قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Saturday, February 25, 2017

غارب: أخيرًا عمل متقن



اعتدت أن أتلقى سيلاً هائلاً من كتابات قرائي، وفي كل لقاء أو ندوة، حتى بدأت أشعر بأن الأمر غير عادل. أنا لست ناقدًا ولا ناشرًا وبالتأكيد ليست مهنتي أن أقرأ ما يدنو من 400 رواية ضخمة، معظمها أول عمل للمؤلف، مع العلم بأنني لا أملك أي آليات للنشر ولن أضيف سوى (برافو .. استمر)، ولن أجرؤ على قول (أنت سيئ .. توقف). جربت ذات مرة أن أقول لقارئ بأدب إنه لا يملك الموهبة، فقال لي في تحد: "مش عارف أكتب ايه عشان أعجب السيادة، وانت اديت نفسك الحق في الحكم ازاي؟؟". مع الوقت يتراكم الدين المعنوي وتقضي حياتك مهمومًا شاعرًا بالذنب.. تنتظر الليل لكي تقرأ عملأً آخر لا تعرف هل هو جيد أم لا ولم تطلب قراءته أصلاً، وفي الوقت نفسه لا تقرأ الأعمال الجديدة للمنسي قنديل أو يوسف زيدان أو رواية لم ترها من قبل لجاليانو أو مارجريت أتوود، لأنه لا وقت لها!. بل إنك تهمل عملك الجامعي ولا تطالع المواضيع العلمية الجديدة لأن الوقت لا يسمح. هكذا صرت أرتجف ذعرًا من الندوات واللقاءات لأنني في كل مرة أعود بحقيبتين محملتين بالكتب، ثم يقابلك أكثر من صديق يسألك عن رأيك في قصته التي أعطاك إياها في المنصورة منذ ثلاثة أعوام! وبالطبع ترتسم خيبة أمل على وجهه عندما يكتشف أنك لا تذكرها أصلاً. على سبيل السخرية كتبت ضمن خواطري مخاطبًا لا أحد: "لو لم ترسل لي كتابك الجديد لكانت هذه خدمة العمر التي لن أنساها ابدًا!!". وأذكر أنني كنت في الكويت عندما أعطاني أحد الأصدقاء روايته الأولى المكونة من 1200 صفحة!. بالطبع كانت تزن عدة كيلوجرامات وطلبت أن يشحنوها لي . لكن في النهاية لا يطلب مني كل صديق سوى طلب واحد فقط، ومن حقه أن يتضايق لأني لم ألبه له، لكن النتيجة هي أنك محاصر بالطلبات الواحدة فقط.

هذه هي الظروف التي قابلت فيها أول رواية لمحمد عبد القهار، وهي (سراي نامه: الغازي والدرويش - 2013)، وقد تصفحتها بسرعة المحترف، ثم توقفت شاعرًا برهبة وبدأت أقرؤها بتأن من جديد.. هذا ليس كاتبًا مبتدئًا يجرب حظه في الكتابة، بل هو كاتب راسخ جدًا يعرف ما يفعله. لاحظ أنني لا أتكلم كناقد بل أتكلم كقارئ يعرف جيدًا ما يعجبه وما لا يعجبه، لكنه لا يملك أدوات القياس.

علاقتي بمحمد عبد القهار قديمة منذ كنا نلتقي على صفحات منتدى روايات، لكن أجسر على القول إننا لم نتبادل الكلام أكثر من ساعة، وهو مهندس من مواليد القاهرة عام 1988 أي إنه صغير السن جدًا لما يبلغ الثلاثين بعد، وإن كانت ملامحه توحي بأنه أكبر بعشرة أعوام على الأقل. وكتب في عدة مواقع منها موقع بص وطل وإضاءات حاليًا. شاهده هنا وهو يتكلم في إحدى الندوات بالإسكندرية.


لهذا عندما وصلتني نسخة من روايته الجديدة (غارب)، كنت على استعداد تام لقراءتها باهتمام بالغ، وبالفعل أدركت أنني لم أخطئ عندما قلت إن الرواية الأولى عمل مختلف. لا شك أن (غارب) عمل معقد وكثيف تتجاوز صفحاته أربعمئة صفحة، وقد احتجت لقراءته ثلاث مرات شاعرًا بحسد للذين استوعبوه من أول قراءة. محمد عبد القهار يملك قدرة مذهلة على التقمص ليفكر ويتكلم ويحلم بالضبط كواحد من الزمن الذي يكتب عنه، حتى لتشعر بأن الرواية مخطوطة قديمة وجدها ونشرها كما هي. وهو نفس التأثير الذي أحدثه يوسف زيدان في نفوس من قرءوا عزازيل، عندما اعتقد كثيرون أنها مخطوطة قام بترجمتها. هناك إتقان واضح في كل تفاصيل العمل، وهذا يفسر كذلك فجوة ثلاثة الأعوام بين الرواية الأولى أو الثانية، فمع كل هذا التدقيق لا يمكن أن يكتب بمعدل أسرع. يحتاج هذا النوع من الروايات التاريخية إلى دقة كبيرة، فهي حقل صعب مليء بالألغام، ولسوف تصطدم بعشرات المجادلين: هولاكو كان يأكل بيده اليسرى عام 567 ولم يستعمل اليمنى إلا بعد ذلك بـ 11 سنة . الفينيقيون كانوا يحتلون بلاد آشور عندما دخل الإسكندر الأكبر الأوقيانوسية، وقبائل الخزرج لم تشارك في حصار ليننجراد كما يزعم المؤلف. هنا يتكلم محمد عبد القهار عن الرواية التاريخية بشيء من التفصيل، وهي محاضرة قصيرة مهمة. 

===================================

"فحص غرناطة .. سهولك وأشجارك ومجالسك الزاهرة
يا حسرة على جمال ذاهب وورود مبعثرة
لا كرامة لملك فرط في أرضه
لا ظهر يحمله .. ولا خان ينزله 
لكن في الظلام في مكان كئيب يخفي ملامحه
يبكي بحرقة وحده الملك .."

قصيدة قشتالية قديمة من كتاب (بالادات أسبانية قديمة) ترجمها المؤلف عن الإنجليزية 

===================================


تعود بنا رواية غارب إلى الزمن المفضل لدى عدد كبير من الرواة العرب، وهو زمن غروب شمس العرب عن الأندلس. من الشجاعة أن ترتاد مملكة صالت فيها وجالت العظيمة رضوى عاشور، وكتبتها بعد اتفاقية أوسلو لغرض أبعد بكثير من السرد التاريخي كما هو واضح. يمكن كذلك أن نذكر ليون الأفريقي لمعلوف.

نفس الفترة أثارت اهتمام الكاتب الذي ولد الأدب الأمريكي على يده واشنجتون إيرفنج – صاحب سليبي هولو وريب فان وينكل – الذي كتب عن قصر الحمراء وسقوط غرناطة. يستخدم عبد القهار تقريبًا ذات اللغة المستخدمة في ذلك الزمن، مع استخدام كلمات على غرار (فحص) و(ربض) و(القند) من تلك المستخدمة في ذلك الوقت، كما أن الرواية تتكون من اثني عشر فصلاً بعدد شهور السنة. ثم هناك الأداة الثلاثية الفريدة التي يبتكرها في هذه الرواية: كل فصل يتكون من (أنا) و(هو) و(أنت).. وينوع الضمير الأول الذي يظهر في خطابات يرسلها الأب لابنه، ثم الضمير الثالث العليم بكل شيء الذي يراقب الشخصية من الخارج، ثم ضمير المخاطب أنت الذي يغوص في أعماق الراوي، على طريقة مخاطبة أبطال نجيب محفوظ لذواتهم بعد كل موقف. مع تقسيم الفقرات على طريقة كتب التراث: "ذكر تعلمي الطب:".. "ذكر يومي في الرباط: ".. إلخ.. قلت لك إن شيطانًا حل بعبد القهار فجعله يتكلم ويفكر كواحد من ذلك الزمن.

نقابل قصة موسى بن أبي غسان الفارس الأسود الذي قاد جيوش غرناطة قرب النهاية، والمحاصر هناك بلا أمل، مع جواده الأعمى غارب، والفارس يحكي تاريخ حياته لابنه عبد الملك في فاس. وهناك غموض شديد يلف بطل القصة فلا تعرف إن كان وهمًا أسطوريًا صنعه خيال المهزومين على طريقة الشعوب العربية عادة، أم هو نوع من المهدي المنتظر، ويجب هنا ذكر أنه لا توجد مصادر عربية عنه، وأن ما نعرفه عنه حكاه مؤرخ إسباني اسمه كوندي. لكن من المؤكد أنه جاء من السلالة الحاكمة – بني الأحمر – ولم يأت من الخارج. في الرواية تشعر أن البطل نبيل يرفض الاستسلام، لكنه برغم كل شيء يفشل في كل ما يجربه. نتابع رحلته منذ مولده ثم خروجه إلى ملقة وألمرية، ثم الرباط حيث الميلاد الحقيقي له. وكما يفعل بك دستويفسكي فإنك تتقمص البطل وتفكر مثله وتجد أن خياراته – حتى الخاطئة – منطقية جدًا.

الحقيقة أن موسى هو نفسه تاريخ العرب في الأندلس. تعبير مخلص هو عن انهيار حضارة، حيث فقد الناس الثقة في حاضرهم ومستقبلهم، وتعاونوا بشكل واضح مع العدو، مع ممارسة نوع من التطبيع الثقافي الذي كان يدعى وقتها (التدجين). إن السلاطين يزعمون لشعوبهم أنهم يقارعون العدو وبهذا يخضعون الناس تحت وهم المقاومة، بينما هم في الحقيقة ينبطحون بلا شرط، ويقاتلون أنفسهم ويتصارعون على الجاه. ككل رواية تدور في نهايات الأندلس فإنها تترك مرارة شديدة في الفم وغصة في الحلق بعد انتهائها. تبدأ الرواية مرهقة متباطئة نوعًا لكنها تتسارع وتزداد تشويقًا مع الوقت، وهي فيما يبدو خاصية تميز أدب عبد القهار: نصف الرواية الثاني أقوى من الأول دائمًا.

غارب عمل متقن ولم أندم قط على ما أنفقته من وقت معه، وإنني لأتساءل في شغف عن موضوع الرواية الثالثة.