قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Saturday, December 3, 2016

تعنت


عندما قدم جورج لوكاس فيلمه الشهير (حروب النجم) عام 1977 ، فإنه احتاج إلى من يمثل دور الشرير الكوني الشهير الذي سحر المشاهدين (دارث فيدر)، وقد اضطر للاستعانة ببطل كمال الأجسام ديفيد براوس ليلبس الثياب الثقيلة المميزة التي تذكرك بثياب محاربي الساموراي.  


المشكلة الأكثر تعقيدًا هي أن صوت براوس لم يكن جذابًا على الإطلاق، فاضطر المخرج إلى أن يكون الصوت الخارج من الشخصية هو الصوت القوي العميق للممثل الأسود جيمس إيرل جونز. 


وهكذا ذهب ديفيد براوس المسكين بأطفاله للسينما، ليحاول إقناعهم بأن أباهم هو من لعب دور دارث فيدير، لكن كيف يصدقونه وهم لا يرون وجهه ولا يسمعون صوته؟ حتى أنا يمكن أن أزعم لأطفالي أنني كنت دارث فيدير في هذا الفيلم.

حدث شيء مماثل ولكن بسبب تعنت الرقيب وضيق أفقه، عندما راقت للفنانة شادية كلمات كتبها الشاعر نجيب نجم، مع لحن لملحن شاب اسمه عبد الحليم رأفت (عرفت فيما بعد أنه شقيق محمد الموجي). القصة حكاها أكثر من مؤرخ سينمائي أعتقد -لو لم تخني الذاكرة- أن بينهم الناقد الفني الجميل طارق الشناوي.

أعلن في كل مكان أن شادية ستقدم الأغنية الجديدة في حفل أضواء المدينة، وجاء الناس متحمسين، ولكن شادية فوجئت بأن الرقيب أصر على أن تلغى الأغنية.. والسبب؟ السبب أن اسم المؤلف فيه (نجم). هناك شاعر معارض طويل اللسان اسمه (أحمد فؤاد نجم)، لذا رأى الرقيب أنه من الحكمة والأحوط الابتعاد عن كل (النجوم). بالنسبة له لا يوجد فارق بين نجم وآخر. كلهم يجلبون الوبال وسخط الحاكم.

كانت هذه كارثة وقعت فيها شادية، أولاً لأنها أعلنت عن الأغنية الجديدة، وثانيًا لأنها وعدت الملحن الشاب بأن تخرج ألحانه للنور بصوتها.

بناء على نصيحة أم كلثوم اتصلت بالشاعر عبد الوهاب محمد، الذي قام بسرعة بتأليف كلمات على نفس اللحن تقول:
أنا وقلبي يا روح قلبي .. حياتنا ليك.

شاهد هذا الكليب لترى كيف وقفت شادية شاعرة بالارتباك والرعب، لأنها لم تحفظ الكلمات بعد، وكيف خرج سمير صبري بأدائه الكاريزمي يحذر الجمهور بلباقة من أنها ستغني وهي تقرأ الكلمات المكتوبة، وأنها خائفة جدًا. سمير صبري ممثل ومطرب متوسط المستوى، لكنه بالتأكيد أكثر مقدمي البرامج حضورًا وتألقًا وسرعة بديهة. 

كان نجاح اللحن عظيمًا، وأداء شاديه استحوذ على الجميع، ولم يخطر ببال أحد أن هذه كلمات خارجة من الفرن حالاً. الملحن الشاب لم يحضر الحفل لأنه ظل يمشي على النيل متوترًا .. ثم سمع اللحن في الراديو وعرف أنه نجح، والأهم أن أم كلثوم اتصلت به ليعد لها لحنًا!

لا أريد معرفة مشاعر الشاعر الأصلي الذي حرم من أن تغني شادية كلماته لمجرد أن اسمه نجم، وبالطبع لم أستطع قط معرفة كلمات الأغنية الأصلية.

هذه القصة الغريبة ترينا شيئين: تعنت الرقيب المذهل الذي لا يخضع لعقل ولا منطق، وموهبة المصريين المذهلة التي تضع كلمات على نفس اللحن بهذه السرعة وفي ظروف لا تسمح بالتأليف.

إذا تركنا هذه القصة، فإننا نجد قصة غريبة أخرى مع فيلم عنتر ولبلب الذي يمكنك أن تشاهده هنا. يعرف المهتمون بتاريخ السينما أن الاسم الأصلي للفيلم هو (شمشون ولبلب)، كما لاحظ كل من شاهدوا الفيلم أن شفتي الممثلين تتحركان باسم (شمشون) لكن الصوت يخرج (عنتر). هذا نموذج غريب للرقابة الأورويلية التي تغير الماضي بالكامل، وهي رقابة لا تختلف عن كشط صورة الملك فاروق على الجدران في الأفلام كأنه لم يكن قط. في عصر الملك قوبل الفيلم بشك رهيب باعتباره دعوة لثورة الضعفاء على الأقوياء، والغريب أنه عومل بقسوة بعد ثورة 1952 لسبب غامض. مُنع عرضه أولاً ثم عاد باسم (عنتر ولبلب). وقيل وقتها إن أحد الحاخامات احتج على استخدام اسم أحد أنبياء بني إسرائيل عنوانًا للفيلم، بل إن هذا النبي يتم قهره. من هذا المنطق يصير استعمال اسم شمشون محرمًا في السينما المصرية والعالمية للأبد. كانت هناك كما يبدو رغبة زائدة في مجاملة اليهود وقيل إن مصر تنوي الصلح مع إسرائيل بسبب ضغوط أمريكية، برغم أن الفيلم لا يحمل أي إهانة مقصودة للديانة اليهودية، لكنه (النفخ في الزبادي).


في فيلم البريء تحفة عاطف الطيب ووحيد حامد، الذي عرض عام 1986 حدث جدل كبير حول التاريخ المكتوب على جدار زنزانة أحمد زكي وممدوح عبد العليم، فهي كتابة غامضة قد تشير لعصر عبد الناصر أو السادات أو مبارك، وتحفظ الرقيب على هذه اللقطة، رغم أن المصور سعيد شيمي اعترف بأنه من كتب هذا التاريخ بخطه.. وكان خطه سيئًا فصارت الكتابة غير مقروءة. 


الأمثلة لا تتوقف على كل حال

يحكي عميد الإخراج محمد كريم في مذكراته عن احتجاج بعض الساسة على عناوين أفلامه التي تروج للفسق والرذيلة -حسب كلامهم- لأنها تحتوي على كلمة الحب بإصرار غريب، على غرار (يحيا الحب).. فلما قدم محمد كريم فيلم (ممنوع الحب) راق هذا العنوان للساسة جدا، لأن الحب ممنوع.. هكذا تم الحفاظ على الفضيلة!