قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Wednesday, April 8, 2015

المدلِّسون


هناك قصة طريفة من قصص مجلة ميكي تقوم فيها البطة الحسناء ديزي داك بمحاولةٍ يائسةٍ للظفر بوظيفة في جريدة؛ تُسنَد لها مهمةُ تغطيةِ أخبار حفلٍ نسائي كبير، وخشيةَ أن يسبقها محرِّرٌ آخَر، تقوم دون أن تغادر مكانها بكتابة موضوع كامل عن الحفل، وكيف كان حلمًا مبهجًا، ثم تكتشف لدى نشر الخبر أن الحفل قد أُلغِي بالكامل أمس!


ليست هذه قصة خيالية تمامًا. الحقيقة أن مثل هذه القصة تتكرر كثيرًا في عوالم الصحافة …

ثمة قصة عجيبة ذُكِرت في كتاب «هل باريس تحترق؟» الذي كتبه لاري كولينز ودومنيك لابيير، وتحكي عن زحف جيوش الحلفاء نحو باريس في الحرب العالمية الثانية، حتى صار من المؤكَّد أنهم سيفتحون المدينةَ خلال أيام. مذيع بريطاني لم يتحمَّل هذا الانتظارَ وقرَّرَ أن يستبق الأحداثَ بتقريرٍ لم يحدث؛ راح يحكي في المذياع عن جيش عمر برادلي الذي دخل باريس وكيف فرَّ النازيون، وكيف راح الفرنسيون يرمون الأزهار على جنود الحلفاء في الشانزليزيه … إلخ. طبعًا لم يحدث شيء من هذا وقتَها. إيزنهاور قائد العمليات كان متردِّدًا؛ لم يكن يريد تبديدَ قوَّاته في تحرير باريس، واستهلاك ما لديه من وقود؛ لهذا فضَّلَ أن يدور حولها برغم إلحاح الجنرالات مثل باتون وعمر برادلي … تصوَّرْ شعورَ أهالي باريس وهم يرون النازيين في كل مكان، بينما المذياع يصف في حماسةٍ تحريرَ باريس ورقص الناس في الشوارع. للأسف، لا أجد هذا الكتاب في مكتبتي، فلا أستطيع أن أتذكَّر اسم المذيع المدلِّس الذي ضاع مستقبله لدى انكشاف الحقيقة، لكن أؤكِّد لك أن القصة حقيقية.

هناك صحفي أمريكي دخل التاريخ باعتباره سيد الصحفيين المدلِّسين، وقد قدَّموا قصةَ حياته في فيلمٍ اسمه «الزجاج المهشم – ٢٠٠٣». لاحِظْ أن «جلاس» معناها «زجاج»؛ فهذا الرجل يُدعَى «ستيفن جلاس». لقد تبيَّن أن نصف مقالاته في جريدة «نيو ريبابليك» مفبرك.

افتضح أمر الرجل عام ١٩٩٨ في مقالٍ كتبه عن مراهق يجيد التسلُّلَ لنُظُمِ الكمبيوتر، فقامت شركة كبرى هي «جوكت ميكرونيكس» بتعيين المراهق كمستشار أمني. قام البعض بالبحث في هذه القصة فلم يجدوا لها أصلًا؛ الشركة المذكورة ليست لها سوى صفحة واحدة على مضيف مجاني، تبيَّنَ فيما بعدُ أن جلاس هو الذي أنشأها، وعندما أخذوا الصحفي لقاعة الاجتماعات التي زعم أنه التقَى فيها بمصدر معلوماته، تبيَّنَ أنه لم يزرها من قبلُ، وأنها كانت مُغلَقةً في التاريخ الذي حدَّده. بعد هذا اكتشفَتْ مجلاتٌ عديدة أن القصص التي نشرها فيها لم تحدث قطُّ. لقد دخل الرجل التاريخ ككذَّاب. ومن الطريف أنه كتب عن حياته كتابًا مهمًّا يتفاخر فيه ببطولاته، وربما كان معه الحق؛ كم منَّا يستحق أن يُنتَج فيلم هوليوودي كامل عن حياته في حياته؟

بالنسبة لجريدة نيويورك تايمز، هناك المحرِّر جيسون بلير الذي قام بتلفيق حوارات كاملة، واستقال من الجريدة عام ٢٠٠٣. كذلك هناك محرِّر اسمه مايك بارنيكل في جريدة «بوسطون جلوب». القائمة طويلة على كل حال …

أحيانًا يُكتشَف أمر المدلِّس متأخرًا جدًّا؛ هناك محرِّرة أمريكية شهيرة عُوقِبت بعد تخرُّجها من هارفرد لأنها انتحلت لنفسها كلماتٍ قالها آخَرون عندما كانت محرِّرة في جريدة الجامعة!

من أشهر المدلِّسين — أو المتَّهمين بذلك — الكاتب الصحفي الشهير فريد زكريا؛ وهو كاتب أمريكي من أصل هندي حصل على الدكتوراه في العلوم السياسية من هارفرد، يكتب في جريدة نيوزويك مقالًا أسبوعيًّا عن العلاقات الدولية، وهو كذلك محرِّر في سي إن إن. ويذكر الناسُ أنه كان من أكثر المطالِبين باحتلال العراق والقضاء على صدام حسين حماسةً، كما طالَبَ ببقاء الأمريكيين هناك للأبد؛ لأن رحيلهم يعني تفتُّت العراق. اتهامات التدليس تطارد هذا الكاتب بإلحاح.

أوقفَتْه مجلة تايم وقناة سي إن إن لبعض الوقت عام ٢٠١٢ بسبب مشكلة مماثلة، وقد اعتذر بعدها، ويبدو أن من عاداته استعارة ستِّ أو سَبْع فقرات من الكتَّاب الآخَرين في كل مقال، وإنْ زعَمَ هو أن طبيعةَ كتابة العمود تحتم ذلك؛ فالمساحة قصيرة لا تسمح بأن تذكرَ مصدر كل عبارة تستعملها، خاصةً لو كانت معلومة عامة. أَضِفْ لهذا أن كل الكتَّاب معرَّضون لخطر دائم، هو أن يقولوا كلامًا زُرِع في عقلهم الباطن من أعمال آخَرين، ويحسبون أن هذا كلامهم هم. هكذا دافَعَ عن نفسه.

لكنَّ تغيير الكلمات قد يبدو مُتعمَّدًا، أيْ تسرق الفكرة ثم تغيِّر الكلمات. هناك مقال نُشِر في «أميريكان هيرتاج» قال فيه الكاتب ماكس رودان: إن شراب المارتيني قد بلغ ذروةَ الإتقان والغموض الساحر، وقال: إن الرئيس الأمريكي روزفلت كان يضع على كأس المارتيني ملعقةً من المحلول الذي يسبح فيه الزيتون. في مقال لفريد زكريا يقول: إن المارتيني يعطي جوًّا عامًّا من الغموض والسحر… والرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت كان يضع بعض محلول الزيتون على كأسه! يمكن أن يزعم أنه أخذ هذه المعلومات من نفس الكتاب الذي أخذ منه رودان معلوماته؛ فكلا الكاتبين لم يكن جالسًا مع روزفلت وهو يضع الزيتون على المارتيني، لكنَّ تغييرَ الكلمات الطفيف يدل على سوء نية، وإلا لاستعمل الكلمات التي استقرَّتْ في عقله الباطن كما هي.

هناك في الصحافة المصرية لقاءاتٌ كاملةٌ مع أشخاص مشهورين، وهي لقاءات لم تتمَّ أصلًا. لعل أشهر القضايا الأخيرة كانت المقال الذي انتحله إعلامي شهير كان له برنامج تلفزيوني يتابعه الناس في شغف. والحقيقة أنه اعتذَرَ عن هذا الخطأ بكثيرٍ من روح الدعابة، وبما له من رصيدٍ كبيرٍ عند الجماهير صفحوا عنه فورًا. ذات مرة وجدتُ في مجلة طبيبك الخاص دراسةً مهمةً نُشِرت في عشر صفحات، وكتبها طبيب نفساني مصري شهير. الحقيقة أنها مأخوذة حرفيًّا من كتاب ثلاث نظريات في الجنس لفرويد، حتى أعتقِد أنه لم يُعِدْ كتابتها، بل أزالَ اسم فرويد وكتب اسمه وأرسَلَها. من الصعب أن تجد هذا الكتاب؛ لأنني كنتُ المجنونَ الوحيد الذي اشتراه وقرأه.