قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Wednesday, October 7, 2015

المهنة: مخبر



"المهنة: صحفي.."

هذا عنوان فيلم شهير لمايكل أنجلو أنطونيوني، وقام ببطولته جاك نيكلسون. أستعمله مع بعض التعديل طبعًا، بما يناسب الموقف.

اللجان الإلكترونية حقيقة واقعة مؤكدة، سواءً كانت تخص الحكومة أو أعداء الحكومة، وهناك مقال كتبه أحد العاملين بهذه اللجان الحكومية يصف تجربته وكل شيء. للأسف لا أجد هذا المقال أبدًا في ذاكرة الكمبيوتر المليئة بالكراكيب عندي.

تذكرت هذا المقال، وأنا أطالع تعليقات أحد القراء على موقع في "فيس بوك".  

كنت أتابع تعليقات هذا القارئ المخضرم التي تعلوها صورته المتجهمة المنذرة بالذبح، وهو يطالب بإعدام كل من شارك في ثورة يناير، أو يطالب بقطع رأس يسري فودة ووائل غنيم والبرادعي وشنق أسماء محفوظ وأحمد ماهر وحرق ريم ماجد.. أحيانًا يكتب قائمة الخونة العملاء في مصر كما يراها، وهي قائمة طويلة يكتبها بنفس الترتيب دائمًا، وغالبًا ما ينسخ نفس التعليق أربع مرات في الصفحة. وقد تعلمت مع الوقت أنك تدخل "بروفايل" أمثال هذا الشخص فتجده فارغًا تمامًا، أو تجد علم مصر ولا يوجد شيء آخر. هذا ديدن اللجان الإلكترونية النشطة التي تلاحق كل كلمة تُكتب على النت، وتتولى تدمير وتشويه سمعة كل من يعزف نغمة مخالفة. أعتقد أن هناك مصطلحًا يصف هذا هو (تحفيل) لكني لست متأكدًا.

ذات يوم نشرت تلك الجريدة الرقمية أخبارًا عن رجل قتل زوجة صديقه لأنها رفضت علاقة معه، وتم القبض عليه.. حادث بشع وقد علّق القراء عليه بشكل متوقع، لكني وجدت هذا الأخ المتحمس قد كتب عبارة واحدة موجهة للقاتل هي: "مكالمتك الأخيرة هي اللي فضحتك يا بقف!".

لم يوجد في الخبر أي كلام عن مكالمات أولى أو أخيرة، وقد بحثت عن الخبر جيدًا في عدة مواقع فوجدت المعلومات شحيحة جدًا.  كدت أموت من الضحك لأن غريزة أن يظهر عليمًا ببواطن الأمور تغلبت على هذا الأخ في النهاية.. هذه معلومة لا يعرفها سوى ضباط التحقيق أو شخص يعرف تفاصيل الحادث من الداخلية. شهوة التباهي بالمعلومة جعلته ينسى نفسه للحظة. 

هذه مشكلة دائمة في مصر.. مشكلة تباهي المخبرين بأنهم كذلك..

كلنا يذكر نمط المخبر الشهير، بالشارب الكث والعصا والتلفيعة والمعطف الصوفي الثقيل في أغسطس، كأنه زي رسمي يوزعونه على المخبرين، وهو نفسه يوشك على تعليق لافتة تشرح مهنته للناس. أذكر رسمًا كاريكاتوريًا طريفًا لمتسول يطلب حسنة من أحد هؤلاء قائلا: حسنة لله يا حاج، فيرد هذا في خطورة وهو يبرم شاربه: مخبر!

كان الكاتب العظيم أحمد بهاء الدين يتكلم مع وزير الداخلية وقتها -أعتقد أنه ممدوح سالم- عن المخبرين الذين يعملون في مهنة الصحافة، كم هم أغبياء ومفضوحون، ثم أنهم يستغلون الفرصة لتصفية حساباتهم مع أعدائهم.. نصف التقارير السرية المقدمة ضد صحفيين شيوعيين هي تقارير كيدية لتصفية خلافات. تساءل أحمد بهاء الدين: "بالله عليكم لم لا تتخيرون مخبرين من عينة أرقى وأذكى؟".

كان ممدوح سالم ذكيًا صريحًا.. ربما أذكى وأنظف وزير داخلية عرفته مصر منذ زمن.. وقد قال كلمة لم ينسها بهاء قط: "هل تعتقد أننا قادرون على أن نجد صحافيًا ذكيًا أمينًا وناجحًا وابن ناس يقبل أن يكتب تقارير عن زملائه؟".

هذه مشكلة أخرى.. من الصعب أن تجد مخبرًا ذكيًا أمينًا ولا يتفاخر بأنه مخبر.

في أيام الكلية كانت هناك حفنة من الطلبة يتعاونون مع مكتب أمن الدولة ويكتبون التقارير عن زملائهم ويفسدون عمليات الانتخابات والمجلات الطلابية. كانوا معروفين لنا جميعًا بالاسم والتصرف. من ناحية المظهر كانت هناك لحظة ما -بلا تفسير- يتحول فيها الطالب الفقير ممزق الثياب إلى شخص متأنق لا يلبس إلا البذلة وربطة العنق ويدخن أرقى أنواع السجائر الأجنبية.  من ناحية السلوك يمكن أن تلاحظ بسهولة الطالب الذي لم يكن يصلي، ثم بلا تفسير لهذه الهداية المفاجئة راح يحضر كل الصلوات ويصغي لكل دروس المسجد، حيث يجتمع أعضاء الجماعة الإسلامية التي كانت نواة الإخوان في الجامعات وقتها. وهذا لا يمنعه من تقليب صفحات أجندة هذا الطالب أو ذاك عندما يدخل دورة المياه، ويقف لينقل الجدول الدراسي أو هذا الإعلان أو ذاك لمدة ساعتين، بينما الطلبة يتزاحمون ويتكلمون وراءه ثم يأتي غيرهم. الأسوأ هو أنه يتفاخر بذلك على طريقة شيخ الغفر الذي يبرم شاربه ويضحك في غموض وخطورة. أصل احنا الحكومة.. هع هع..  وعندما كان المحاضر يقول شيئًا ذا طابع سياسي كان الصف كله ينظر في فضول إلى صاحبنا المخبر، فيبتسم في حنكة وغموض. بما معناه: كله حيخش الملف.   

لا توجد أسرار.. على طريقة كمساري الحافلة أيام حرب الاستنزاف الذي كان يصيح في الركاب بأعلى صوته:
ـ "المحطة الجاية محطة المطار السري!".

كانت الموضة في أيام السادات هي التقارير السرية ضد الشيوعيين، واليوم موضة التقارير السرية ضد الإخوان، وقد رأينا قصة الصحفية التي أبلغت عن زميلها الصحفي زاعمة أنه من الإخوان، وهذا بسبب خلاف شخصي على الأرجح، وهذا يعني أن مهنة المخبر لم تتطور كثيرًا.. فقط تغير شكل العدو.

عرفنا بعد هذا المخبر الذي يحتل ساعات في الإعلام، يدعو لأن تسيل الدماء في الشوارع ويطالب بذبح المعارضين، ورأينا المخبر الذي يملأ وجهه ملصقات الشوارع، ويطل ساعات في الفضائيات يعرض تسجيلات شخصية لأشخاص دون إذن النيابة، ويتعامل بفخر كأنه بوب وودوارد الذي كشف تسجيلات ووترجيت، مع أنه هذا ليس مجهوده على الإطلاق طبعًا، بل هي تسجيلات أمره مراد بيه أن يذيعها، وهو ينظر للناحية الأخرى لأنه مشمئز من رؤية وجهه. ومن يجرؤ على الاعتراض يقال له: خلّي بالك من مكالماتك.

مهنة المخبر مهنة عريقة ومهمة، منذ أن كان اسمها (كبير البصاصين) أو (خبّاص العمدة) حتى صار اسمها (الإعلامي الكبير)، ولن تنقرض أبدًا. وهي محترمة طالما كان دورها الدفاع عن أمن الوطن أو منع الجريمة، لكن دورها هنا يكاد ينحصر في منع النشاط السياسي والفتك بالمعارضين. كأشياء أخرى كثيرة في مصر تعاني هذه المهنة من قلة التخطيط والعشوائية والجهل و: "مكالمتك الأخيرة هي اللي فضحتك يا بقف!".  ومن جديد نتذكر عبارة ممدوح سالم الرائعة: "لا يوجد صحافي ابن ناس وذكي وأمين يقبل أن يكتب تقارير ضد زملائه".