قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Wednesday, October 5, 2016

جوركي في الأعماق



وقعت في حبائل الأدب الروسي ككل شخص آخر، وذلك في سن مبكرة جدًا. وهذا لا يثير الدهشة إذا عرفنا أن تأثير هذا الأدب كان كاسحًا مع كل الأدباء المصريين في أوائل القرن الماضي. لم ينكر يحيى حقي تأثره الشديد به، وكذلك نعمان عاشور قبل أن يتجه للمسرح، وبالطبع سيد القصة القصيرة يوسف إدريس الذي عندما ترجم لأول مرة في حياته، اختار قصة (زوجة الصيدلي) لتشيكوف، وفيما بعد قال إنه كافح كثيرًا ليتحرر من السيطرة التشيكوفية المرعبة. 

في البدء تقرأ تشيكوف فتتورط وترى الحياة كلها بمنظار تشيكوفي، ثم تقرأ جوركي وتورجنيف وتولستوي ودستويفسكي وبوشكين وجوجول.. هكذا أنت تحتاج لمعجزة كي تفلت.  

مع الوقت يقرر المرء أن يكتب قصته القصيرة الأولى، ثم يبحث عن شخص ليقرأها فلا يجد سوى أبيه البائس أو أقرب أصدقائه. ثم تتراكم القصص، ويسمع المرء آراء إيجابية من رفاقه.

هناك موقف لم أنسه في رواية (عن عبودية الإنسان) لسومرست موم، عندما كان بطل القصة فيليب يريد أن يدرس الرسم، ولم يكن واثقًا من امتلاكه الموهبة أم لا. طلب رأي أستاذ من أساتذة الرسم قائلاً: "كل رفاقي يعتقدون أن عندهم موهبة.. بينما أعرف أن أكثرهم واهم". لشدة دهشته قرر الفنان أن يذهب معه إلى مرسمه ليرى مجموعة أعماله مع بعضها. على باب المرسم شعر فيليب بأنه لا يريد.. لا يريد أن يعرف.. لو كان أكثر شجاعة لطلب من الفنان أن يرحل. ماذا لو كان كل هذا الجهد وهمًا بلا جدوى؟

راح يعرض لوحاته على الفنان متوترًا بينما ظل هذا الأخير صامتًا يصغي، ثم أشعل لفافة تبغ .. في النهاية قال: "أرى أن يدك دقيقة بارعة، وأن هناك الكثيرين ممن يرسمون أسوأ منك وهناك كثيرون يرسمون مثلك، لكني لا أرى أي موهبة فيما قدمته لي .. أرى براعة وذكاء .. لكنك ستظل فنانًا متوسط المستوى .. أرى أن تجرب نفسك في مجال آخر .. كنت أتمنى لو قابلت في بداية حياتي من يسدي لي نصيحة كهذه .. من المؤلم أن يكتشف المرء ضعف موهبته بعد فوات الأوان".

تكرر هذا الموقف معي عندما استعار أحد أصدقائي مجموعة قصصية لي دونتها في دفتر .. وكان خطي ما زال جميلاً في تلك الأيام، قبل أن يتشوه تمامًا بسبب الإهمال واعتياد مفاتيح الكمبيوتر. لا أعرف السبب الذي جعل هذا الصديق يعطي الدفتر لأحد النقاد المشهورين في طنطا، وهو ضيف دائم في مسابقات المدينة الأدبية وقصر الثقافة. عندما أعاد لي الدفتر سألت صديقي عن رأيه فأشاح بوجهه جانبًا كأنه يكره أن ينقل لي الخبر الرهيب. لقد صدر الحكم القدري عليّ ولم يعد مجال للاستئناف. في نهاية المجموعة وجدت صفحة بخط وتوقيع ذلك الناقد تطوع بكتابتها في أريحية، يقول إنه لا يجد أي موهبة فيما كتبته وإنني أهنت ذلك الفن الجميل: القصة القصيرة، ومن الأفضل أن أتوقف. كان أول ما فكرت فيه هو سؤال صديقي عن سبب أخذه رأي الناقد .. أنا لم أطلب فلماذا تطوع هو؟. فيما بعد قرأت مقولة لتشيكوف عن النقاد، يشبه فيها الناقد بالذبابة التي تطن حول الحصان الذي يجر عربة ثقيلة. الحصان يجاهد وعضلاته متوترة والعرق يغمره، لكن الذبابة تقول له: "أنا موجودة .. أنا حية مثلك". ليس هذا هو الوضع دائمًا بالطبع، لكني قابلت كثيرين من النقاد الذين لا يسعدهم سوى أن يناموا ليلاً وقد جعلوا كاتبًا جديدًا يكف عن المحاولة. بين رأي سومرست موم حول أهمية أن يتوقف المرء في الوقت المناسب، وبين شعوري بأنني أملك الموهبة فعلاً، ظللت حائرًا لفترة ثم واصلت الكتابة.

مع صديقي أيمن الجندي كتبت الكثير من القصص القصيرة، وقد اكتسبنا تلك العين الروسية الباحثة عن الألم والبؤس والفقر، الشاعرة بالمرارة الممزوجة بالتهكم.

أذكر أننا كنا في حفل زفاف مُنشّى في قاعة فاخرة، وكان الموجودون من علية القوم. النساء في أغلى الثياب والرجال في أفخم البزات. جو عام من الكبر والتفاخر، بينما الفرقة تزف العروسين في الشارع بتلك الكلمات المبهمة التي لا تتبين منها إلا (..الليلة) في آخر كل مقطع. هنا طوح أحد المدعوين بقبضة من الكاراميل على العروسين..

في لحظة هوى ثلاثة صبية وفتاة من السماء .. لابد أن عمر أكبرهم لم يتجاوز السابعة. كلهم قذر متسخ ممزق الثياب. جاءوا من الجحيم حتمًا.. وانقضوا كقردة جائعة تجمع الكاراميل المبعثر بين الأقدام. هنا حاصرهم أصحاب الزفاف لأن منظرهم القذر أفسد جمال وجلال الزفة:
ـ"وله !... امشي يا له !"

وانهالت الركلات على القردة الصغار وأحاطت بهم ربطات العنق الحريرية، التي تخشى أن تلمسهم حتى لا تتسخ. لكن الأطفال لم يبالوا بالضرب قدر اهتمامهم بعدم ضياع قطعة كاراميل أخرى. وسرعان ما فروا بغنائمهم.  موقف شبيه جدًا بقصيدة نجيب سرور عن الصبي الذي يبيع نوجه في البرد القارس: "كُلها يا ولدي كُلها .. من غيرك كان ليأكلها لولا مهزلة في بلدي؟".

هناك كان أيمن الجندي واقفًا في الجهة الأخرى وعيناه على المشهد .. ابتسم وابتسمت لما تلاقت عينانا. كنا نفكر في الشيء ذاته قطعًا...

هناك أغنية أفراح شعبية بذيئة، تقول في مقطع قابل للنشر منها: " ياللي عالترعة حود عالمالح .. راسي بتوجعني .. من إيه؟ .. راسي بتوجعني من زَمْر امبارح!". وبالطبع تُغنّى مع تغيير الرأس بالترتيب لأعضاء تشريحية أخرى كلها تؤلم بعد ليلة أمس. لكن الأغنية في هذه اللحظة ترددت في ذهني بكلمات مختلفة: "جوركي بيوجعني من حفل امبارح!".  عندما دنا أيمن مني همست بالعبارة في أذنه. مكسيم جوركي الكامن في أعماقي بدأ يتحرك ويلدغني بقوة، قائلاً إن من لا يكتب قصة عن هذا الموقف مسطح (خسيس كقملة) و(أغبى من مستنقع بما لا يُقاس) على الطريقة الروسية.

بالفعل في اليوم التالي كان كل واحد منا قد كتب قصته الخاصة عن هذا الموقف، ولم أعرف حتى اليوم أي القصتين أفضل. كان هذا عالم قصص الواقعية الاشتراكية الكئيبة في كتاباتنا. وقد لاحظ أيمن ساخرًا أننا صرنا نبحث عن الفقر والبؤس في اشتهاء لنكتب عنهما، بدلاً من أن نكافحهما.

جاء اليوم الذي تراكمت فيه هذه القصص في درج مكتبي، وقررت أن أبذل محاولة أخيرة للنشر قبل أن أستسلم وأعترف بأن هذا الناقد الطنطاوي بعيد النظر وعبقري... لكن هذه قصة أخرى طبعًا!