قصاصات قابلة للحرق

ابحث معنا

Saturday, February 17, 2018

أزرق وأبيض


كتبت في مقال سابق عن البرنامج الفضائي الإسرائيلي بمناسبة ذكرى وفاة إيلاي رامون رائد الفضاء الإسرائيلي، وقلت إنني أضعت المقال الذي يتكلم عن التفاصيل – وهو مقال لي أيضًا – فما كان من أحد أصدقائي المخلصين إلا أن أرسل لي المقال القديم، وقد وجدت أنه مناسب جدًا نشره هنا ليذكرنا

...

دولة ترسل أقمارًا صناعية للفضاء، وتدرس ذرات الغبار فوق البحر المتوسط، كما تدرس البكتريا وتأثيرها على جهاز المناعة، واضطرابات الهضم وتوازن الكالسيوم لدى رواد الفضاء، وتكوين الأجنة وهشاشة العظام. تتنبأ بالجفاف وحركات الزلازل وتصنع التلسكوبات المتقدمة للهند والصين. هذه الدولة تفعل ذلك بخمسين مليونًا من الدولارات، بينما تتسرب عندنا المليارات دون أن نشعر. وهذه الدولة ليست بعيدة إلى هذا الحد.. تصوروا؟... إن اسمها إسرائيل.
لا يختلف أحد على أن انفجار مكوك الفضاء الأمريكي كولومبيا يوم السبت 1 فبراير 2003 قبل هبوطه بست عشرة دقيقة كان كارثة حقيقية.. حتى وإن كان أحد رواده السبعة هو أول رائد فضاء إسرائيلي في التاريخ. على أن هذا الحادث المؤسف قرع نواقيس طالما حاول العرب أن يتجاهلوها، تذكرهم أن إسرائيل بالفعل تملك برنامجاً طموحاً لغزو الفضاء، وقد حققت فيه وثبات هائلة برغم حداثته النسبية والضغوط الاقتصادية الهائلة التي تسببها الانتفاضة الفلسطينية. كالعادة لم ير العرب في سقوط المكوك إلا انتقامًا إلهيًا خاصة أن المكوك سقط فوق بلدة أمريكية اسمها فلسطين!.

لقد انتهت مهمة ناسا STS-107 لكن أياً من روادها لن يحتفل بعودته. كان رائد الفضاء الإسرائيلي هو الكولونيل إيلاي رامون الذي يبلغ التاسعة والأربعين من عمره، والذي كان بالنسبة للإسرائيليين بطلاً قومياً قبل الحادث، فصار بعده أقرب إلى أسطورة إغريقية. شارك في حرب أكتوبر 1973 ثم شارك في عملية السلام للجليل عام 1982 (تدمير المفاعل العراقي). عام 1980 صار طياراً في أول سرب لطائرات F-16 في إسرائيل، وعام 1997 انتخب ـ في ظروف بالغة السرية ـ للطيران على مكوك الفضاء. ثم في عام 1998 تدرب في مركز جونسون للفضاء في هيوستون. وبإرسال رامون إلى الفضاء صارت إسرائيل الدولة التاسعة والعشرين التي ترسل أحد أبنائها إلى الفضاء.

قال رامون إنه هو الدليل الحي للإسرائيليين على أن ما قاتلوا من أجله في القرن الماضي (وربما في الألفي سنة السابقة) قد صار حقيقة. المشكلة التي واجهت رامون هي كيف يستقبل السبت (ساباث) في الفضاء، حيث تشرق الشمس وتغرب كل 90 دقيقة.. لحل هذه المشكلة استشار رامون حاخاماً اقترح عليه أن يتبع توقيت كيب كانافيرال لأن الفقه اليهودي يحتم استخدام توقيت أقرب مدينة كبرى بها عدد معقول من اليهود. ولهذا السبب يتبع اليهود في ألاسكا توقيت سياتل.

"أثار دهشتي اهتمام ناسا بمطالبي".. كذا قال رائد الفضاء الذي صمم على ألا يأكل طيلة الرحلة إلا الكوشير ـ وهو الطعام الإسرائيلي المقدس ـ ويحضر الحاخام الإقلاع بنفسه بناء على دعوة رائد الفضاء، ويقول: "مدهش.. هذا رائد فضاء ناجح لامع لكنه لا يفكر إلا في الساباث.. هذا لا يصدق.."

يوم انطلاق المكوك قال داني أفالون السفير الإسرائيلي في الولايات المتحدة: أحسب أن السماء تلونت بالأزرق والأبيض خصيصاً لأنهما لونا علمنا.. وقد تكلم أرييل شارون مع رامون وهو في الفضاء وقال: أنا فخور بك.

اعتزم رامون أن يحمل معه للفضاء رسماً بالقلم الرصاص يعود لستين عاماً، رسمه صبي يهودي تشيكي مات في معتقل أوشفيتز. وهكذا ربطوا حلم صبي يهودي برحلة رائد فضاء يمثل ارتقاء الجنس اليهودي. وهكذا بعد ما عذبت إسرائيل العالم وأوروبا بالذات بقصة الهولوكوست، فإنها كانت حريصة أن يكون الهولوكوست أول ما يسافر للفضاء مع رائدها.

ساهم رامون كذلك في هذه الرحلة بإجراء بعض تجارب خاصة بالبكتريا وتأثيرها على جهاز المناعة، والهضم وتوازن الكالسيوم لدى رواد الفضاء. كما قام بقياسات من أجل حصوات الكلى والإسهال وغيرها من أعراض تصيب الرواد في جاذبية منخفضة عندما يتنفسون هواء تمت إعادة تدويره. وكان الطلبة في مدرسة أورت – ماتزكين في حيفا يشاركون رامون بدورهم في دراسة اقترحوها هي نمو الألياف البلورية مع انعدام الجاذبية.

وكالة الفضاء الإسرائيلية:
تم تأسيس وكالة الفضاء الإسرائيلية عام 1982 وبرغم صغر حجم إسرائيل فإنها انضمت سريعاً إلى نادي البلدان الاستثنائية التي صممت أقمارها الصناعية الخاصة. وتصف الحكومة الإسرائيلية برنامجها الفضائي بأنه برنامج متواضع لكنه طموح.. في البداية كانت الوكالة مثيرة للشفقة إذ لا يعمل بها إلا 15 موظفاً وكانت تتلقى 2 مليون دولار كميزانية كل عام. لهذا كانت استعانتها بناسا ضرورية.

بدأ التعاون بين الوكالة وناسا عام 1985. وللوكالة كذلك تجارب عدة على تكوين الأجنة وهشاشة العظام ـ وهي دراسات تتم بكفاءة أكبر في ظروف الجاذبية المنخفضة ـ ومزارع الفضاء التي ستمد سفن الفضاء بالطعام في المستقبل.

يقول مدير وكالة الفضاء الإسرائيلية أبي هار إيفن: أنا مندهش مما يمكن تحقيقه بلا مال تقريباً. لقد تم تخفيض الميزانية عن الرقم السابق الذي كان 50 مليون دولار لأن الحكومة تضع الأولوية لمحاربة الفلسطينيين. وبرغم هذا نحن مستمرون ونحقق نجاحات.

الصاروخ شافيت:
انطلق شافيت للمرة الأولى في 19 سبتمبر عام 1988 ليضع القمر الصناعي أفق-1 في مداره، وبهذا صارت إسرائيل ثامن دولة في العالم لديها القدرة على إرسال أقمارها الصناعية – وليست المؤجرة – إلى الفضاء. في عام 1993 – 1994 قررت إسرائيل تطوير نموذج جديد لشافيت اسمه Next أي (التالي ) ويختلف نوعاً عن شافيت، وتطلق صواريخ شافيت من مكان سري قرب قاعدة (بالماتشيم) الجوية جنوبي تل أبيب.

القمر الصناعي أفق:
في سبتمبر 1988 دخلت إسرائيل عصر الفضاء بإطلاق أول قمر صناعي (أفق –1) باستعمال صاروخ شافيت، وهكذا لحقت بنادي الدول مثل أمريكا وروسيا وبريطانيا والهند والصين التي أطلقت أقمارها الخاصة. وقد تم إطلاق القمر الثاني عام 1990 وهو أفق-2، وقد دخل جو الأرض بعد ستة اشهر من الإقلاع. أما آخر قمر فهو أفق-5 الذي أطلق بصاروخ شافيت في مايو 2002 وقد دار حول الأرض دورة كاملة كل ساعة ونصف، وهو قمر استكشافي ينقل صوراًَ عالية الدقة، ويتم حالياً تطوير أفق –6 القادر على كل دراسات الجو.

وتعزو إسرائيل نجاح ورخص ثمن أقمارها إلى تصميمها أقماراً أصغر وأخف وزناً. وكان هذا القمر مشروعاً للطلاب ثم استكمل على يد علماء مهاجرين من الاتحاد السوفييتي.

كذلك يتعاون البرنامج مع جامعات عدة لكن الإسرائيليين يزعمون إنه يهدف كذلك إلى التعاون مع مصر بشكل رئيسي لكنهم لا يقدرون على هذا (بسبب التوتر الإقليمي).

والمشاريع الأخرى لوكالة الفضاء الإسرائيلية تتضمن:

  • دراسة السطوح المعمارية في منطقة معرضة للزلازل.
  • الاستشعار عن بعد لأغراض الزراعة والصيد، وبالطبع لم تقل إسرائيل مرة واحدة أن التجسس على جيرانها هو الهدف الأساسي.
  • AERONET - برنامج قومي يهدف لقياس وتحليل رمال الصحراء وقد قدمت ناسا الأجهزة اللازمة لجامعة بن جوريون، وهو مفيد لقياس تلوث الهواء.
  • تجربة إنديفر عام 1992 الذي انطلق حاملاً 180 دبوراً بهدف دراسة انعدام الجاذبية على نموها، والمشرف العام على التجربة كان إسرائيلياً من جامعة تل أبيب. كان هدف التجربة معرفة أسباب إصابة الرواد بالصداع والقيء، وهي غالباً ناجمة عن انعدام الوزن.
  • عام 1998 تم إجراء تجربتين على ظهر المكوك كولومبيا... إحدى التجربتين كانت دراسة نمو جنين الفأر في حالة انخفاض الجاذبية، والأخرى لقياس نمو الخلية المخلقة للعظام (أوستيوبلاست) في هذه الظروف.
  • اتفقت إسرائيل مع الهند على تركيب تلسكوب إسرائيلي على قمر صناعي هندي ينطلق في العامين القادمين.
  • ستشارك إسرائيل في نظام غطاء الملاحة العالمي الأوروبي EGNOS ومشروع جاليليو.
  • تم توقيع اتفاق بين الوكالة الإسرائيلية وناسا والجامعة العبرية في القدس لإنشاء مركز لقياس هطول الأمطار الاستوائية TRMM للتنبؤ بالجفاف والفيضانات مع تحسين التنبؤ بالطقس. وقد وجدت الدراسة أن الغبار المتصاعد من أفريقيا يحرم شمال أفريقيا من الأمطار لأنه يدخل في السحب المطيرة.
  • عام 1999 تعاونت ناسا ووكالة الفضاء الإسرائيلية على عمل أرشيف الشرق الأوسط التفاعلي ISA-MEIDA لإتاحة أرشيف علمي كامل على الإنترنت عن الشرق الأوسط. وهو من المراكز المشاركة في نظام ناسا.

نظريات جديدة:

  • يتبنى علماء الفضاء بعض المفاهيم مثل (المادة السوداء) في الكون التي لا ترى ولا يمكن قياسها. والتي توحد المجرات معاً. يتحدى البروفسور إسرائيل دوستروفسكي من معهد فايتسمان للعلوم هذه النظرية. فهو يرى أنه لو تم تطوير قانون نيوتون الخاص بالجاذبية قليلاً فإنه يمكنه تفسير سلوك تجمعات النجوم. وقد بدأت بعض المعلومات الفلكية تؤيد ما يرمي إليه.
  • يدعي العلماء في جامعة بن جوريون إنهم سيقدمون دفعة كبرى لمركبات الفضاء. يقولون إن نوعاً جديداً من الوقود النووي سيقصر أمد الرحلة من الأرض إلى المريخ إلى أسبوعين بدلاً من 10 شهور. عن هذا قال الأستاذ أيجال رونين من قسم الهندسة النووية: "من المعروف أنه كلما صغر حجم المفاعل الذي يمد مركبة الفضاء بالطاقة، كلما كان السفر في الفضاء أكفأ.."

كما رأينا يمكن القول إن البرنامج طموح للغاية ومتشعب الاهتمامات، وإن كان من الواضح أن له هدفاً أهم بكثير من الدراسات البيئية ألا وهو التجسس، وهي أشياء لن تقولها وكالة الفضاء الإسرائيلية. لقد كان تحطم المكوك مأساة لكنها ليست ألعن من مأساتنا الخاصة حينما نتساءل: ماذا قدم العرب وسط هذا السباق العلمي اللاهث، والذي لم يكلف الكثير في مقابل المليارات التي يتم تبديدها بلا حساب في العالم العربي كله؟