قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Tuesday, February 6, 2018

سيمفونية المقصلة - 4


رسوم الفنان طارق عزام

لابد أن الأمر استغرق عشر ساعات من العمل المتواصل.. الخياطة باستخدام عدسة على ضوء الشموع. هكذا أشرق الصباح ثم عاد الليل.. البروفسور لم يأكل وإن نهض لتناول كأس من الخمر من وقت لآخر.

لابد أن المشهد كان شنيعًا، ومن حسن جدنا أننا لم نره..

أخيرًا بدأت الصورة تتضح.. وإن كانت تقنيات الجراحة البدائية لم ترفق بالجلد. بدت الفتاة بدائرة قبيحة حول العنق كأنها مذبوحة. قام بلف قطعة من الشاش الدامي حول العنق لتخفي المنظر. وعندما انتهى كل شيء نهض إلى مقعد قريب فارتمى عليه وراح يتنفس لاهثًا.

أنت لا تنقل رأس إنسان كل يوم، لكنه كان يؤمن بأنه عبقري وقد استخدم مادة لاصقة للأعصاب ابتكرها بنفسه، وهي قريبة جدًا من مادة بوليثيلين جليكول التي اعتقد علماء عصرنا أنها قادرة على لحام الرؤوس بالأجساد.

لابد أنه نام يومًا أو يومًا وبعض يوم من فرط الإجهاد. غرق في غيبوبة مرهقة من الكوابيس.. لم يعد يعرف أي شيء حقيقي وأي شيء كابوسي. للحظات خيل له أن الجسد ينهض، لكنه لم يستطع التأكد قط.

فقط بعدما استعاد وعيه ونهض وسط الدم المتخثر الذي غطى يديه ووجهه وأرضية المختبر، أدرك أنه وحيد فعلاً…

الأغرب أنه اكتشف أن الآلة التي تجري دورة صناعية موجودة كما هي. لقد تركتها دومينيك. هذا يعني أن ما يسري في عروقها ليس دمًا وليس ذلك السائل الحيوي الغامض الذي ابتكره.. هذه المرأة تتحرك بقوة غامضة.. تتحرك بالسحر!

هذه لحظة عجيبة من زواج السحر والعلم للوصول لشيء مخيف غير معتاد..

بدأ البروفسور يفيق.. قام بتنظيف الفوضى العارمة التي صنعها.. في قرارة نفسه كان يشعر بأن هذا كله كان حلمًا مخيفًا…

ظل يعتقد هذا حتى عاد الشيء في المساء، وحتى أطبقت اليد القوية على عنقه فعوى كالكلاب ثم مات.

لم يكن للبروفسور مكان في هذا العالم الجديد.. عالم دومينيك دو جالفان. وبشكل ما كانت تشعر بأنه يستحق ما حدث له، لولا فضوله العلمي القاسي لكانت تنعم بالراحة تحت التراب كهيكل عظمي.

هكذا تمدد على أرض المختبر وقد تهشم عنقه. أمسكت دومينيك بالجثة من قدميها واتجهت بها إلى ركن الغرفة.

كانت العملية قاسية طويلة، وفي النهاية اندفعت عربة ذات خيول يقودها حوذي مخمور نحو نهر السين، وفي مكان مظلم تعاون اثنان.. أحدهما قوي البنية ضخم والآخر هو الحوذي المترنح.. تعاونا على إلقاء كيس مليء بشيء ثقيل في النهر.

في ذلك العصر كانت القذارة عنوان كل شيء، وكان من الممكن أن يغطس شيء كهذا في السين فلا يظهر…

مدت دومينيك يدها تنقد الحوذي المال.

كان الحوذي يرتجف رعبًا من هذا العميل غريب الأطوار. له أجمل وجه يمكن أن تراه.. وجه ملاك حقيقي.. لكن جسده قوي مزدان بالعضلات والشعر. الأغرب كان الصوت الذي يخرج من الحنجرة.. صوت فتاة بلا شك في ذلك..

على كل حال لم يكن ليطيل الأسئلة. سوف يحصل على مال يتيح له المزيد من النبيذ لهذه الليلة. جريمة؟ نحن في عصر دموي تتناثر فيه الجثث في الشوارع، فلن تغير جثة إضافية الأمور.

ومنذ ذلك اليوم الرهيب صار مختبر البروفسور هو مسكن ذلك الكائن العجيب الذي جاء من عدم.

لاحظ الجيران ذلك الشاب الصموت ذا الوجه القسيم. كان مدثرًا بالثياب ويضع على كتفيه معطفًا رثًا واسعًا، ويلف عنقه بالشاش.. وكان قليل الكلام. لا يظهر إلا مع قدوم الليل حيث يخرج لشراء بعض الخبز والجبن والنبيذ. لم يكونوا يعرفون من هو، لكنهم كانوا سعداء بالخلاص من البروفسور رانفييه غريب الأطوار.

ماري كلير تعمل بأقدم مهنة في التاريخ.

قبيحة جدًا ملطخة بالمساحيق، يمكنك أن تشم رائحتها من على بعد أمتار. الاستحمام ترف بالنسبة لفتاة مثلها. هناك تقف عند ناصية شارع بيجال تحت مصباح كيروسين وقد ارتدت ثيابًا المفترض أنها مغرية، وهي تروح وتجيء منادية الزبائن.

كان حظها من المال لا يختلف كثيرًا عن حظها من الجمال، وكانت تتساءل إن كانت هذه أقذر مهنة في التاريخ أم أن هناك مهنًا أقذر.

منذ ثلاثة أيام لم يظهر زبون واحد، وقد بدأ الجوع يعذبها.. عندما تعود لغرفتها الحقيرة في الصباح تفتش في بقايا الخضروات العفنة التي تخلفت من البائعات أمس.. ثم تعد لنفسها وجبة تبقيها حية.

هذه ليلة عجفاء أخرى..

هنا سمعت من يناديها همسًا. نظرت للخلف فرأت في ضوء مصباح الكيروسين ذلك الوجه الوسيم.. أجمل وجه يمكن تصوره كأنه وجه فتاة من الحوريات. لكن الجسد قوي عضلي مشعر. يدنو منها وبصوت خافت غير واضح يهمس:
«عندي.. بيتي قريب من هنا»

لماذا يتكلم بهذا الصوت الغريب؟ ثم قدرت أن لديه مرضًا في الحنجرة. هكذا تمت الصفقة بسرعة ووجدت نفسها تمشي وراءه عبر الأزقة شاعرة أنها محظوظة.. ليس لأنه سيمنحها بعض المال فقط، بل لأنه أول شخص ذي منظر مقبول تقابله في هذه المهنة..

هناك فتح ذلك الباب.. دخلت لتشم رائحة لم ترتح لها. كان المكان أقرب إلى مختبر مهجور وكانت رائحة الكيماويات طاغية فعلاً.. هناك ظلام وغبار، لكنها كانت قد اعتادت القذارة فلم تعد تشمئز منها.

كان هناك فراش على الأرض، فجلست عليه وراحت تنزع جوربها، بينما بدأ الرجل ينزع معطفه..

ناولها زجاجة من الخمر جرعت ثلثها مرة واحدة، ثم قال وهو يواصل نزع ثيابه:
«لا أدري إن كان من واجبي أن أخبرك ببعض التفاصيل، لكن لا أعتقد أنني سأشعر براحة ما لم تعرفي الخلفيات..»

-«أي خلفيات؟ عم تتكلم؟ أنا هنا لغرض محدد فانته لأن وقتي ثمين».

بالطبع هي لا تملك سوى الوقت.. لكنها تحاول رفع قيمة بضاعتها. كان الفتى ينزع قميصه وهو يقول:
«المشكلة في أجسادنا كبشر هي أنها تبلى.. مهما بلغت الدقة العلمية أو قوة السحر فلابد أن يضمر الجسد.. هنا يواجه المرء ضرورة الاحتياج إلى جسد جديد»

ثم فك الرباط حول عنقه.. أصابها الذعر.. هذا عنق مقطوع وتمت خياطته لا شك في هذا. الرأس رأس فتاة جميلة والجسد جسد رجل كامل الرجولة..

أصدرت أنينًا وحاولت أن تقوم لكن ساقيها كانتا واهنتين.. فقال لها:
«لقد بدأ المخدر يعمل.. هذه آخر علاقة لك بهذا الرأس.. عندما تصحين من النوم سيكون اسمك دومينيك.. دومينيك ستكون متناسقة، لها وجه امرأة وجسد امرأة.. لا تقلقي.. أنا صرت قادرًا على عمل هذه العملية بسهولة ودون عون. هذه مزية أن يكون المرء مجيدًا للسحر..»

كادت تتكلم لكن الظلام كان قد زحف ليحيط بها من ست الجهات…

يُتبع