قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Sunday, May 1, 2016

البحث عن شبشب


Alibaba

الآن  حان الوقت كي نترك السياسة وشأنها. اتخذت هذا القرار ألف مرة من قبل، وفي كل مرة كنت أختنق بالكلمات، فأعود للكلام عن أحوال البلد. المشكلة هي أنك تغلق الأبواب والنوافذ وتسد ثقوب المفاتيح بالقطن آملاً أن تنعزل، لكن السياسة تجد دائمًا – كالبعوض – ثغرة ما تحت باب أو فرجة نافذة تتسلل منها لحياتك. لكني أرجو جادًا ان أنفذ ما انتويته هذه المرة. من الواضح أن الناس سعيدة راضية بحياتها، وهم يغنون في الشوارع، ويلوحون بعلم السعودية، ويعرضون التنازل عن الهرم نفسه، ويشتمون العملاء الصربيين المتنكرين كثوار، ولدرجة أن إحدى المشاهدات الوطنيات اتصلت بأحمد موسى لتخبره إنها اشترت ماء نار بثلاثمئة جنيه لتحرق به من يتظاهر يوم 25 إبريل، وهو ما يدل على أن الناس لم تعد تعاني أي مشاكل مادية ما دامت تشتري ماء نار بهذا المبلغ. هكذا لم يعد من مجال للمزايدة، أو أن يتظاهر أحد الكُتّاب بأنه يعرف مصلحة القوم أكثر منهم. وفق الله الجميع.

ننتقل لموضوعنا اليوم...

كان صديقي المهندس يعاني مشكلة مزمنة مع ابنه المراهق الذي بدأ يدخل في طور التمرد المعروف. في البدء يعتبر الطفل أباه من آلهة الإغريق، ثم يكبر فيدرك أن أباه رجل عادي لا يمتاز بشيء، ثم يصير مراهقًا فيكتشف أن أباه أقل من أي شخص آخر في العالم، ويتصرف كأنه من العار أن يكون للمرء أب.

أولاً بدأ الفتى ينتقد أباه في كل شيء.. لا يرضى عن طريقته في ارتداء الثياب، أو طريقته في التعامل مع الناس، أو البرامج والأغاني التي يحبها.

ثم بدأ يخرق ما اعتبره صديقي مجموعة من التابوهات السلوكية. الفتى يستيقظ كل يوم في الثالثة عصرًا ولا يرى أي جدوى من الاستيقاظ مبكرًا.. يقول له صديقي:
ـ"سوف تضيع الكثير من الفرص باستيقاظك متأخرًا"

فيطالبه الفتى بأن يذكر له فرصة واحدة ضاعت منه وهو نائم.. لا يوجد. ثم يذكره أنه لو كان البكور يجلب الفرص لصار صديقي رئيس الجمهورية، وهذا لم يحدث.

كان الفتى طالبًا في كلية الهندسة.. طلب منه أبوه أن يستذكر بجد ليصير معيدًا في الكلية فأستاذًا، لكن الفتى كان يرى ببساطة أن آخر شيء يحلم به هو أن يصير معيدًا في هذه الكلية الكئيبة. حياتهم رتيبة مملة ودخلهم قليل وثيابهم رثة.. من الجميل أن تكون أي شيء في العالم سوى معيد في كلية الهندسة.

يقول صديقي:
ـ"بذلت جهدًا جهيدًا لأجعله يعيد الطبق الذي أكل فيه للمطبخ.. لا جدوى. عندما يبدل ثيابه فهو يلقي كل قطعة ثياب في ركن من البيت، وعندما يعود للبيت يجمع هذه الأجزاء ببساطة. قلت له إنه يجب أن يكون منظمًا.. فسألني: ما جدوى ذلك ؟ في النهاية هو لم يفلس أو يمرض أو يدخل السجن بسبب قلة نظامه"

قلت لصديقي إنني قد تربيت على الشبشب البلاستيك الأحمر. كان أبي يؤمن به كطريقة تربوية ناجحة، وأعتقد أنها كانت فعالة بدليل أنني لم أصر سفاح نساء أو تاجر مخدرات أو سكيرًا. لم يكن أي أب من جيل أبي يضيع وقته في الجدل. كان الشبشب البلاستيك الأحمر ينهي أي مناقشة فورًا، مع واجب جديد يُضاف لواجباتك؛ هو أن تجري نحو الشبشب بعد الضربة لتعيده لأبيك ليستخدمه ثانية. ولا شك أن صديقي هو نفسه تربى على هذا الشبشب كثيرًا. قال لي في أسى:
ـ"لم يعد هناك شبشب بلاستيك أحمر في أي مكان، حتى في الموسكي.. ثم أن الفتى قد كبر جدًا و(إن كبر ابنك خاويه)"

هنا تأتي المشكلة الجديدة.. عندما يأخذ الفتى كبسولة من الفيتامين، فإنه لا يعيد الشريط للعلبة أبدًا، ولا يعيد العلبة لصيدلية الدواء أبدًا. عندما لامه صاحبي قال الفتى:
ـ"طباع الناس تختلف.. هناك من يعيدون الشريط وهناك من لا يفعلون.. يجب أن تقبل الاختلاف!"

عندما يأتي عامل مثل الكهربائي أو السباك للبيت فإن الفتى يغلق حجرته على نفسه، ويرى أنه لا جدوى من متابعتهم فهم قادرون على خداعه على كل حال. لو طلب السباك أجر تركيب (حمبروشة) فمن  المستحيل أن تعرف هل هو كاذب أم صادق. الفائدة الوحيدة من مراقبتهم هي منعهم من السرقة أو ذبح أهل البيت، وهذا لن يحدث ما دام صديقي – أبوه – موجودًا يؤدي نفس الدور.

قال لي صديقي:
ـ"المشكلة هي أنه لا يلقى جزاءه أبدًا.. لا يقابل أبدًا تبعات سيئة لما يفعله، ولم يجد أي فائدة ملموسة لنصائحي، ولم يفتقد قط ما تحققه من مزايا.. يعني لو كانت هناك جائزة بمئة ألف جنيه لمن لا يلقى بجواربه في ركن الغرفة، وخسر هو هذه الجائزة لعرف أنني على حق"

ضحكت كثيرًا.. الواقع أننا جميعًا نلاقي هذه المشكلة مع أولادنا، ولربما كان ابنه وابني يجلسان الآن على الفيس بوك يشكوان عناد وتصلب رأي أبويهما... قلت له إن هناك قصة قصيرة جميلة لسومرست موم حول هذا الموقف. دعني أقصها عليك:

كان صديق سومرست موم يشكو من ابنه بنفس الطريقة، فالفتى لا يطيعه أبدًا ويصر على أن ما يقوم به صواب. وقد راح الأب يأمل أن يلقى الفتى أسوأ مصير نتيجة مخالفته لأبيه. سافر الفتى لباريس فنصحه أبوه أن يبتعد عن الملاهي الليلية والعاهرات وأن يكون حذرًا. طبعًا ارتاد الفتى كل الملاهي الليلية ولعب القمار، وكان يربح دائمًا، ثم وجد فتاة ليل جميلة.. اصطحبته إلى فندق رخيص خلف الملهى حيث نام معها. في الواحدة صباحًا شعر الفتى النائم بحركة، ففتح جفنيه قليلاً. وجد العاهرة قد نهضت من الفراش، وهي تتلفت حولها في حذر، ثم تفتش في جيب بدلته المعلقة  لتسرق ما معه من نقود، بعدها تتجه إلى أباجورة في الصالة فتنزع الشابو وتدس المال هناك، ثم عادت في رشاقة للفراش لتندس جواره.. وسرعان ما غطت في النوم. في حذر نهض الفتى بعد نصف ساعة ومشى على أطراف أصابعه إلى الأباجورة، فوجد أن فيها ماله وكل مدخرات العاهرة التي سرقتها من البلهاء الآخرين. ارتدى ثيابه في رفق ثم دس كل هذا المال في جيبه، وغادر الفندق! 

قال صديق سومرست موم: هكذا ترى أن الفتى خالف كل تعليماتي فنال اللذائذ وسرق تحويشة عمر هذه العاهرة وعاد مظفرًا. كيف تتوقع أن أنصحه بعد اليوم او أقدم له خبراتي؟؟ قال له موم بعد تفكير: أرى أن ابنك لم يملك فضيلة الطاعة أو فضيلة العفة، لكنه امتلك سلاحًا مهمًا يشق به طريقه في الحياة هو الحظ... ابنك محظوظ جدًا وليس لك أن تخاف عليه.. على الأقل كن مطمئنًا أنه سينجح في حياته برغم خرقه لإرادتك.

حكيت هذه القصة لصاحبي شاعرًا بأنني ألعب دور سومرست موم، فلم يفهم قصدي. قلت له إنني لا أتحدث عن الخمر والقمار والنساء طبعًا، لكن ابنه قد يكون محظوظًا في أشياء أخرى.. ربما لا يحتاج أبدًا لترتيب الفراش أو الثياب أو إعادة الطبق للمطبخ، وربما لا يحتاج أبدًا إلى الوقوف مع السباك أو العودة للبيت قبل العاشرة مساء. فأنت في النهاية لا تبغي سوى سعادته. دعك من أنك لن تجد اليوم شبشبًا من البلاستيك الأحمر أبدًا. عليك أن تقبل هذا.