قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Saturday, March 28, 2015

اقتباس - 2


راق لي هذا الموضوع كثيرًا؛ فهو يقسِّم أنواع السَّرقات الشعرية؛ وبهذا يضع أسماءً محدَّدة لأمور هلامية تشعُر بها لكنك لا تستطيع تعريفها بدقَّة. يمكنك أن تقابل أمورًا مماثلة في كل أنواع الفنون، وقد اعتمد كاتب الموضوع — وهو ليس أنا طبعًا — على كتاب «البديع في نقد الشعر» لأسامة بن منقذ. الموضوع معقَّد بالتأكيد ومليء بالمصطلحات، ويصعب تذكُّره، لكنك قد ترجع له مرارًا …


الاصطراف
أن يُعجَب الشاعر ببيت شاعر آخر فيستعمله … هنا قد يعترف بأنه ليس من شعره هو … يسمُّون هذا «الاجتلاب». هذا يشبه أن تستعمل عبارة لبرنارد شو في كلامك وتعترف أن العبارة لبرنارد شو. قد يدَّعي الشاعر أن البيت من تأليفه هو … هذه سرقة كاملة، ويطلقون عليها «الانتحال». المثال هو قول جرير:
إنَّ الذين غَدَوْا بلُبِّكَ غادرُوا *** وشلًا بعينِكَ لا يزالُ معينَا
غيَّضنَ من عبراتهِنَّ وقلنَ لي: *** ماذا لقيتَ منَ الهوى ولقينَا؟
فإن الرواة مجمعون على أن البيتين للمعوط السعدي.

الشاعر عبد الله بن الزبير دخل على معاوية فأنشد بيتَي الشعر:
إِذَا أَنْتَ لَمْ تُنْصِفْ أَخَاكَ وَجَدْتَهُ *** على طَرَفِ الهِجْرَانِ إنْ كانَ يَعْقِلُ
ويَرْكَبُ حَدَّ السَّيْفِ مِنْ أَنْ تَضِيمَهُ *** إِذا لَمْ يَكُنْ عَنْ شَفْرَةِ السَّيْفِ مَزْمَلُ
راق البيتان لمعاوية جدًّا … راقا له إلى أن دخل شاعر آخر اسمه معن بن أوس وأنشد قصيدة أخرى لمعاوية، فاكتشف هذا الأخير أن فيها نفس البيتين! لمَّا واجه عبد الله بن الزبير بهذا لم يُنكِر الشاعر أنه انتحل البيتين، وقال: «المعنى لي، واللَّفْظُ له، وبَعْدُ فهو أخي من الرضاعة، وأنا أحقُّ بشِعْره»

هناك انتحال أقرب إلى النَّصب العلني. أنت شاعر شهير قوي؛ لذا تسطو على أشعار من هم أصغر منك فلا يستطيعون إثبات ذلك. نعرف قصصًا شهيرة عن كُتَّاب استولوا على قصص شبابٍ أدباء، ثم نشروا الأعمال ولم يجسر الكاتب الشاب ولم يستطع أن يثبت السرقة. هناك شعراء مغمورون يحاولون أن يثبتوا أنهم مؤلِّفو دواوين ناجحة لشعراء فائقي الشهرة، وبالطبع لا أحد يصدِّقهم. صديقي فنان الكاريكاتور اشترك في مسابقة أدبية نظَّمها كاتب كبير، ثم فوجئ بأن القصة التي قدَّمها للمسابقة منشورة باسم الكاتب الكبير، ولم يستطع إثبات حقه. هذا النوع من الانتحال اسمه «الإغارة» …

هناك نوع انتحال أقرب للبلطجة اسمه «الغصب»؛ أي إنك تأخذ البيت من صاحبه سواء أراد أو لم يُرِدْ … هناك بيت شعر للشمردل اليربوعي يقول:
فَما بَينَ مَن لَم يُعطَ سَمعًا وطاعةً *** وبَين تَميمٍ غَيرُ حَزِّ الحَلاقِمِ
سمع الفرزدق هذا البيت فقام بممارسة ما نطلق عليه «التثبيت»، وقال للشاعر: «والله لتدعَنَّه أو لتدعنَّ عِرضك»

فخاف الشمردل وتنازل عن بيت الشعر بنفس الطريقة التي تتنازل فيها عن الهاتف الجوال تحت تهديد السلاح، وقال: «خذه، لا بارك الله لك فيه»

بصراحة لا أذكر حادثة أدبية مماثلة عندنا. لم أُشهِر سكينًا على عنق أديب لآخذ قصته لنفسي حتى هذه اللحظة.

على عكس الإغارة والغصب، هناك من يعطيك أبيات الشعر برضًا تام لتستعملها، وهذا ما يُطلقون عليه «المرادفة»:

سمع جرير بيت الشعر الذي أنشده ذو الرمة:
نَبَتْ عيناكَ عن طَللٍ بحُزْوَى *** عَفَتْه الريحُ وامْتُنِحَ القِطارَ
فقرَّر أن يساعده ببيتين قويين من تأليفه؛ هما:
يَعُدُّ الناسبون إلى تَميم *** بيوتَ المجدِ أربعةً كِبارَا
يَعُدُّون الرَّباب وآلَ سَعْدٍ *** وعَمْرًا ثم حَنْظلةَ الخِيارَا
وبما أن هؤلاء القوم شعراء فعلًا، فقد شمَّ الفرزدق رائحة شعر جرير وأدرك أنه صاحب البيتين الأصليُّ.

أحيانًا يقتبس الشاعر نصف البيت ثم يُكمله بألفاظه هو … كأنك ترى قصة هاري بوتر فتبدأ بطفل يتيم يتربَّى مع أسرة قاسية … ثم يصير هذا الطفل طبيبًا بارعًا. أي إنك بدأت مع راولنج ثم انطلقت مبتعدًا. يطلقون على هذا «الاهتدام». وهناك نوع اقتباس اسمه النظر والملاحظة والإلمام … أي إنك تستوعب فكرة البيت ثم تكتبه بلغتك أنت … هناك أعمال أدبية كثيرة بهذه الطريقة.

الاختلاس
هو أن تسرق فكرة من شاعر آخر وتستخدمها في غرض آخر.

كقول عبد الله بن مصعب:
كَأَنَّكَ كُنتَ مُحتَكِمًا عَلَيهم *** تُخَيَّرُ في الأُبُوَّةِ ما تَشاءُ
اختلسه من قول أبي نواس:
خلَّيتَ والحسنَ تأخذهُ *** تنتقي منه وتنتخِبُ

من الممكن للشاعر أن يعكس بيت شاعر آخر ويستعمله. فبيت شعر حسان بن ثابت:
بيض الوجوهِ كريمةٌ أحسابهم *** شُمُّ الأنوفِ من الطِراز الأوَّلِ
يعكسه ابن أبي قيس بالضبط وبدقَّة:
سودُ الوُجوهِ لَئيمةٌ أحسابهمْ *** فُطْسُ الأُنوفِ من الطرازِ الآخِرِ

هناك توارد خواطر يجعل الشاعرَيْن بريئَيْن لم يسرق أحدهما عن الآخر، اسم هذا «المواردة»؛ فابن الأعرابي والحطيئة كلاهما قال بيت الشعر:
مُفِيدٌ ومِتْلافٌ إِذا مَا أتَيْتَهُ *** تَهَلَّلَ واهْتَزَّ اهْتِزَازَ المُهَنَّدِ
وقد تاه ابن الأعرابي فخرًا لأنه قال هذا البيت كما فعل شاعر عظيم مثل الحطيئة قبله.

من الممكن أن يجمع الشاعر عدة أبيات لغيره فيضعها في خليط واحد … مثل قول يزيد بن الطَّثَريَّة:
إذا ما رآني مقبلًا غضَّ طرفه *** كأنَّ شعاعَ الشمسِ دوني مقابله
فهو «كوكتيل» متجانس من بيت شعر لجميل وبيت شعر لجرير وبيت شعر لعنترة الطائي:


إِذا ما رَأَوني طالعًا من ثَنيةٍ *** يقولون: مَن هذا؟ وقد عَرَفوني

فَغُضَّ الطَّرفَ إِنَّكَ مِن نُمَيرٍ *** فَلا كَعبًا بَلَغتَ ولا كِلابا

إِذا أَبصَرتَني أَعرضتَ عَني *** كَأَنَّ الشَّمسَ مِن حَولي تَدورُ

وقد قسَّم ابن الأثير السرقات إلى خمسة أقسام؛ لكلٍّ منها أقسام تتضمَّنها:

  1. النسخ: فهو أخذ اللفظ والمعنى برمته من غير زيادة عليه.
  2. السلخ: فهو أخذ بعض المعنى؛ مأخوذًا ذلك من سلخ الجلد الذي هو بعض الجسم المسلوخ.
  3. المسخ: فهو إحالة المعنى إلى ما دونه؛ مأخوذًا ذلك من مسخ الآدميين قردة.
  4. أخذ المعنى مع الزيادة عليه.
  5. عكس المعنى إلى ضده.

موضوع معقَّد جدًّا، لكنه يدل على دقة اللغويين العلمية وعدم تركهم شيئًا للصدفة. أعترف أنني مارست الاجتلاب والمرادفة والاهتدام والإلمام، ووقعت كثيرًا في فخ المواردة. لكني — ولله الحمد — لم أمارس الانتحال أو الغصب أو الاختلاس أو الإغارة. أتركك الآن لتعيد قراءة المقال لتتذكَّر معنى هذه المصطلحات!