قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Sunday, December 18, 2016

ابق حيث أنت!


وسط إسهال الطلاب العباقرة الذين تقرأ عنهم كل يوم في الصحف، والذين يكتشفون محركات بلا وقود ولغز الكون وعلاج السرطان، وطرق اعتراض الصواريخ الذرية، وصنع هليوكوبتر من توك توك، فإنك تجد القليل من الذهب الحقيقي النادر.

من ضمن الأفلام الممتعة التي رأيتها أخيرًا، كان فيلم (الرجل الذي عرف الأبدية - 2015)، والذي يحكي قصة عبقري الرياضيات الهندي (سرينيفاسا رامانوجان)، وهو شاب فقير عاش في مدارس بالهند عام 1910، وكان مهتما بالرياضيات لدرجة محيرة، حتى إن الأستاذ هاردي في كمبريدج قدم له منحة في كلية ترينتي العريقة. يواصل الفتى أبحاثه في لندن في تلك الأعوام القلقة قبل الحرب العالمية الأولى. وكعادة الناس في ذلك الزمن، يقتله السل في سن مبكرة، بعد ما قدم الكثير من النظريات الرقمية المذهلة، ومنها وظيفة رامانوجان ثيتا وتخمين رامانوجان ونظرية أرقام التاكسي والرقم 1729. بصراحة لا أفهم حرفًا مما قدمه، لكني أعرف أنه مهم جدا.


شاهد تريلر الفيلم الرائع هنا

تذكرت هذا الفيلم، عندما عرفت معلومة قديمة نسبيا عن عبقري عراقي كان في السادسة عشرة من عمره ويقيم في السويد، والذي توصل لحل لغز رياضي مهم.


الشاب يدعى محمد التميمي، وقد ظل أربعة أعوام يحاول حل معضلة رياضية معقدة اسمها (معادلة برنولي)، وهي مشكلة تعود للقرن السابع عشر.


ما هي معادلة برنولي؟ برنولي عالم رياضيات سويسري مهم، وإنني لأرجو أن يغفر لي دارسو الرياضيات فهمي المحدود للقصة. عدد برنولي هو صيغة رياضية كسرية لتتابع الأرقام المنطقية ذات الصلة بنظرية الأرقام وهي مرتبطة بدالة زيتا. دالة زيتا هي صيغة وضعها عالم اسمه ريمان وقد قال العلماء إنها غير قابلة للحل. هناك أعداد برنولي الأولى وأعداد برنولي الثانية.


فاهم حاجة؟ بالطبع لا.. أنا لا أفهم حرفًا لكني أنقل لك ما قيل حرفيا يقولون إن العقل البشري توقف عن محاولة حل المعادلة منذ عام 1916، لأنها دالة بلا حل. أنا أراها كذلك الآن من قبل أن أحاول أصلا.

هنا جاء محمد التميمي عام 2010 ليحل هذه المعضلة. هو واحد من ضمن ثلاثة إخوة يعيشون في مدينة فالون السويدية. في أوائل التسعينيات من القرن الماضي نزح عدد كبير من العراقيين للسويد، بعد ما رأوا الكارثة قادمة، وفهموا أن "صدام" سيضيع البلاد. حدثت موجة هجرى أخرى في أوائل القرن الحادي والعشرين، وقد وصل محمد للسويد عام 2003.

منذ كان صغيرًا أظهر تعلقًا واضحًا بالرياضيات.. هو في هذا يختلف عن معظم العباقرة الذين اعتدنا أن توصف طفولتهم بالغباء. جاءت شهادة علماء الرياضيات السويديين والعالم كله لتؤيد كلامه. معلمة الرياضيات في المدرسة طلبت رأي عالم رياضيات في جامعة أوبسالا، فأصابه الذهول مما عرفه الفتى المراهق. لم يأت الخبر من صحفي يريد أن يجامل ابن الأستاذ زكريا جارهم بل من عالم مهم. يمكنك هنا أن ترى فيلمًا قصيرًا عن التميمي وما حققه.

قال الفتى إنه يطمح للعودة لبلده العراق بعد أن يكمل دراساته. وقال إن هوايته هي محاولة حل ألغاز الرياضيات التي أعجزت نيوتن وأينشتاين، والتي يجدها في مكتبة جامعة فالون. كما قال إنه يحلم بأن يكون عالم فيزياء بعد تخرجه، لكنه ما زال بحاجة إلى تحسين لغته الإنجليزية والعلوم الاجتماعية.


بالطبع لا بد أن يذكرك الفتى بالعبقري الهندي رامانوجان، الذي نبغ في سن حديثة كهذه. لكن القصة تكشف قدرًا لا بأس به من طبيعة التفكير العربية:

في بعض المواقع الشيعية، أطلقوا على الفتى (العبقري الشيعي). ما الذي أقحم العقيدة هنا؟ وما دخل التشيع في حل نظرية برنولي؟ وهل لو كان الفتى سنيا لما توصل إلى حل المعضلة؟ وهل علينا أن نجعل أطفالنا هندوسيين لكي يصلوا لما وصل له رامانوجان مثلا؟

الاختراعات الوهمية التي تغرقنا بها الصحف من صحفيين يبحثون عن الإثارة، كانت ستجعل اكتشاف هذا الفتى العبقري قطرة في سيل من النصب، بينما في الخارج يجدون الذهب ويختبرونه ويصنعون منه الحلي مبكرًا جدا.

طبعًا لا بد من نظرية المؤامرة ولذة الاضطهاد، لذا انتشر خبر عن أن هذا العبقري الصغير وجد مشنوقًا في أول ديسمبر الحالي. شاهد هذا الخبر هنا.

نعرف طبعًا أن يحيى المشد قتل ولربما فوزية موسى كذلك، لكن لا يجب أن يكون هذا مصير كل من يكتشف شيئًا في العالم العربي، وفي النهاية لا علاقة للفتى بالذرة أصلا. هو مجرد عالم رياضي. إنها لذة خلق الشائعات مع لذة الشعور بأن العالم كله ضدنا. بالطبع ظهر الفتى بعد هذا يؤكد أنه بحال طيبة وسليم تمامًا.. شاهد الفيلم هنا. لذة التدمير الذاتي جعلت بعض الناس تتخيل أن الفتى قتل، ولا شك أننا سنقرأ أكثر من مقالة تؤكد أنه نصاب ولم يكتشف شيئًا.

وهي أهم النقاط: أغلب المعلقين طلبوا من الفتى أن يرحم عبقريته ولا يعود لوطنه!.. هذا ما فعلته بنا أنظمة التعليم المتخلفة والتدهور الاقتصادي والفساد. من أقسى الأمور أن يعترف المرء بأن بقاء الفتى حيث هو أفضل، ولربما لو عاد لاعتقل أو مات في عمل إرهابي داعشي أو لم يعبأ به أحد.. كان سينتهي مدرس رياضيات في مدرسة ثانوية ما. وهو نفس ما قلناه عن زويل.. زويل صناعة مصرية لكنه تقفيل بلاد برا، ولو ظل في مصر لتوفي وهو أستاذ كيمياء متفرغ في كلية علوم ما، لو كان حسن الحظ طبعًا. هذه كلمات قاسية لكنها صحيحة. من الأفضل للفتى وللعلم أن يبقى في السويد على الأقل حاليا.