قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Wednesday, March 9, 2016

الإعلامي الأكثر أهمية


بصراحة لا أعتقد أن صفحة عكاشة قد طويت من السياسة والإعلام المصريين بهذه السهولة، فالرجل مثل الأنثراكس قادر على التحوصل والبقاء حيًا في ظروف سيئة جدًا، ثم ينتعش من جديد. وقد قال محاميه حسام سليمان "إن موكله سيتقدم بطعن أمام النقض ضد قرار إسقاط عضويته، خصوصاً أن هذا القرار مخالف للدستور واللائحة".

قال المحامي إن هناك أخطاء قانونية من بينها عدم الاستماع لموكله أثناء الجلسة ومنعه من دخول القاعة، فضلًا عن عدم التصويت أولًا على توصية اللجنة الخاصة المشكّلة للتحقيق معه، بحرمانه من حضور الجلسات، وأضاف أنه كان يجب فى البداية التصويت على هذا القرار قبل التصويت على إسقاط العضوية.

هناك خبراء قانونيون قالوا إن طرد عكاشة حق داخلي للمجلس لا يجوز الطعن فيه. لا أعرف الحقيقة يقينًا لكني متأكد من أن لقاءه بالسفير الإسرائيلي ليس سبب طرده. 


صار عكاشة جزءًا من الحياة الثقافية والسياسية لكل المصريين بعد ثورة يناير، وتسلل إلى كل البيوت، وبالتأكيد استطاع أن يفسد تفكير المصريين لجيل كامل. ما زال يذكرني بعم أحمد إمام الزاوية في شارع يسكن فيه صديقي. كان عم أحمد قد بلغ أرذل العمر لذا كانوا يتجاوزون عن كثير مما يقول ويفعل.. هذا الكثير كان يتضمن أن يفتح الميكروفون من الواحدة صباحًا حتى صلاة الفجر، وينهال بالدعاء على خصومه وأعدائه بالاسم واحدًا واحدًا.. كلما رأيت توفيق عكاشة تذكرت هذا الرجل.

عرفت عكاشة للمرة الأولى بعد المناظرة الفكرية العميقة بينه وبين البرادعي حول البط وبرك الجمال في السوق. ثم عرفت قناة الفراعين التي هو صاحبها ومعدها ومذيعها والضيف الدائم فيها، بل إنه هو من يجري المداخلات الهاتفية. وبدا واضحًا أنها مصطبته الخاصة التي يصفي فيها الحسابات مع أعدائه. وهو لا يتعب من الكلام لحظة واحدة.. يمكنه أن يستمر في الكلام ست ساعات متواصلة. وأنت تدرك على الفور أن كل المذيعين والمذيعات هم دمى يتحكم فيها ويتكلم من خلالها كما يفعل المتكلم من بطنه. شاهده هنا يملي على حياة الدرديري ما تقوله كأنه يكمن في كمبوشة الملقن. لا شك أن مذيعيه كانوا يعيشون أسود ساعات حياتهم مع التوتر واحتمال الطرد والإهانة على الهواء.

شاهده هنا يهين مذيعة على الهواء وينهي البرنامج بينما الفتاة موشكة على البكاء. وفي الحلقة التالية يقدم لنفس المذيعة شبه اعتذار. هنا تعد حياة الدرديري تلك المذيعة الشابة بمستقبل مشرق مع القناة، فينقلب عليها بدورها: هو انتي بقيتي صاحبة القناة والا إيه؟ لا أعرف ما يفكر فيه مذيعوه والعاملون معه ولا كم يدفع لهم، لكن لا أعتقد أنهم يحملون له الكثير من المودة.

لا يمكن التنبؤ بسلوكه، كما أنه يحب إهانة فريق العمل العامل معه لأن هذا يشعر الفلاحين أنه (شديد وحمش). في الوقت نفسه كان على استعداد تام لأن يهين نفسه في أي وقت مع من هم أقوى منه أو يملكون له شيئًا. كل شاب لديه على الكميوتر صورة عكاشة وهو يقبل يد صفوت الشريف قبل الثورة.



كان توفيق عكاشة خليطًا فريدًا من فلاح مصري (قراري)، ومعلم الكُتّاب وعبيط القرية وخطيب المسجد فيها، وأدولف هتلر وأنبياء العهد القديم الغاضبين دومًا على شعوبهم الحمقاء. وفي كل يوم يبدأ بكلمته الشهيرة: "الحقيقة........" كأنه برتراند راسل مثلاً، ثم يحشو عقول الناس بخليط فاسد من نظريات المؤامرة والماسونية وبروتوكولات حكماء صهيون. مع نطق كل الأسماء والمعلومات خطأ. وهو يكرر دائمًا إنه فلاح فلا تثريب عليه. وكان أداؤه دومًا يذكرني ببيت الشعر العبقري لأبي تمام:

ليس الغبي بسيد في قومه.. لكن سيد قومه المتغابي !


وقع المواطن المصري البسيط في حب القناة بطريقتها السهلة الأسرية وجو المصطبة الحميم، بينما المصري الأكثر وعيًا كرهها، لكنه أدرك أنها وسيلة قياس حساسة تخبره بما تفكر فيه وتريده المخابرات. ومع الوقت استطاع عكاشة بخليط من المال والنفوذ واقتناع الناس الحقيقي به أن يتحول إلى شبه زعيم شعبي.


لقد لعب عكاشة دورًا جبارًا في تاريخ المصريين، وقد سمعت عن دراسة دكتوراه غربية عنه فعرضت في حماسة أن أترجمها لأنها كتاب بالغ الأهمية. فجأة بدا أن عكاشة أقوى من أي قانون.. أقوى من مصر نفسها، وبرغم عشرات الأحكام القضائية ومحاولات غلق القناة. كان يعود في كل مرة ليخرج لسانه. هكذا أدرك الجميع أنه مسنود بقوة مثل نائب الأعشاب إياه، ومثل الرجل الذي يسب أمهات الناس، ومثل المذيعة التي تفضح ضيفاتها والتي جاء دور عقابها أخيرًا.

وفجأة انهار السد..

القصة التي سمعناها جميعًا هي الغضبة على لقائه بالسفير الإسرائيلي في بيته. ميول عكاشة التطبيعية ليست جديدة. وقد رأيناه ينزع حذاءه ليضرب كل من يتكلم عن مساندة الفلسطينيين، بل إنه هدد السيسي نفسه لو مد لهم يد العون. ورأيناه متحمسًا جدًا تطبيعيًا بشدة في حلقة البرنامج التي أقنعته فيها المذيعة إنها إسرائيلية، فصار على استعداد للتعاون بأي شكل وقول أي شيء.. شاهد جزءًا من الحلقة هنا.

فجأة انفتحت أبواب الجحيم على الرجل. الرجل الذي أهان الجميع وهدد رئيس الجمهورية (أيام مرسي) بالقتل، صار ملعونًا ومطليًا بالقار. خلت دائرة نبروه. شهادة الدكتوراه التي يزهو بها اكتشفوا فجأة أنه لا وجود لها، فلا توجد جامعة اسمها ليك وود برادنتون. أغلق عكاشة قناة الفراعين وعرضها للبيع.


عامة لا أحد يُعاقب في مصر إلا إذا قرر من هم فوق عقابه. الكل ينجو سواء كذب على الجميع من خلال اختراع الكفتة المزعوم، أو فضح مصر في المحافل الدولية، أو شتم شعبًا كاملاً مثل المغرب، أو قتل السياح أو ضرب الأطباء بالحذاء. الكل ينجو في النهاية ما لم تأت الغضبة من فوق. ومن الواضح تمامًا أن موضوع التطبيع ليس التهمة الوحيدة، بل هوجم الرجل لعشرات الأسباب منها تهجمه على السعودية والسيسي.. إلخ.

منذ متى نرى تلك المواقف البطولية الشبيهة بجيفارا؟ كثيرون يتصرفون باعتبار إسرائيل دولة صديقة، لا مانع من مغازلتها ومطارحتها الغرام. نفس الجريمة ارتكبها من قبل مثقف مهم هو علي سالم يرحمه الله، وكان خطرًا حقيقيًا لأنه كاتب موهوب واسع الثقافة ومن أهم أعمدة المسرح عندنا، لذا بدا موقفه صفعة للمناخ العام المعارض للتطبيع. هناك اتفاقيات سلام مع اسرائيل بالتأكيد، هذا يعني ألا نحاربها لكنه لا يعني أن نقع في غرامها. وكما قال رابين يومًا: "السلام لا يعني الحب.. السلام هو عدم الحرب". السلام لا يعني التطبيع.

كالعادة كان هناك من اعتبر علي سالم بطلاً واقعيًا هزم مزايدات الحنجوريين. لدينا ولع شديد بتسمية الأشياء بغير أسمائها. بينما الأمر سهل.. ادخل أول مقهى واهتف من أجل إسرائيل وانظر إن كنت تخرج حيًا سليمًا أم لا. الصق نجمة دواود على زجاج سيارتك ولتر كم من الوقت يظل سليمًا قبل أن يهشم. ما زالت إسرائيل بالنسبة للمصري هي العدو الذي قتل أولاده وأهله، وهو منطق صائب تمامًا... بالنسبة لي ما زلت أرى أن علي سالم كان يحلم بلعب دور المثقف العالمي الذي تجاوز حدود الإقليمية الضيقة. ولا شك أن جائزة نوبل كانت في ذهنه. 


السؤال هو ما الذي فعله عكاشة ولم يفعله علي سالم وآخرون؟. هذا سؤال مهم. الفكرة هي أن الوقت جاء لعقابه أو شد أذنه لسبب آخر لا نعلمه غالبًا، وهو عقاب جاء متأخرًا جدًا بعد ما عبث في عقول المصريين لجيل كامل حتى إننا لن نشفى من أثره قبل عشرين سنة. رأيي الذي قد يكون خاطئًا أنه سيعود بعد فترة قصيرة أو طويلة، لأنه لا يمكن الاستغناء عن دوره (الإعلامي) لتشكيل عقول البسطاء. فلننتظر ولنر.