قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Monday, May 18, 2015

مؤامرة الصمت


فى المدرسة الثانوية كنا فى واحد من تلك الامتحانات التى لا أهمية لها، ولا تضاف درجتها إلى المجموع الكلى، لذا كان مسموحا لنا أن نعبث كما نريد وأن نخرج الكتب لننقل منها، والكل كان يفعل ذلك، بعلم المراقبين وصفحهم طبعا. طلب المراقب من أحد الطلبة ألا يحدث صخبا، فقال الطالب متظرفا: «بنغش بس يا بيه !».

هنا استشاط المراقب غضبا، وأصر على طرد الطالب قليل الأدب خارج اللجنة وتمزيق ورقته. خطر لى فى تلك اللحظة أن الفتى استحق هذا العقاب، لأنه قد خرق مؤامرة الصمت أو (الاستعباط) العام الذى يسود اللجنة: أقنعنا أنفسنا أن هذا امتحان محترم وأننا أمناء صادقون، فلماذا يتطوع بأن يذكرنا بأننا نغش؟ ولماذا يهدم سلامنا النفسى بهذه الحقيقة؟


تذكرت هذه القصة عندما عرفت قصة المستشار محفوظ صابر وزير العدل. لقد صرح بأن ابن عامل النظافة ليس من حقه العمل فى القضاء. هنا انقلبت الدنيا كلها عليه، برغم أنه ذكر حقيقة واقعة.. قاسية فعلا وتدل على العنصرية وتخرق الدستور، لكنها حقيقة راسخة. الدستور يقول فى المادة 53 إن الناس سواسية فى الحقوق والحريات والواجبات بلا تمييز، والتمييز جريمة يعاقب عليها القانون.

وقد اضطروا الرجل للاستقالة ووجدت آلة ضخ الأكاذيب المسماة بالإعلام موضوعا يشغلها أسبوعين آخرين، خاصة أنه ليس من الوزراء الخطرين المهمين والاستغناء عنه سهل للتظاهر بأننا أفضل مما نحن عليه، بينما هو لم يقل سوى ما يعرفه الجميع. إذن لماذا لا يقال وزراء آخرون ارتكبوا أخطاء أعتى؟. الرجل تصرف ببراءة وصراحة فى زمن يشتمون فيه أمهات الناس علنا على شاشات الفضائيات، ويدعو المذيعون الناس لإسالة بحور الدم فى الشوارع، ويذيعون مكالمات شخصية للنشطاء دون حكم من المحكمة. ظن الرجل أنه يمكن أن يتكلم بلا مشكلة فى مناخ كهذا.

ثم تعال هنا.. لو كان الوزير قد أخطأ والحكومة صححت الخطأ، فلنر إذا ابن البواب القادم أو ابن عامل النظافة التالي الذى سيصير قاضيَا.

كل طفل يعرف أن هذه هى الحقيقة، وأن مصر طبقية جدا، فقط كانت هناك مرة واحدة أتيحت فيها الفرصة للجميع إذا تفوقوا فى التعليم، وما زال كثير من المصريين يعتبرون هذه أسوأ أخطاء جمال عبد الناصر. يمكنك فى كل يوم أن تسمع:«منها لله الثورة اللى علمت ده.. أو: منك لله يا عبد الناصر اللى خليت ده مهندس.. أو: لولا عبد الناصر مكانش ده ينفع دكتور أبدا». إذن نحن نحمل طبقية هائلة وقدرا غير معقول من التعالى، كأننا جميعا من سلالة الباشوات.

منذ أعوام عرفت سائق سيارة أجرة، وهو شخص فى غاية الرقى والاحترام والتدين، وقد خاض حربا شاقة كى يقدم لابنه فى كلية الشرطة، وكان الفتى رياضى الجسد متوقد الذكاء شديد التهذيب، لكن النتيجة كانت (غير لائق اجتماعيا) لأن أباه سائق سيارة أجرة مكافح. هذا شبيه جدا برائعة (يعقوبيان) عندما فشل ابن البواب فى دخول كلية الشرطة، وكانت التنظيمات المتطرفة جاهزة لتتلقفه.

ما دمنا مع د. علاء الأسوانى فلنتذكر مشروع روايته التى كانت ستصدر قبل نادى السيارات، وكان اسمها (جمهورية كأن).. الجمهورية التى تتصرف كأنها دولة حديثة ديمقراطية متساوية الفرص. وماذا عن مقال إبراهيم عيسى الشهير عن نورماندى تو..؟ فى عالم عبد الفتاح القصري / الإبيارى الساحر تصير مركب الصيد الجربانة سفينة هائلة اسمها نورماندى تو.. الكل يعرف أنها مركب متداعية، لكنهم يقنعون أنفسهم بالعكس. يقنعون أنفسهم بوجود صحف معارضة وبرلمان وتكافؤ فرص.. إلخ... ما فعله وزير العدل هو أنه اعترف بصوت عال أن هذه مركب صيد.

يروق لى فى دكتاتور كوريا الشمالية كيم جونغ أون، أنه لا يخدع أحدا ولا يتظاهر بشيء.. أنت تعرف أن كل دولة تحمل فى اسمها كلمة (ديمقراطية) هى دكتاتورية لعينة. إنه دكتاتور فظيع يعدم خصومه رميا للكلاب، وينسف وزير الدفاع لأنه نام فى عرض عسكرى.. إلخ، وهو بهذا ينفذ بلا نفاق أو ادعاء ما يحلم به كل دكتاتورات العالم الثالث، الذين يقضون الوقت فى التظاهر بأنهم دول حديثة. الصحافة تنشر آراء الحاكم والقضاء ينفذ إرادته، ثم يقول الحاكم: «لا دخل لى بهذا الذى يقال أو تحكم به المحاكم.. هذه دولة مؤسسات ديمقراطية !»... اختصر ولد كوريا (المكلبظ) هذه الرحلة المعقدة.

لقد تصرف إبراهيم محلب بشكل حضارى واعتذر لعمال النظافة وقبل استقالة الوزير، كل هذا جميل، لكن هل تعتقد حقا أن هناك ابن بواب أو ابن عامل نظافة سيكون قاضيا فى الفترة القادمة؟

يجب أن تُحذف عبارة (غير لائق اجتماعيا) من قواميسنا للأبد، وإلا كان معناها الانسداد وانعدام الأمل لأجيال كاملة تحلم بالترقى، فلا تجد أمامها سوى أحضان داعش الحنون. فى الوقت نفسه يجب أن يكون هناك كشف هيئة لنفسية المتقدم إلى هذه المهن الحساسة.. قياس لقدراته العقلية وتوازنه النفسى، والميول السادية أو الطبقية التى قد تعوقه عن أداء مهنته. أعتقد أن علم النفس السلوكى قادر على تصميم اختبارات كهذه. لا ينبغى أن نصب الغضب على وزير العدل المستقيل، بل نصب غضبنا على أنفسنا وطبقيتنا وعدم احترامنا للعمل. لو كنت تؤمن حقا وفى قرارة نفسك أن عامل النظافة شخص محترم له نفس الحقوق مثلك، فأنا أتمنى أن يكون هناك المئات منك. وإلا فإننى لا أتهم وزير العدل إلا بالصراحة الزائدة.. ما كان له أن يعلن أننا نغش فى الامتحان ويخرق مؤامرة الصمت.