قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Saturday, July 30, 2016

وفاة مخرج مصري


كلما فاز بجائزة من جوائز الدولة أو المهرجانات المحلية، اعتبروه باكستانيا، وتطوع المخرجون إياهم برفع القضايا لعدم أحقيته بالجائزة، فإذا فاز في مهرجان دولي -وما أكثر ما فعل هذا- فهو مصري حتى النخاع نفخر به. وهي نفس اللعبة التي لعبوها مع بيرم التونسي زمان، ثم مر بها صف طويل من الفنانين والأدباء، ونحن نتذكر أنهم يقررون فجأة أن بلال فضل يمني عندما ترتفع حرارة معارضته.

لكن المخرج العظيم الراحل محمد خان يثبت في كل أعماله أنه مصري جدا ويفهم كل مقهى وكل حارة وكل ورشة وكل عربة فول فى هذا البلد، أكثر بمراحل -والتعبير لسامي السلاموني- من كل المخرجين الذين يصورون المقاهي التي يجلس فيها الحرامية يشربون الخمر ويشاهدون الراقصة، ثم يكسرون (فياسكات النبيت) فوق رءوس بعضهم طيلة الوقت.


كلنا للموت في النهاية مهما تقدم بنا العمر، لكنك تشعر بغصة لا شك فيها كلما فقدت واحدًا ممن شاركوا في صنع ثقافتك ورؤيتك للعالم، والذين جاهدوا ليجعلوا العالم أروع، وبرحيلهم تبقى فجوة في وجدانك لا يمكن أن تملأها. لعب محمد خان هذا الدور بشدة. بالنسبة لعشاق السينما في جيلي كان أي فيلم جديد ليوسف شاهين أو محمد خان أو داوود عبد السيد أو شريف عرفة عيدًا ثقافيا مهما، وبالطبع كان صلاح أبو سيف قد توقف، ورحل عاطف الطيب بسرعة.

تعود ذكرياتي عن خان إلى بداية الدراسة الجامعية، مع فيلم غريب الطابع اسمه (ضربة شمس)، حيث بدت واضحة تلك الحيوية في الإخراج، مع قدرة مبهرة على التصوير في الشوارع، وخلق جو التشويق لدرجة الرعب حتى إن ليلى فوزي بارعة الحسن تحولت لكائن مخيف كمصاصي الدماء. وإن شممت رائحة فيلم (تكبير Blow Up) الذي قرأت عنه في كتابات النقاد في مراهقتي الأولى ولم أكن قد رأيته طبعًا.

عرفت من مقال الناقد الكبير سامي السلاموني الأسبوعي أن هناك مخرجًا ومصورًا انعقدت بينهما صداقة فريدة ونوع من العشق المتأجج لمعشوقة واحدة، والمخرج يدعى محمد خان بينما المصور العبقري يدعى سعيد الشيمي. كلاهما درس السينما في الخارج، ثم أدرك أنه لا يريد تقديم أي شيء في الحياة سوى صنع الأفلام.

خان ذهب لدراسة الهندسة في بريطانيا لكنه صار مخرجًا وعاد ليعمل لفترة مع صلاح أبو سيف ثم قدم أول أفلامه. كان انحياز السلاموني لهما كاملا، وكنت أنا في سن أريد فيها من يخبرني بما أعتقده.. هكذا وقعت في حب خان ولم يكن رهانًا خاسرًا قط. لاحظت أن بشير الديك يوشك أن يكون ضلعًا ثالثًا لمثلث الإبداع ذاك.

كل فيلم لخان كان يحمل ذكريات خاصة في حياتي، وإن كرهت فيلم الرغبة الذي قدمه عام 1980.. فقد كان مملا بحق، والسبب طبعًا هو أنه مأخوذ عن رواية مملة بدورها؛ هي جاتسبي العظيم لسكوت فيتزجيرالد.


بدأ خان ينضج مع كل فيلم ويثبت أنه ظاهرة وأن الرهان عليه لا يخطئ، فيأتي فيلمه الساحر "موعد على العشاء". سيمفونية العذوبة.. والولع بالتفاصيل..

أما أكثر أفلامه سبقًا للعصر وأروعها بلا شك فهو "الحريف" الذي لا تعرضه الفضائيات تقريبًا. يمكنك مشاهدته هنا. الفيلم من إنتاج جماعة سينمائية اسمها جماعة الصحبة، كونها خان مع زملائه مثل خيري بشارة وبشير الديك وداوود عبد السيد وعاطف الطيب، وهي جماعة استطاعت أن تغير وجه السينما المصرية في الثمانينيات فعلا. في فيلم الحريف يقدم عادل إمام أحد أقوى أدواره على الإطلاق. بداية محمد خان مع هوام المدينة وعين مفعمة بالحب والرقة برغم هذا.. القدرة على رؤية جمال المستنقع. هناك لحظة تبكيني بشدة عندما يخرج عادل إمام ونجاح الموجي من القسم فجرًا.. ويدعوهما صاحب سيارة لدفعه من الخلف.. يفعلان ذلك، فتنطلق السيارة.. هنا ينهار نجاح الموجي ويبكي بلا سبب تقريبًا سوى الشعور بالهزيمة، وتسمع لحن (الشوارع حواديت) يتردد في الخلفية. شاهد هذه اللقطة في الدقيقة 56.. يشارك سامي السلاموني بدور قصير Cameo كعامل في مصنع الأحذية. تراه في الدقيقة 4:30.

مع الوقت تدرك أن خان يتماهى مع شخصية فارس.. دون كيشوته التعس الذي يحارب الطواحين بلا جدوى. لقد استعمل نفس الاسم في "طائر على الطريق" و"الحريف" و"فارس المدينة".

ثم يأتي اللقاء مع يحيى الفخراني الذي تخنقه القاهرة فيذهب إلى الريف مع أسرة ثري بوهيمي، يجيد الاستمتاع بالحياة والأكل.. الكثير منه. وهناك يقرر أن يظل للأبد ولا يعود للقاهرة المغبرة المنهكة التي تمثلها خطيبته الملطخة بالأصباغ.. خرج ولم يعد.. هنا نغمة حنين للريف لا تقل عن أروع الأشعار الرعوية. في العام 1987 كنت أعمل طبيبًا في الريف، وراح هذا الفيلم يتسلل لمخيلتي من وقت لآخر ملوحًا بالإغراء.. بيت صغير هنا وخضرة وزوجة صغيرة حسناء محدودة التعليم، لكنها ترعى بيتها جيدًا.. حياة هادئة ناعسة.. و... بالطبع لم أجرؤ. كانت حياتي المرهقة الطويلة المفعمة بالاحتمالات والضغوط تنتظرني في نفاد صبر.

نجاح ساحق آخر مع "خرج ولم يعد" آخر... فيلم "عودة مواطن" حيث يعود يحيى الفخراني من الخليج محملا بالريالات ليكتشف أن كل شيء تغير.. لقد ضاعت أسرته وحبيبته بالفعل، وفي النهاية يقرر العودة.. هناك مشهد نهاية قوي جدا لمقاعد المطار الفارغة بعدما رحل الجميع. الآن صارت لمسة خان وشخصيته الكاسحة واضحتين تمامًا.. بصماته تظهر في كل كادر، وكما أن رؤية خمس دقائق من أي فيلم تجعلك تعرف أنه ليوسف شاهين أو بركات، فقد صار من السهل أن ترى أي لقطات لتدرك أنها بصمات محمد خان.. كأنه يوقع في ركن الكادر.

لم يكن حسام الدين مصطفى وحسن الإمام مخرجين محببين للمثقفين، لكن بصماتهما واضحة في كل فيلم أخرجاه. مما أذكره عن هذا الفيلم أنني انبهرت جدا بدور أحمد عبد العزيز الذي رأيته لأول مرة، وبدا مذهلا في دور خريج الكلية المحبط اليائس. للأسف افترست المسلسلات هذا الممثل الخطير فلا أذكر له أدوارًا بهذا الإتقان.


بعد هذا تتوالى قنابل محمد خان المدوية.. "زوجة رجل مهم" الذي سوف يحتل بالتأكيد موضعًا مضمونًا في قائمة أفضل عشرين أو أفضل عشرة أو أفضل خمسة أفلام مصرية على الإطلاق. أداء صاعق من أحمد زكي وميرفت أمين وسيطرة كاملة على التفاصيل البصرية، وقد قرأت وقتها قصة -لست متأكدًا من صحتها- عن روبرت دي نيرو الذي رأى الفيلم بدون ترجمة إنجليزية في مهرجان "كان" وفي اليوم التالي رأى أحمد زكي في لوبي فندق فتقدم نحوه وسأله: ألم يكن هو بطل فيلم أمس؟ ثم قال إنه فهم كل شيء عن الشخصية من تعبيرات الوجه ونظرات العينين. لا أعرف صحة القصة لكنها قابلة للتصديق، لأن أحمد زكي لو وجد في هوليوود لصار من أساطين (استوديو الممثل) أو (الطريقة) مثل دي نيرو.

"أحلام هند وكاميليا" فيلم مذهل آخر عن هوام المدينة.. وقد أثار غضب بعض الكتاب وقتها، لأنه يظهر مصر في صورة مهينة ولأن فيه صراصير! كتب أنيس منصور يهاجم الفيلم بقسوة، وإنني لأتساءل عما يقوله لو رأى الأفلام الحالية وخناقات الفتوات الذين يقومون بتقفيل (المنتئة) وجعلها تنام من المغرب.. والسنج والبانجو والترامادول. لقد تعامل خان مع البؤس والقذارة بأعلى درجة من الرفق والجمال والاحترام. يمكنه أن يريك الجمال في كومة قمامة.

يأتي فيلم "سوبر ماركت" ضمن سلسلة أفلام الانفتاح الشهيرة التي ترصد خلخلة المجتمع المصري، والسوبرماركت الذي ولد في ذلك العصر تقريبًا جاء ليزيح البقال الطيب الذي يقطع الجبن الرومي والحلاوة الطحينية ويأخذ رهن زجاجات المياه الغازية. في السوبر ماركت يمكنك شراء كل شيء حتى فتيات أحلام الآخرين.

"مستر كاراتيه" الذي قدمه أحمد زكي مع نهلة سلامة دعابة طويلة مسلية، لكنني لم أفهم ما المقصود بها بالضبط. اشتهر الفيلم بأغنية مستر كاراتيه التي تراها هنا. وهو ككل فيلم ممتع حقا.


ثم جاء (يوم حار جدا) الذي لم أفهمه ولم أحبه. بدا لي كأنه فيلم يناقش مشكلات المليونيرات الذين يريدون قتل زوجاتهم. أيام السادات فيلم ضخم الإنتاج وقد برع أحمد زكي في تقليد السادات ببراعة، لكن الفيلم اعتمد بالكامل على كتاب البحث عن الذات، وكتب أحمد بهجت السيناريو منه. هذا بالطبع جعل شخصية السادات في الفيلم مسطحة تتكلم من جانب واحد، وكما قال إبراهيم عيسى وقتها: "كمن يقدم فيلمًا عن حياة هتلر معتمدًا على كتاب كفاحي فقط !". كما أن الفيلم استعرض بانوراما كاملة لحياة السادات، بينما كان يجب أن يركز على فترة ثرية بعينها كما فعل فيلم "ناصر 56" مثلا.

الآن بدأت مشكلات محمد خان مع المنتجين وصعوبات الإنتاج. إنه يمر بنفس ما شعر به العبقري البريطاني تيري جيليام عندما وصف المنتجين بأنهم: "الغيلان الجالسة على قدور المال". ولأسباب مماثلة قطع العبقري الياباني كيروساوا شرايين يده يومًا. لكن محمد خان لا يتوقف.. قرر أن يتجه لأساليب الديجيتال فيقدم فيلم كليفتي. ثم يقدم فيلمًا راقيًا رقيقًا هو في شقة مصر الجديدة.. وكان "فتاة المصنع" آخر فيلم رأيته له.

لم يأت عالم خان من فراغ، فهو مثقف واسع الثقافة البصرية، وكان يتابع كل المهرجانات وكل الأفلام في نهم. ثم إنه يعشق السينما بجنون.

قدم خان في الصحف سلسلة مقالات تحمل عنوان (مخرج على الطريق) وقد جمعها في كتاب مهم، وإن عاب عليه البعض أنه يحمل طابع عدم التجانس. وهو العيب الدائم في كل كتب المقالات المجمعة، لكن حفظ الأفكار يظل مزية تبرر عدم التجانس. وبالطبع خسرنا الكتاب الذي يشرح فيه تجربته كاملة على غرار كتب إيزنشتاين وتاركوفسكي والحوار المطول لتريفو مع هتشكوك.. إلخ.. هذا كتاب لم يكتبه قط ولن يكتبه للأسف.


محمد خان أيقونة ثقافية مهمة بالتأكيد ولسوف نفتقده كثيرا، كما افتقدنا نجميه أحمد زكي وسعاد حسني اللذين لن نراهما في أي فيلم تال. لكن هؤلاء العباقرة يتركون بصماتهم على كل شيء وكل موضع في حياتك، لدرجة أنك لا تصدق أنهم غابوا بالفعل.. هم في الحقيقة موجودون بشكل آخر.