قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Monday, September 12, 2016

سالييري الفنان



برغم كل شيء كان سالييري صادقًا محبًا للفن بالفعل، ولم يخدع نفسه قط. لقد أحب الموسيقا جدًا، لذا لم يستطع أن ينفي الموهبة عن موتسارت. أتحدث طبعًا عن فيلم أماديوس الذي أخرجه ميلوس فورمان سنة 1984، والذي تجد المعلومات عنه هنا. لو لم تكن قد شاهدته بعد، فأنا أنصحك بأن تسدي لنفسك معروفًا وتبحث عنه. 

خارج سياق المقال: قبل أن أتكلم، أؤكد لك أن لفظة موسيقا تكتب بالألف وليس بالياء، حتى لا تتكرر القصة الدائمة عندما يقوم السادة المصححون بتغييرها من (موسيقا) إلى (موسيقى). قال لنا أستاذ اللغة العربية الرائع في المدرسة الثانوية محمد القاضي إنه سيهشم رأس من يكتبها بالياء اللينة. وفيما بعد عرفت أنه على حق تمامًا. لم يترك أحد (الموسيقا) في حالها سوى مصححي المؤسسة العربية الحديثة.

أحيانًا يسود الخطأ ويبدو من يصر على الصواب أحمق. أذكر أن قارئًا علق على مقولة لي: (لا أحد يتقي الله في عمله) بأن الصواب هو (لا أحد يتقّ الله في عمله). وأضاف من عنده بلطف: "اللغة العربية بتسب لكم الـ (...).. دول كتاب إيه دول؟". لا يعرف أن صيغة (من يتقّ الله) القرآنية حذفت الياء لأن الفعل مجزوم. الأظرف هو أن (اللايكات) انهمرت عليه من أجل دقته اللغوية، ولأنني كاتب جاهل تسب لي اللغة العربية الـ( ....) ...!

عم كنا نتحدث؟ نسيت .. الاستطراد سمة مهمة من سمات تصلب الشرايين على كل حال. كنا نتكلم عن فيلم أماديوس وسالييري.

يناقش هذا الفيلم الرائع – بدقة تاريخية واهية – علاقة موتسارت الموسيقار العبقري بسالييري موسيقار الملك ذي الأصل الإيطالي. إن وضع سالييري متميز .. متوسط الموهبة لكن لا أحد يعرف هذا لا الجمهور ولا الملك الذي برهن على أنه بلا أذن موسيقية بتاتًا. شخص واحد يعرف أنه متوسط الموهبة هو سالييري نفسه. ثم يُفاجأ بظهور صبي رقيع شهواني لا يحترم أحدًا ولا شيئًا؛ هو موتسارت، وهذا الصبي أشبه ببركان متفجر من الموسيقا الرائعة. فقط سالييري يستطيع أن يعرف روعة هذه الموسيقا وسحرها. 


يرى سالييري موتسارت عن قرب، ويرى قلة أدبه وانعدام لياقته عندما يتعامل معه في حضرة الملك. شاهد اللقطة هنا. هكذا يكتسب حقدًا مزمنًا تجاه الفتى، وهذا الحقد يمتزج بشعوره بالظلم، لأن الله منح الموهبة لرقيع مثل موتسارت بينما لم يعطه إياها، وهذا الشعور بالظلم يدفعه للإلحاد. أداء مذهل استحق الأوسكار بجدارة من الممثل ذي الأصل السوري فريد موراي أبراهام الذي يقولون إن اسمه الأصلي هو فريد مرعي إبراهيم. 


في لقطة بارعة يكتشف سالييري في رعب عبقرية هذا الموتسارت، عندما يرى المسودات الأصلية لموسيقاه . لا يوجد خطأ أو محو واحد .. لقد كان الفتى يتلقى ما يملى عليه من قوى كونية فيدوّنه كأنها حصة إملاء. شاهد هذه اللقطة هنا

هكذا نرى تلك العلاقة المعقدة التي كتبها ببراعة أنتون شافر، والتي تجمع بين الانبهار الشديد والغيرة والإعجاب .. إن سالييري يكره موتسارت كالجحيم لكنه يعشق موسيقاه بجنون. في مشهد ذكي نراه يرشو خادمة؛ ليتسلل لغرفة موتسارت ليتفحص البيانو الذي يعزف عليه ويتلمس ريشته التي يكتب بها ... إعجابه بدأ يدخل في نوع من العبادة أو العشق. لاحظ أن سالييري يحب الموسيقا فعلاً ويتذوقها فعلاً، فعلاً، والفنان فيه شامخ جدًا، بحيث لا يجرؤ على ممارسة حيلة سخيفة مثل (العنب فوق الشجرة حامض)، أو ما يفعله أدعياء الفن الذين يرون كل عمل يقدمه شخص سواهم ساقطًا. هذه أخلاق جديرة بسبّاك لابد أن يهاجم (شغل) من سبقوه، لكن في عالم الثقافة والفن يجب أن تختلف الأمور. وبرغم هذا الموقف الشريف نسبيًا نرى سالييري يجد أن الحل الوحيد للخلاص هو أن يموت موتسارت. هكذا يسعى لتدميره نفسيًا وجسديًا عن طريق الهواجس والمؤامرات الخفية والإرهاق في العمل، وعندما تقترب لحظة النهاية يطلب منه موتسارت – على فراش الاحتضار – أن يستعين به ليساعده في تدوين اللحن الجنائزي (كونفيتاتيس) الذي طلب منه، والفيلم يستعمل المونتاج بذكاء ليوحي بأن هذا لحن جنازة موتسارت نفسها. شاهد هذه اللقطة الرائعة هنا، حيث يدنو سالييري من مفاتيح الإبداع العبقري لموتسارت، ويرى كيف تتدفق أنهار العبقرية منه – بسرعة محيرة أحيانًا – برغم أنه شبه ميت. ليست المسرحية (ثم الفيلم) دقيقة تاريخيًا، فلم يُقصد أن تكون عملاً وثائقيًا. مصادر عدة تقول إن سالييري لم يكن له أي دور في وفاة موتسارت المبكرة. 

في رائعة سومرست موم (القمر وستة بنسات) نرى علاقة أخرى غريبة. هذه المرة لم ينبهر الرسام الشاب طيب القلب بفن بطل القصة ستريكلاند (الذي يمثل الفنان الكبير جوجان) فحسب، بل هو يمنحه كل شيء ويتضاءل أمامه ، برغم وقاحة ستريكلاند وفظاظته .. لدرجة أنه يستولي على زوجة الفنان الآخر، وبرغم هذا فالأخير ليس غاضبًا إلى هذا الحد. هذه علاقة مرضية أخرى. مرة نجد سالييري يهيم انبهارًا بفن موتسارت فيصمم على قتله، ومرة يبلغ الانقهار درجة أن يقبل خيانة زوجته له.

هناك درجة من الاعتزاز بالنفس يجب أن يمتلكها الفنان، لكنها أحيانًا تكون زائدة تدنو من الغرور .. كما كان مايكل أنجلو يقول عن رافاييل: "هو رجل طيب لكنه لا يجيد الرسم!" تصور أن رافاييل لا يجيد الرسم!

ما نطلبه هو حاسة العدل والتوازن في تقييم الأمور. يجب أن يعشق الفنان الفن أكثر مما يعشق ذاته، وهكذا يعترف بالعمل الجيد إذا قابل واحدًا. اعترف ستيفن كنج أن كتابات كليف باركر الشاب تمثل مستقبل أدب الرعب. في أحد مقالاته تنحى بلال فضل ليفسح مجالاً للكاتب الجديد نسبيًا وقتها أيمن الجندي، قائلاً إنه يفضل الصمت هذه المرة لأن أيمن الجندي يكتب أفضل منه بكثير.

يعرف أصدقاء كثيرون من الأدباء أنني اتصلت بهم أولاً مبديًا انبهاري بأعمالهم الأدبية أو مقالاتهم. أذكر من هؤلاء الساخر الجميل أسامة غريب .. المتجدد الدائم إيهاب الملاح .. الناقد مرهف الحس محمود عبد الشكور .. لم أتصل بسعود السنعوسي صاحب (ساق البامبو) و(فئران خالتي حصة)، لكني ظللت أكرر اسم الرجل في كل ندوة أو لقاء أدبي، باعتبار ساق البامبو من أفضل ما قرأت خلال خمس سنوات.. كذلك لم أتصل بمحمد ربيع صاحب عطارد. 

أشرف الخمايسي فنان آخر من الذين أبهروني، ولم أستطع الخلاص من إعجابي به بعد قراءتي لمنافي الرب. اتصلت به أولاً فوجدته مليئًا بالدفء الإنساني والظرف والبساطة، وإن كان مدحه لا يضيف جديدًا لأنه يقوم بالواجب والزيادة!، هو يمدح نفسه طيلة الوقت، وأعتقد أنه يمارس بهذا نوعًا خاصًا من المزاح. 


الأمثلة كثيرة، وما أذكره هنا ليس للحصر طبعًا. لهذا أكرر ما قلته سابقًا: سالييري كان حقودًا محدود الموهبة، ولربما تسبب في موت موتسارت فعلاً، لكنه في النهاية كان متذوقًا حقيقيًا للفن، وقد أحب الفن أكثر من حبه لنفسه بكثير. لم يستطع أن يخدع نفسه ويريحها باعتبار أعمال موتسارت تافهة .. كلا . لقد وضعها في موضعها الصحيح فجن جنونه.