قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Monday, April 18, 2016

مفقود كوستاجافراس



لا يحمل هذا المقال إسقاطات من أي نوع أو هجومًا على أي جهة، ما دامت التحقيقات لم تنته بعد في قضية الفتى الإيطالي ريجيني، ولا القتلى الذين اتهموهم بأنهم تشكيل عصابي لخطف الأجانب. إنما تشابه الموقفين في عدة نقاط – الكثير منها – هو ما ذكرني بهذا الفيلم الرائع الذي أخرجه كوستا جافراس عام 1982: مفقود. هناك شاب أجنبي يُفقد في بلد يمر بتوتر سياسي، ويظل السؤال معلقًا حول مصيره، وفي النهاية يعرفون أنه قُتل.

أُخرج فيلم مفقود عن كتاب لتوماس هاوزر، عنوانه (إعدام تشارلس هورمان: تضحية أمريكية). ثم جاء المخرج اليوناني العظيم كوستاجافراس ليقدم القصة ذاتها في فيلم سياسي جريء. المهتمون بالسينما يذكرون لجافراس فيلم زد الشهير الذي هز العالم سنة 1969، والذي يحكي عن اغتيال مناضل سياسي يوناني على يد عصابات البلطجية الذين يحملون السنج والعصي، والذين أرسلهم الحزب الحاكم لمنع مؤتمر له. وكذلك فيلمه الجريء عن فلسطين (هانا - ك) الذي قدمه عام 1983، وناقش فيه قضية عرب فلسطين مجازفًا بأن يدمره اليهود بتهمة معاداة السامية. أسلوب جافراس مميز في تناول القضية في كل أفلامه: هناك جريمة بوليسية يتم التحقيق فيها، ويضطلع بها محقق متحمس، ثم يفهم ببطء أنه دخل عش الدبابير وأن القضية سياسية على أعلى مستوى.


في العام 1973 حدث انقلاب في شيلي ضد الحاكم الشيوعي المنحاز للفقراء سلفادور اللندي، وأطيح به ليحكم الجنرال بينوشيه الدكتاتور حكمًا عسكريًا قاسيًا. منذ اللحظة الأولى بدت بصمات المخابرات المركزية الأمريكية وراء هذا الانقلاب. في الواقع هذه البصمات كانت واضحة في كل انقلابات أمريكا اللاتينية، فلم يفلت منها سوى كوبا.

لم يقل الفيلم لحظة أن الأحداث تدور في شيلي، لكن كل طفل كان بوسعه استنتاج ذلك. يقدم لنا الفيلم منذ اللحظات الأولى الصحفي الأمريكي الشاب تشارلز هورمان رسام قصص الأطفال والمراسل ذا الميول الماركسية. يعيش هناك مع زوجته الرقيقة سيسي سباسيك، وهو من أسرة أمريكية قوية النفوذ ثرية، لكنه أغضب أباه بإصراره على العمل في هذا البلد الفقير.


فجأة يحدث الانقلاب، وهو انقلاب تموله المخابرات المركزية الأمريكية كما قلنا، وسرعان ما تتحول الشوارع إلى جحيم.. نار.. دبابات.. رصاص.. لدرجة أن ارتداء النساء للبنطال ممنوع، فتتواجد لجان شرطة مهمتها تمزيق سراويل النساء لتحويلها لتنورات!!

وسط الفوضى تضطر الزوجة لقضاء ليلتها في الناحية الأخرى من المدينة، لأنها ذهبت لتودع صديقاتها. تقضي ليلة مخيفة في الشارع بينما رجال الجيش يطلقون الرصاص على كل ما يتحرك. وفي مشهد لا ينسى نرى مطاردة بين سيارة عسكرية وحصان أبيض رشيق يحاول الفرار من الطلقات، كأن هذا الحصان هو الحرية.. شاهد هذه اللقطة هنا.

في الصباح تبلغ دارها لتكتشف أنه تم تفتيشها ولا تجد زوجها. يقول الجيران إن الجيش اعتقل زوجها ليلاً. بعد ما تجرب كل شيء، تتصل بوالد زوجها (جاك ليمون) رجل الأعمال الأمريكي واسع النفوذ الذي لا يطيقها باعتبارها سبب جموح ابنه.. هو يعرف أنه سيجد ابنه لأنه أمريكي، وسوف يساعده كل أمريكي يعمل في شيلي.

من هنا تبدأ عملية البحث عن الابن المفقود. السفير الأمريكي في شيلي يؤكد لهما في كل مرة أن المفاوضات جارية مع حكومة الانقلاب، وسوف يظهر الصحفي. يقابل الأب شهود العيان بنفسه محاولاً جمع خيوط القصة. البحث تضمن المستشفيات والمشرحة والمعتقل الضخم، ويرافقه في كل مكان موظف من السفارة الأمريكية. هنا نرى لوحات تشكيلية مرعبة رائعة صنعها كوستاجافراس للجثث المكومة في كل ممر وكل شق وحتى على السقف الزجاجي في المشرحة، وكما وصف الناقد الجميل رءوف توفيق المشهد (كأنه صياد الموت يفرش شبكته ليعرض محصوله). كل هذا مع موسيقا البيانو الحزينة لعبقري آخر هو المؤلف الموسيقي اليوناني فانجيليس. يمكنك سماع اللحن المميز للفيلم هنا. وهنا الأغنية التي غنتها إلين بيدج بكلمات على نفس اللحن.

ولأن الأب أمريكي، تقوم الحكومة الجديدة بترتيب عرض له في الاستاد مع كل المعتقلين، ويعطونه مكبر الصوت ليسأل به عن ابنه وسط هذه الآلاف. لا أحد يظهر وتتوالى الإحباطات.

في النهاية بعد بحث متواصل لا يهدأ لحظة، يصل الأب للحقيقة وهي أن ابنه أعدم رميًا بالرصاص منذ أسبوعين ودفن في حائط. ويعرف كذلك أن السفير الأمريكي يعرف ما حدث منذ البداية، حتى وهو يساعده في البحث عن ابنه. لقد كانت الحكومة الأمريكية متواطئة بالكامل مع حكومة الانقلاب، لهذا لم تكن مستعدة لعمل مشاكل من أجل مقتل صحفي أمريكي. يقول الأب المكلوم للسفير الأمريكي: سوف أقاضيك أنت والرئيس... أحمد الله أنني في بلد يسمح بمقاضاة مثلك!

ينتهي الفيلم بعودة جثة الفتى إلى الولايات المتحدة بعد سبعة أشهر كاملة، وفي ذلك الزمن كان معنى هذا استحالة معرفة سبب الوفاة. يجب أن نقول هنا إن تحليل الحمض النووي الذي تم مؤخرًا أثبت أن الجثة ليست جثة الصحفي. إي أن هورمان ما زال مفقودًا.


أحدث الفيلم صدى كبيرًا، وتحرك السفير الأمريكي في شيلي وقت الانقلاب، ليطالب بمنع الفيلم وتعويض قدره 150 مليون دولار من شركة يونيفرسال، وهي قضية خسرها على كل حال. لكنه نجح لفترة طويلة في منع عرض الفيلم.

حصد الفيلم الجوائز في مهرجان كان، لكنه لم يظفر بأي جائزة أمريكية سوى جائزة أفضل سيناريو عن قصة أدبية!. وفي المؤتمر الصحفي في كان قال كوستاجافراس: "الحقيقة التي يجب ألا ننكرها هي أن الفيلم أمريكي.. أنتجته شركة أمريكية هي يونيفرسال... وبطولة نجمين أمريكيين.. من المدهش أن ترى قدرة أمريكا على النقد الذاتي، وهذه القدرة هي أهم مزايا الديمقراطية في أمريكا".

مع مفقود كوستاجافراس كانت الحكومة الأمريكية تعرف التفاصيل، ولربما هي متواطئة. نحتاج لقدر كبير جدًا من الحظ حتى يتضح أن إيطاليا هي التي قتلت ريجيني لتورط مصر في مشكلة عويصة!!!. وحتى ذلك الحين يجب أن نجد قصة أكثر إقناعًا من قصة ميكروباص خطف الأجانب، الذي يحتفظ ركابه بممتلكات القتلى بأمانة تامة.