عالمى، وثانيا لا تخبروا والدته من فضلكم إنه ذهب لمعاقل القاعدة، ودنا من حواضن داعش!