قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Tuesday, October 31, 2017

قصص لا تكتمل - 7 - الأخيرة


رسوم طارق عزام

هناك كان واقفًا في الغرفة المظلمة التي أوصد بابها..

استطاع أن يرى عاصمًا كما تخيله بالضبط.. العرق يبلل جبينه مع الغبار.. تحت إبطيه مبتل تمامًا وهو يحاول فتح باب الحجرة الذي انغلق بلا إنذار..

على الأرض كانت عظام مبعثرة.. عظام نقية من التي وجدها في الصندوق، وكانت الحيرة مرتسمة على ملامحه..

«هناك من أغلق الباب علينا!»

بالطبع يستطيع بطل قصته أن يراه ويتفاعل معه، لكنه كان يعرف أن الباب لم يغلق من الخارج.. لقد أغلق من الداخل.. الشيء الكامن في الغرفة فعل هذا..

هتف عاصم وهو يجذبه من ياقة سترته:
«من فعل بنا هذا؟ ما سر هذه الغرفة؟»

لم يرد.. لم يكن يملك كلمات يفسر بها أي شيء.. لقد تخلص من هذه القصة وفقد علاقته بها، والآن تطالبه القصة بإثبات النسب.. لكنه مضطر للعثور على حل إذا أراد أن يغادر عالم الشركة..

تحسس الهاتف المحمول وكما يتوقع كانت الشبكة صفرًا….

أضاء ضوء الهاتف المحمول، وراح يفتش في أركان الغرفة..

كانت هناك حقيبة جلدية بالية في الركن عليها كومة من الغبار.. وكانت أنسجة العناكب تغلفها. مد يده والتقطها في حذر.. لا يضمن المرء ما قد يقابله في هذا الوكر. لغز الحقيبة والصندوق الأبدي..

فتح الحقيبة بصعوبة بالغة.. كانت تحوي مجموعة من الأوراق، وحشدًا من البطاقات أو الكارنيهات المغبرة موضوعة في كيس من البلاستيك..

ما هذا بالضبط؟ ثمة كارنيه لمحصل كهرباء اسمه عباس أبو مندور… ثمة بطاقة شخصية لموظف في شركة المياه.. هناك كارنيه آخر لعامل هاتف.. بطاقة موظف كهرباء..

نظر للغرفة وإلى الحقيبة.. سمع عاصمًا يتساءل:
«ماذا وجدت؟ علام الصمت؟»

كان الجواب يقترب من مصطفى.. يوشك على أن يلمسه بيده.. عظام نظيفة تمامًا.. لا توجد رائحة عفن.. الجيران لم يشموا أي شيء..

فتح الحقيبة وسكب ما فيها على الأرض.. هنا رأى المثقاب والمنشار والسكين العملاقة. كلها مغطى بالصدأ لكنها تحمل رسالة بليغة..

أغلق الحقيبة وقال لعاصم:
«لو كان هؤلاء أشخاص قتلوا وتعفنوا هنا لعمت الرائحة الكريهة وشكا الجيران.. كما حدث مع ريا وسكينة. لكن هذه عظام نظيفة براقة كأن هناك من قام بتنظيفها.. التعفن لا يدع العظام بهذه الحالة النظيفة. وكل البطاقات تدل على أشخاص قرعوا الباب يومًا.. هل تعرف ما حدث وفق تفسيري الخاص؟».

«لا أفهم».

«أبوك غريب الأطوار الذي يعيش في عزلة قد قتل أكثر من موظف مر على الشقة.. غالبًا كان يقدم لهم مشروبًا فيه منوم، وعندما يفقد الموظف الوعي يقوم بتمزيقه والتهامه!.. وفي النهاية جن واعتزل العالم.. أعتقد أنه كان أضعف من أن يمارس هذا مع الخادمة التي كانت تعنى به، وهي لم تدخل هنا قط».

«أنت مجنون!»

«أبوك كان غولاً!.. عليك أن تقبل هذه الحقيقة الأليمة».

انفجر الرجل في حشد من الشتائم والهستيريا والاعتراض.. لكنه بعد لأي قرر أن هذا على الأرجح هو التفسير الصحيح، ما دام مؤلف القصة هو من قال هذا.. بدأ يهدأ نوعًا. لكنه لم يقبل الحقيقة..

«يبقى لغز من أوصد الباب علينا».

قال مصطفى في ثقة:
«لابد أن قوى الشر تستحوذ على هذا المكان.. إنه مكان مسكون لو أردنا الدقة بعد كل ما سفك فيه من دم. لن أندهش لو كان شبح أبيك هو من أغلق الباب علينا..».

اندفع عاصم في غيظ نحو المطرقة التي فتح بها الصندوق، وهرع نحو النافذة الموصدة.. وأوسع المقبض ضربًا:
«لو ظننت أنني سأبقى هنا أسمع هراءك فأنت مخطئ».

واصل الضربات على المقبض.. بعد قليل تداعى القفل، وصارت النافذة قابلة للفتح.. حرك الضلفتين فتساقطت سحابة كثيفة من الغبار والحشرات.. ثم ظهر شيش خشبي بالٍ…

لم يحتج لجهد هذه المرة كي يفتح المصراعين، وتسلل النور والهواء أخيرًا إلى الغرفة المقبضة..

أخذ شهيقًا عميقًا ثم نظر إلى الشارع.. كان هذا هو الطابق الرابع.. الشارع خالٍ ولا أحد يمشي فيه.. من الواضح أن الصراخ بلا جدوى.

نظر أسفل النافذة.. ثم قال وهو يفكر:
«هذا الإفريز تحت النافذة.. لو مشيت عليه في حذر لوصلت إلى (منور) السلم..»

«لا أحب هذه الفكرة.. أعتقد أننا لو بقينا هنا وحاولنا المزيد من الصراخ…………..»

قال عاصم وهو يضع ركبته على إطار النافذة:
«لو بقينا حتى تحل الساعة فلن يسمعنا أحد.. سوف أحاول ببطء شديد ولنرَ».

لم يجد مصطفى الوقت ليعترض.. لقد خطا الرجل خارج النافذة وهو يتمسك بالشيش.. ثم وضع قدميه على الإفريز، وبدا الارتياح على وجهه.. قال وهو يلهث:
«جميل… سوف أتحرك ببطء شديــــ…..»

وفجأة أطلق صرخة قصيرة وهو ينظر خلف كتف مصطفى.. وهتف :
«أبي!.. لا!».

ثم دوت صرخته وهو يسقط من حالق نحو الشارع…

التفت مصطفى للخلف فلم ير شيئًا ولا أحدًا.. الغرفة المغبرة الكئيبة جاثمة كما هي..

فقط يمكنه أن يضع كلمة النهاية…..

النهاية


من جديد وجد مصطفى نفسه في قاعة الاجتماعات.. السادة الجالسون والمدير والمشروبات والشطائر. كانوا يصفقون ويدقون على المنضدة محيين..

كان مذهولاً لا يعي ما يدور، فقال المدير وهو يشعل سيجارًا:
«نهاية دامية لكنها نهاية على كل حال.. بعض القراء لا يحبون هذا.. يفضلون النهايات السعيدة، لكنك قدمت نسيجًا لا بأس به…  أهنئك».

قال الرجل البدين:
«ليس أسوأ من قصة لم تكتمل.. معظم الناس يكرهون النهايات المفتوحة، لكن ما فعلته أنت هو النهايات المبتورة.. شيء يشبه السمفونية الناقصة لليست.. وهذا لا يجعل الأمور أجمل».

قال مصطفى وهو يلهث نافد الصبر:
«لقد أكملت القصص كلها يا سادة.. أرجو ان تسامحوني لو طلبت الانسحاب من هذه الجلسة الممتعة..».

تبادل الرجال النظرات.. ثم قال المدير بعد ما تنحنح:
«بالطبع يمكنك الخروج للمكتبة..».

هز رأسه محييًا واتجه إلى الباب.. عبر الردهة التي يعمل فيها الُكتّاب.. ثم أزاح الباب الذي دخل منه، فوجد نفسه من جديد في المكتبة العمومية.

مشى بين الأرفف.. هنا استلفت نظره تحت اسم مصطفى اسمه هو.. هناك ثلاث قصص.. الغرفة.. لقاء مع سالومي.. وحيد في الظلام.. لقد اكتملت القصص فعلاً..

مشى بين الأرفف قاصدًا الباب..

أمين المكتبة.. نظر له الشيخ الأصلع الذي يطالع روكامبول.. رفع حاجبيه متسائلاً، فقال مصطفى:
«شكرًا لضيافتك».

نظر له الشيخ في دهشة كأنه يرى أحمق ولم يتكلم.. هنا فوجئ مصطفى بأنه لا يوجد باب للمكتبة. الباب الذي دخل منه غير موجود….

«أين الباب؟ إن حاسة اتجاهي سيئة فعلاً».

قال الشيخ وهو يتثاءب:
«لا يوجد باب يا بني».

«ماذا تعنيه؟».

«ألم تفهم بعد أنك قصة لم تكتمل يكتبها مؤلف آخر؟… هو كتب القصة حتى هذه النهاية، ولا أحد فينا يعرف ما سيحدث بعد ذلك.. المؤلف فقط يعرف كيف ينهي الموقف وكيف يخرجك من هنا!».

ثم أشار إلى مقعد جواره:
«لو كنت مكانك لجلست أطالع رواية طويلة ممتعة.. الحرب والسلام أو إيفانهو مثلاً.. إن جلستك هنا سوف تطول على ما أرى!».

تمت