قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Monday, June 26, 2017

ثرثرة عن الإعلانات


بدأت خبرتي بعمل الإعلانات منذ عشرة أعوام تقريبًا، عندما طلبت مني إحدى شركات الألبان أن أقدم قصة مصورة معقدة تحكي عن لغز فرعوني، وهذا اللغز يتوارى في نوع معين من الألبان تستعمله هذه الشركة بالذات. كان تصور مسئولي الدعاية في الشركة بالغ التعقيد، والقصة تقترب بالفعل من سيد الخواتم أو مفهوم الأسطورة ورحلة البطل Monomyth كما وصفها كامبل. كنت بحاجة للمال بصراحة وقتها لذا قمت بالمهمة، وبالفعل ظهرت كتيبات فاخرة رسمت بعناية فائقة وألوان مذهلة وكان حجم الكتيب يسمح بوضعه داخل علبة الجبن. لقد تم التخطيط للحملة بشكل متقن وسواسي استغرق وقتًا طويلاً، لكن تنفيذ الحملة نفسه جاء ضعيفًا واهيًا، فهم لم يعلنوا بتاتًا عن تلك الكتيبات، وقدموا في التلفزيون إعلانًا خجولاً مدته ثلاثون ثانية لم يره أحد، كما أن عدد الكتيبات لم يكن كافيًا وذاب وسط الزحام فلم يلحظ أحد الفكرة على الإطلاق. بمعنى آخر.. هم أنفقوا على إعداد الفكرة لكنهم لم يقدموا الفكرة ذاتها قط، وضاع ما أنفقوه من مال وجهد.


خطر لي في ذلك الوقت أن الدعاية تُمارس بشكل اعتباطي وبأساليب الهواة كما يحدث لأي شيء آخر في مصر، برغم الطابع العلمي المبهر الذي قُدّم به المشروع في البداية. كما قيل دومًا: فلدينا مشكلة في (الفينيش) سواء كنا نتكلم عن هدف في مباراة دولية أو حملة دعائية لنوع من اللبن او حتى حرب أكتوبر نفسها.

بالتأكيد تظل أفضل فقرات التلفزيون في رمضان وأكثرها إبداعًا وتجددًا هي الإعلانات، ومن الواضح أن أصحاب القنوات يعرفون هذا جيدًا، لأنهم يقدمون الاعلانات بكثافة وبشكل يجعل من المستحيل أن تشاهد أي شيء آخر. عندما شاهدت حلقة من برنامج رامز جلال، كنت أتابع ثلاث دقائق يليها ربع ساعة من الإعلانات، لدرجة أنك تنسى مقلب رامز والموضوع برمته، فقط تتذكره بشكل واه بعد ما تكتشف أن البرنامج بدأ منذ ساعة كاملة. هكذا تتحول برامج رمضان إلى ساعات متواصلة من الإعلانات الممتعة غالبًا، تتخللها لمحات من مسلسلات يتباين مستواها.

هل تمت دراسة هذه الإعلانات فعلاً بشكل علمي؟

  1. لاحظت أن قصة الإعلان لا تكون لها غالبًا أي علاقة بالسلعة المعلن عنها، ومثال هذا إعلان هنيدي الذي يريد فيه شراء الكنافة ويتجاوز الطابور.. شاهده هنا. حاولت جاهدًا أن أتذكرموضوع الإعلان او السلعة المعلن عنها، لكني فشلت. ينطبق هذا على كثير جدًا من الإعلانات المبهرة الأخرى، والتي تظل بعدها تحاول جاهدًا أن تتذكر السلعة المعلن عنها، أو لربما لم تستطع سماع اسم السلعة أصلاً.
  2. هل الإعلانات تؤدي فعلاً لرواج السلعة؟ أعتقد أن الأمور ليست بهذه البساطة، وأن هناك الكثير من الأرقام الخادعة. فقط تحدد الإعلانات سعر النجم الذي تنهمر على برامجه، ولا شك في أنها قوة كاسحة في عالم الإنتاج تحدد بالضبط من ينجح ومن يفشل. لكن هل تؤدي لرواج السلعة فعلاً خاصة مع التنافس القوي بين الشركات؟ يمكنك أن ترى في نصف ساعة إعلانات عن خمسة أنواع من أجهزة السخان وكل واحد منها يؤكد أنه الأفضل وأن الأنواع الأخرى كوارث ينتظر أن تحدث، فمن تصدق؟ أعتقد انك ستعتمد في النهاية على الخبرة الشخصية لمعارفك أي: (السخان الذي اشتراه ابراهيم).
  3. والنقطة الأخيرة استغلها بذكاء أحد الإعلانات من تصميم المتميز دائمًا إسلام حسام، وهو إعلان (التكييف بتاع منى).. حيث الفكرة الطريفة والحوار المرح، وفي النهاية أنت لا تستطيع أن تنسى اسم المنتج. بالإضافة لفكرة أن منى جربته وكانت تجربتها إيجابية. شاهد الإعلان هنا.
  4. من الحملات الذكية التي يصعب نسيانها كذلك إعلانات الفتى ضعيف الشخصية الذي لا يعمل له أحد حسابًا، والارتباط هنا قوي بين (حساب) المصرف و(حساب) بمعنى المبالاة واحترام الرأي.
  5. أرقى إعلان رأيته هذا العام بلا جدال هو إعلان الفتاة التي تروض حصانًا أبيض، ويرقص بنفس خطواتها، مكررًا أسطورة العشق بين المرأة والحصان الأبيض عامة.. حلم المراهقات الأبدي. وفي النهاية تفرد الفتاة ذراعيها فتتحول إلى شعار المصرف الذي تعلن عنه، برغم أن موضوع الإعلان لا يدل على المصارف. ويبدو أن كل من شارك في هذا الإعلان كان يتمتع بحس فني عال أو هو ذو دم أزرق. شاهد الإعلان هنا.
  6. كما كنا في العام الماضي، توشك الإعلانات على أن تتلخص في إعلانات الكومباوندات التي تتكاثر بشكل شيطاني، وتحمل رسالة واضحة أن الطبقة الوسطى ذابت وانتهت، فطوبى لمن استطاع ان ينعزل في كومباوند عليه حراسة، لينعم بالحياة الحقيقية والخضرة والوجه الحسن وحمامات السباحة بعيدًا عن محيط الفقر والقذارة في الخارج. النوع الثاني من الإعلانات إعلانات تسول من أجل محيط الفقر والقذارة نفسه. هنا قوم لا يجدون ماء نقيًا للشرب ولا طعامًا كافيًا.. ثم يصابون بالسرطان من كل هذه البيئة المسمومة ويولد أطفالهم بعيوب خلقية في القلب، هكذا يكون عليك أن تتبرع لهم وأنت مضطجع على الأريكة جوار حمام السباحة في كومباوند باراديسو. هكذا تخلص ضميرك من عقدة الذنب.
  7. لكن هناك إعلانات أخرى تتكاثر لسبب سرطاني مجهول؛ هي إعلانات السراويل الداخلية. هناك لغز يربط بين رمضان وهذه الإعلانات. لا تفهم أبدًا ما هنالك.. وعلى الأرجح يدخلك الإعلان في عوالم غامضة تعرف منها بصعوبة أنها إعلانات عن.......
  8. كلما شاهدت الإعلانات خطرت ببالي فكرة أن يستعمل أحدها طريقة subliminal messages أو رسائل اللاشعور، وهي طريقة غير آدمية لأنها تجردك من إرادتك كلية.. في هذه الطريقة الإعلانية يتم تعريض حواسك لصورة تستغرق جزءًا من الثانية أو لصوت خفيض جدًا. في الحالين لا تستوعب حواسك أنها رأت أو سمعت هذا المؤثر، لكن المخ يحتفظ بالذكرى ولا ينساها. استعملت هذه الطريقة بكثرة في فيلم (نادي القتال) على فكرة. الرهان هنا هو أن إقحام صورة لغسالة أو ثلاجة أو زجاجة زيت معينة وسط سياق الصور يدفعك فيما بعد لاقتناء هذه السلعة دون أن تعرف السبب.

على كل حال لم تظهر الإعلانات التي تمت تجربتها بهذه الطريقة قدرة خارقة على جذب الناس لمنتج معين. عامة لا تصل الرسائل الخفية للناس إلا إذا كانت تناسب رغبة سابقة لديهم. أي إنك لو كنت ظمآن فعلاً ودسوا لك صورة زجاجة مياه غازية باردة، فأنت تشعر بحاجة قوية لشرب هذا النوع بالذات، أما إذا لم تكن ظمآن فلن يحدث تأثير. هناك حقائق غريبة؛ مثل أن الموسيقا الخافتة في السوبرماركت – التي لا تسمعها أذنك بوضوح – تدفع الناس للمزيد من الشراء!.. سواء كانت طريقة مؤثرة أم لا، فالقانون يحرمها في معظم البلدان لأنها تجرد المشاهد من إرادته وقدرته على الاختيار. لكن هل تضمن ألا تلجأ لها إعلاناتنا؟ وهل خطر لأحد أن يشاهد الإعلان كادرًا كادرًا لاستبعاد الرسائل اللاشعورية؟