قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Tuesday, February 14, 2017

حكاية للأطفال فقط - 1


رسوم الفنان طارق عزام
1- شادي

في تلك الليلة كانت عينا فيروز تتوهجان بلون غريب. العينان المراوغتان اللتان فشل كل شخص في العالم في معرفة لونهما الحقيقي. في محمية راس محمد بشرم الشيخ نهر يُقال له (المسحور)، والسبب هو أن لون الماء فيه يتغير في ذات اللحظة التي تنظر له فيه، فتارة هو أزرق وتارة هو أخضر أو بنفسجي.

لو أنصفوا لضموا عيني فيروز إلى المحمية باعتبارهما ظاهرة كونية غامضة.. في تلك الليلة كانت شفتا فيروز تهمسان باسمي، وأرجعتْ رأسها الصغير للخلف وقالت شيئًا.. شيئًا لم أعرف ما هو لكنه بدا رائعًا.

في تلك الليلة قرر العصفور الصغير في يدها أن يكف عن المراوغة والطيران وأن يستريح بين أناملي.

في تلك الليلة كانت أنفاسها تلمس شحمة أذني.. هناك قوم لا يخرجون الأنفاس ولكن الأنسام. أحسب الطبيعة أنثى كونية المقاييس تتنفس بذات الطريقة، فيصدر عنها النسيم الذي يداعب أوراق الشجر ليلاً. الطبيعة أنثى.. الشمس أنثى… السعادة أنثى.

في تلك الليلة تكف الفتاة عن هوايتها المفضلة: تعذيب الرجل، وتقرر أن تعترف له بأنها تريده كما أرادها.. ياه! هي ليلة نزع الأقنعة إذن، وما أجملها لحظة.

في تلك الليلة هناك، كانت الألحان تتفجر في رأسي لكني لم أكن أستطيع كتابة نوتة موسيقية ولا عزف نغمة واحدة على أي آلة موسيقية. لربما كان الحل الوحيد هو أن يسمع عازف موسيقي ما في رأسي ويترجمه.. لن أتمكن من الدندنة لأن هذا سيتلف اللحن.

في تلك الليلة أنتصر على نفسي وشكوكي الداخلية وأقهر عقدي الخاصة.. أنا سعيد.. أنا محبوب.. هناك من يريد أن أكون معه للأبد.

في تلك الليلة انتظرتْ جواري فيروز حتى خلا الشارع. عند ركن الزاوية الذي يضيئه نور الكشاف الخافت، كان هناك ذلك الفتى الضخم المشعث يركض وجواره رجلان يحاولان أن يركضا بنفس سرعته، وقد بدا عليهم جميعًا توتر غريب… لا أعرف السبب لكنهم يلاحقون لصًا على الأرجح. نظرتْ لهم ونظرتْ لي.. وابتسمت في مكر حتى تواروا عن العيون وصار الشارع لنا من جديد.

جرت فيروز لنهاية الشارع الخالي من المارة وهي مغمضة العينين تمامًا، وقد فردت ذراعيها كأنها طائرة جامبو.. تنورتها تطير حولها كمظلة طيار احترقت طائرته، ثم دارت وعادت نحوي مغمضة العينين أيضًا.. الحذاء الرياضي الخفيف يجعلها هفهافة بلا ثقل على الأرض.

وقالت دون أن تفتح عينيها:
- «شادي.. أنا.. أنا سعيدة بحق…»

انحنيت لألثم شفتها وهي مغمضة العينين، لكنها شعرت بما أريد ووضعت سبابتها منذرة على شفتيها ثم عادت تكمل دورة طيران أخرى في الشارع دون أن تتعثر بقطعة حجر أو بالوعة واحدة.. ظللت لفترة ماطًا شفتي للأمام كأبله، ثم مددت يدي فأعدت شفتي لمكانها….

لا يمكن الاكتفاء من هذه.. لا يمكن أن تشبع منها.. الطريقة الوحيدة هي تذويبها في سائل تحقن نفسك به في العروق على طريقة أفلام فرانكشتاين القديمة.. وأذكر قول الشاعر ابن الرومي:

   أعانقها والنفس بعد مشوقة إليها  – وهل بعد العناق تدانِ؟

   وألثم فاها كي تذوب حرارتي  –  فيشتد ما ألقى من الهيمانِ

   كأن فؤادي ليس يشفى غليله  – سوى أن يرى الروحين تمتزجانِ

ابن الرومي كان يتعذب حقًا.. هذه أبيات صادقة تقطر دمًا…

أحيانًا أجد هذه الأبيات القديمة جافة سخيفة، لكنها مثل السمك البكالاه الذي كان أبي يبتاعه لنا في طفولتي. قطع جافة شبيهة بالخشب.. ضعها في الماء قليلاً.. تصر سمكًا نضرًا شهي الطعم. عش قصة حب ولسوف تكتشف أن أبيات كثير عزة أو قيس بن الملوح أو العباس بن الأحنف عبقرية. عش وحدك ولسوف تتساءل عن قيمة هذه الحفريات التي تقف كلماتها في حلقك.. نفس الشيء ينطبق على أغاني أم كلثوم. عش وحدك ولسوف تجدها مملة طويلة جدًا لا تكف عن التكرار كأن الجمهور معتوه.. قَع في قصة حب ولسوف يبكيك كل حرف في أي أغنية..

مشيت معها إلى حيث حزام الأشجار الذي يطل على الحديقة المهجورة ليلاً. هناك كشاف يبعث ضوءًا واهنًا، وفي هذا الضوء كنت أرى في الماضي العشاق الذين يتوارون عن العيون.. كنت أحسدهم وهذا الحسد يتسربل في شكل غضبة أخلاقية على ما وصلت له أخلاق الشباب المتردية.. كنت أكرههم بصدق، لكني الآن وأنا في لحظة الحقيقة أعترف بأنني كنت أحسدهم.. أحسدهم ولا أعرف ذلك.

جلست على الكلأ وطلبت منها أن تأتي.

دنت مني في رفق،  فأشرت إلى كتفي كأنني أطلب منها أن تريح رأسها عليه. في رفق تربعت على الأرض ثم استلقت للخلف وأراحت رأسها هناك، وتركتْ لأناملي الجشعة أن تعبث في خصلات شعرها.

في تلك الليلة اكتمل بدر أحلامي، وصار الواقع أكثر جموحًا من أي ليل..

كان قلبي يتواثب بين الضلوع .. وهمست لها:
- «أغمضي عينيك. وتخيلي أنك تسافرين.. تسافرين وراء الغمام ووراء قوس القزح..»

قالت مغمضة العينين:
- «لم أر في حياتي قوس قزح!»

- «إذن تخيلي قوس القزح ثم تخيلي أنك تحلقين فيما وراءه»

أن تصف اللون الأزرق لشخص كفيف أمر معقد، لكنه لا يخلو من شاعرية…

في تلك الليلة عرفت أن اللحظة قد جاءت ولن تأتي فرصة أخرى كهذه..

مررت أناملي على أوردة عنقها.. ثم بدأت أشعر بدقات الشريان السباتي الداخلي.. الوريد الودجي الوحشي..

قالت ضاحكة وهي مغمضة العينين:
- «هل تحاول معرفة إن كنت أجريت استئصالاً للوزتين؟»

هنا كنت قد غرست نصل السكين في الشريان بعمق، ثم حركته بالعرض بعمق… ولم أحاول أن أنظر للمشهد القاسي… أعرف أنني لو رأيته فلن أستطيع النوم ما حييت..

سمعت حشرجة بسيطة.. ثم استرخت يداها.. مزية هذه الطريقة هي أن النصل يقطع القصبة الهوائية فلا يصدر صراخ..

هذه بقعة هادئة ولا يأتيها أحد، لذا كان العشاق يفضلونها.. لكن علي أن أبتعد بسرعة، لأن سروالي وكفي قد تلطخا بالدم.. لا تترك السكين بأي ثمن لأن بصماتك عليها.. لفها في منديلك واخفها في جيبك. ماء!.. أريد ماءا!

في تلك الليلة كفت فيروز عن أن توجد. سوف تقضي بضع ساعات على منضدة التشريح الباردة ثم ثلاجة المشرحة، وبعدها هو التراب…

لست فخورًا بما قمت به، لكنه ضروري… أنت تقر بهذا أليس كذلك؟

يتبع