قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Tuesday, August 22, 2017

ليس لهو أطفال - 4


رسوم الفنان طارق عزام

كامل يخوض الأوحال وأخيرًا يرى النجوم ويرى الشط..

مشى مترنحًا وبصعوبة بالغة إلى أن شعر بقدميه على الرمال. منحه هذا الكثير من الاطمئنان. يمكن للمرء أن يواجه الكثير من الأمور ما دامت قدماه على أرض ثابتة. فيما بعد سيحاول فهم هذا الذي حدث له وأين كان..

ثمة جزء معين قد محي من ذاكرته، وهو غير قادر البتة على استرجاعه، لكنه على الأقل قد تحرر. وهناك في ضوء القمر راح ينظر إلى البحر المظلم حيث الموج المتلاطم يصل لعنان السماء. هل هو يتخيل أم إنه يرى جذع شجرة عملاقًا يتحرك في الظلام من بعيد. هل هو يهذي؟

- «قف مكانك!».

كان هذا الصوت قادمًا من وراء الكشاف القوي  المسلط على عينيه. لا يرى شيئًا لكنه يسمع الصوت الحازم.. وأخيرًا يتبين جنديين مسلحين يصوبان السلاح نحوه لكنه لا يرى الوجهين..

- «ماذا تفعل هنا؟»

الحق أنه لا يدري ما يفعله هنا. لكنه على كل حال يعرف الشكوك التي ينثرها من حوله كل من يمشي على الشط ليلاً. إن احتمال كونه مهربًا ليس أقل الاحتمالات..

ثم تذكر كذلك أنه المسئول عن هذه الدوريات الليلية. كان هذا جزءًا من خطته..

***************

عندما رأى الأب الأسطوانة البلاستيكية وما فيها، أصابه الهلع.. لم يتصور أن يتمادى سامح إلى هذا الحد..

- «وجئت به من أستراليا إلى هنا؟».

لم يرد سامح.. كان مضطرًا للصمت لأنه يريد أن يساعده أبوه، لذا تلقى اللوم بكثير من الذل.. كانت هذه فرصته الوحيدة لأنه لا يرغب في أن يقتل التمساح الصغير..

قال الأب للخال:
- «سوف أقوم بجولة على الشط مع سامح».

- «سوف آتي معك».

كان الأب مستعدًا للقتال والقتل كي لا يتبعه أحد، لذا تملص من الخال بكثير من الفظاظة.

وعندما دنا المساء وغربت الشمس، مشى الأب وسامح على الشط متجهين نحو الشرق..

لم يكن هناك أحد، وقد بدا أن الظلام يحجب الرؤية فعلاً..

هناك قرب الشط عند مصرف الماء العذب مد يده وبحذر فتح الأسطوانة البلاستيكية، ثم وضعها في الماء.. ونظر إلى الشيء البشع الذي ينسل خارجًا.

في تأثر هتف سامح:
- «وداعًا يا سولتي!».

- «بل قل في ستين داهية..»

وقف الاثنان يراقبان الشيء وهو يسبح في الماء ويختفي، ثم تأبط الأب كتف ابنه عائدين.. كان يحكي له عن طفولته وكيف كان طفلاً قليل الأدب، من ثم دفع ثمنًا فادحًا فيما بعد…

هكذا انتهى دور سامح في القصة.. لقد قضى بضعة أيام في جمصة ثم عاد مع أبيه والأسرة إلى المنصورة، وبعد عدة أيام انتهت إجازة الأب وعادت الأسرة إلى أستراليا…

لقد بذر البذرة اللعينة ولم يعرف أنه بذرها.. ليست هذه الطريقة المثلى للهو الأطفال، ولكننا لا نعفي الأب من المسئولية.. بل هو صاحب الفكرة المقيتة بالتخلص من التمساح الطفل. الحقيقة أن كثيرين في الولايات المتحدة يرتكبون هذا الخطـأ لهذا تحولت شبكة المجاري هناك إلى بيت زواحف يثير إعجاب أي عالم حيوان..

سامح قد قام بدوره في القصة ولا أعتقد أننا سنسمع عنه ثانية..

***************

مر عام أو أقل قليلاً..

عندما جاء الصيف وكثر المصطافون، بدأت بعض الظواهر الغريبة. على الأرجح كانت هذه الحوادث تقع قرب المساء..

ينزل خمسة أشخاص إلى البحر وسط الموج المتلاطم.. يتبادلون الصياح والضحكات ولا يبتعدون عن الشط كثيرًا على كل حال، ثم تهدأ الأمواج فيكتشفون أنهم أربعة فقط..

في الحادث الأول افترض الجميع أن المختفي قد غرق. أما في الحادث الثاني فقد اختفت الفتاة.. لكنهم وجدوا جزءًا من ساقها ألقى به الموج على الشط بعد يومين..

الاختفاء الثالث ترك بقايا عديدة، وقد أثبت الحمض النووي أن الأطراف لنفس الشخص: المهندس القادم من المنيا ليتمزق على شط جمصة..

قضى كامل في المشرحة وقتًا لا بأس به يتفحص الجثث، وكان ما أثار دهشته وجود سن صغيرة مغروسة في لحم ساق الفتاة.. سن مدببة هشة..

قال الطبيب الشرعي، وهو رجل أصلع قصير القامة يرمقك من فوق إطار نظارته في فضول:
- «هذا يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن هناك سمكة قرش».

تفحص كامل السن بين أنامله
 وقال في شك:
- «لتقطع ذراعي إن كانت هذه سن سمكة قرش..».

في تهكم أصلح الطبيب من وضع عويناته ثم تساءل:
- «سن أسد هي إذن؟».

- «هي قريبة جدًا من سن التمساح..!»

- «تمساح في البحر المتوسط في جمصة.. أنت تفوقت على نفسك.. هذه هي العبقرية الحقة».

اضطر كامل للصمت، فهو لا يملك خبرة بالتماسيح، ولم ير سن تمساح إلا في متحف التاريخ الطبيعي.. قال لنفسه إنه غالبًا محق لكنه لا يقدر على إثبات حرف من كلامه….

***************

هكذا قام كامل بتكوين فرق بحث.. فرق تمشط الشط جيئة وذهابًا عندما تدنو الشمس من الغروب..

كانوا ينظرون له في بلاهة.. هو كان ينظر لنفسه في بلاهة.. لا يتوقع أن يحدث شيء خاص، فهذه الحوادث نادرة.. يشبه الأمر أن تراقب أرنبًا متوقعًا أن تهبط حدأة من السماء لتختطفه وتمزقه..

مر أسبوع كامل على هذه المراقبة، ولم يحدث شيء…

إلا أنه كوفئ على صبره في النهاية بطريقة غريبة نوعًا..

هذا هو الجزء الذي لم يعد يذكره، وقد أنسته إياه الصدمة. كان يمشي على الشط ليلاً وخطر له أن يضيء الكشاف ليتفقد قناديل البحر الميتة الملقاة على الشط.. وقد غمر قدميه في الماء.

لا أحد سواه على الشط الممتد المظلم. يمكن أن يحدث أي شيء….

فجأة ارتفع شيء عملاق من الماء وشعر بشيء جبار يطبق على ساقيه.. سقط في الماء، فأدرك أن هذا الشيء يحاول أن يبقيه تحت الماء. لا شك في أنه قدير على ذلك بقوته المرعبة..

تمساح!… قالها لنفسه وهو لا يصدق.. لقد كانت تنبؤاته صحيحة، لكنه على الأرجح لن يعيش ليعلن أنه عبقري..

قوة الكائن والفكين مريعة لا يمكن تخيلها. سوف أفقد وعيي حالاً… سوف أختنق..

تبًا لكم.. فلينقذني أحدكم قبل فوات الأوان!!!

يتبع