كان عدم الكتابة عن سوريا خطأ فادحًا بالتأكيد، لكنك تلتمس الصَّفح لكاتب المقال لثلاثة أسباب: السبب الأول هو كثرة مشكلاتنا فى مصر والزلزال المزمن الذى نمر به، فلا يمكن الزعم أن أقدامنا لمست الأرض لحظة واحدة منذ عام ونصف. هذا ليس مبررًا لكنه نوع من الاعتذار. السبب الثانى هو أننى كتبت مرتين أو ثلاثًا عن سوريا، فتلقيت فى كل مرة خطابات من أصدقاء سوريين، يقولون لى إننى لا أفهم حقيقة الوضع، وإننى بعيد عن الحدث فمن الخير أن أصمت. يبدو أن شريف شحادة ليس التلميذ الوحيد فى مدرسته. يبدو هذا غريبًا لكنه ما حدث فعلًا ولا أحد يرغمنى على الكتابة أو اختلاق قصة. حتى فى مصر تكتب المقال فتنهال عليك التعليقات التى تقول إنك بعيد عن الأحداث أو لم تر الصورة شاملة.. إلخ. عندما يكون هذا هو الحال مع مصر، فأنت تكون حذرًا جدا عند الكلام عن بلد آخر. هيكل نفسه بدا فى صف النظام السورى بشكل غريب وغير معتاد منه، واتهم ما يحدث بأنه يتم بوساطة بلاك ووتر، وقال إن تقرير الفريق الدابى يشكك فى أصالة معظم ما نراه من طوفان الصور القادم من هناك، وأن أنظمة خليجية محافظة يهمها أن تنهار سوريا. فى لحظات معينة من كلامه شعرت بأن توفيق عكاشة هو من يتكلم
لكن لتذهب الموضوعية إلى الجحيم. هناك حقيقة واحدة لا شك فيها هى أن أطفالًا قد ذُبحوا فى حولة وهم مقيدون. قالوا إن أعداد الضحايا 92 بينهم 32 طفلًا، ثم قيل إن العدد ارتفع إلى خمسين طفلًا. هناك مذابح مريعة، مذابح تُضَم بسهولة إلى مذابح دير ياسين وكفر قاسم.. إلخ، حتى إن صاحبى السورى يعتبر أن الشهيد محمد درة كان محظوظًا. وكالعادة تكتشف أن قدرتنا على إيذاء بعضنا عالية جدًا مع عجز تام عن الرحمة. الشهادات التى وصلتنى بعد مذبحة حولة لا تترك مجالًا للتردد أو الشك. من يصمت اليوم لا يختلف كثيرًا عمن يحمل مُدية يذبح بها هؤلاء الأطفال. دعك بالطبع من أننا شاركنا فى الذبح من قبل
يقول صديقى السورى الذى أضمن لك أن شهادته لله وليست لحسابات لا نعرفها: «مسؤولة الإغاثة فى الأمم المتحدة فاليرى أموس هالها حجم الدمار فى أحياء بحمص وسؤالها شهير: (أين ذهب أهالى بابا عمرو؟!).. بالنسبة إلىّ أُصدِّق أموس أكثر من الدابى.. هل من الممكن أن تكون قناة الجزيرة (تخرِّف) ورغم ذلك ينزل الجيش إلى المدن ويبقى طوال 15 شهر ؟!»ـ
يقول صديقى: «من مشاهداتى فى حلب أجد أنك تذهب إلى كلّيتك فى الصباح لتجد أن جدرانها ملطخة بعبارات (الأسد أو لا أحد)، (الأسد أو نحرق البلد)، (شبيحة للأبد لاجل عيونك يا أسد)، أو تجد اسم (كلية العلوم) كتب فوقه (كلية بشار الأسد) رغم وجود عناصر الجيش. هناك تظاهرات كبيرة كانت وما زالت تخرج فى مناطق صلاح الدين والسكرى وسيف الدولة وبستان القصر رغم القمع الشديد الذى كانت تتعرض له، والخطورة الكبيرة فى المشاركة فيها، فحلب ومنذ اليوم الأول تم تقطيع أوصالها أمنيًّا وإحكام السيطرة عليها قدر الإمكان بوساطة عدد غير طبيعى ممن نطلق عليهم (الشبيحة)، قِسم من هؤلاء قاموا منذ الأسبوع الأول من الثورة باحتلال «ساحة سعد الله الجابرى» بخيام وحواجز، ورغم السلاح الظاهر معهم فإنهم كانوا يحظون بحماية أمنية ومرورية! ما كنت شاهدا عليه هو حالة من الاحتقان الشديد فى جامعة حلب، خرجت مظاهرات عدة فى حرمها وتم قمعها بعنف ووحشية لا تُصدَّق، كانت تخرج مظاهرة سلمية كبيرة وتحتشد فى ساحة كلية الطب، ولكن ما هى إلا دقائق حتى تتوافد باصات الأمن والشبيحة، وتهاجم بالرصاص والعصى وتجرى الاعتقالات وتلاحق من يهرب من المتظاهرين إلى المبانى المجاورة.. ليس هناك فى سوريا ما يُعرف بـ(حُرمة) للجامعة، فمشهد باصات الأمن والشبيحة داخل ساحات الجامعة أمر طبيعى جدا والدخول على الهوية! لم أَرَ أى مظهر للسلاح فى مظاهرات الجامعة، جميعها كانت سلمية بامتياز، كان هناك تحطيم لصور وإنزال علم ورفع آخر، لكن لم يكن هناك إضرار بالممتلكات العامة. ذروة المأساة كانت حين اقتحم الأمن السورى وفِرق الشبيحة (التى تدعى باللجان الشعبية) المدينة الجامعية فى حلب عقب مظاهرات خرجت هناك، مما أدى إلى تراشق بالحجارة بين الطلاب و«اللجان الشعبية» لإجبارهم على الخروج، تبع ذلك إطلاق نار كثيف استمر منذ بداية الليل حتى ساعات الفجر الأولى. ليلتها ترددت أصوات إطلاق النار ليلًا داخل الجامعة وسكنها، وفى الصباح وجدت طلاب المدينة يفترشون الأرصفة وهم يناشدون أهالى حلب إغاثتهم، وكان ذلك عند الرابعة فجرا.. وردت أنباء عن شهداء عدة، أحدهم على الأقل فضّل أن يرمى بنفسه من الطابق الرابع من السكن على أن يُعتقل! والجديد فى الموضوع أن مجموعات الشبيحة قامت أيضا بتكسير مدرجات تابعة لكلية الطب وتكسير غرف حرس الجامعة لتظهر لاحقا على التليفزيون السورى على أنها من فعل الـ«مخربين»!»ـ
ـ«حلب اكتظت بأهالى محافظات حمص وإدلب، ومعظمهم يتكلمون عن حياة لا تطاق وأحياء مدمرة عن بَكْرة أبيها وقناصة منتشرين يستهدفون كل ما يتحرك، وأن ما تعرضه القنوات لا يمثل 10% مما هو جار!»ـ
ـ«بالنسبة إلى مذبحة حولة.. المؤكد هو أن الجيش الموجود فى الحواجز المتمركزة على أطراف البلدة قام بقصف البلدة لمدة 8 ساعات ولكنه بقى متمركزا ولم يدخلها.. مَن دخل البلدة ونفّذ المجزرة هم شبيحة القرى المجاورة بمساعدة الأمن العسكرى… يقشعرّ بدنى عندما أتصور أحد الملائكة الصغار وهو يناشد قاتله: (دخيلك يا عموووو.. دخخخخخخ!).. هل تألم؟!»ـ
ـ«هناك تحقيق فُتح فى مجزرة الحولة، ولشدة (الشفافية) أستطيع أن أقول إن نتيجته أن القاتل هو (العصابات المسلحة).. ولكن حتى لو كان هذا صحيحًا فإن هناك طرفا كان عليه أن يحمى هؤلاء الأطفال وحسابه يجب أن يكون أكثر شدة.. طرفا ادّعى أنه أخذ على عاتقه حماية البلاد، وأكد المقاومة والممانعة، ثم كان يغطى على أخطائه الفادحة يوما بعد يوم ببعض الضحكات والنِّكات.. ألا يجب أن يُحاسَب وزراء الدفاع والداخلية؟ أم أن هؤلاء لا يظهرون إلا لكى يطمئنونا بأنهم نجوا من محاولات الاغتيال.. هل هو الجيش؟ هل هم الشبيحة؟ طيب، أيا كان فلماذا الجلوس والتفرج عليهم وهم يُقتَلون؟ ماذا فعل الشعب السورى للقاعدة لكى تقوم بذبحه؟! المشكلة أنه حتى مسرحية «الإصلاح» لا أساس لها على الواقع واللجان والتحقيقات لا نعرف نتائجها. كل ما هو موجود الآن هو حل عسكرى دموى سخيف لا يفضى إلى شىء.. لا أعرف ما الحل، برأيى إننا وصلنا إلى المأزق الفلسطينى، فلا السلمية قادرة على التغيير ولا التسليح ينفع، وأفظع ما فى الأمر أن العرب والعالم يتفرج!»ـ
بدأ مسلسل طرد السفراء السوريين فى العالم كله، وأعتقد أن هذه بداية النهاية للنظام.. النظام الذى يمثل حقبة كئيبة من حكم الأنظمة الطاغية الباطشة الحمقاء، مثل مبارك فى مصر والقذافى فى ليبيا.. كان النظام السورى هو الذى بدأ عدوى التوريث، قبل أن تنشر تونس عدوى الثورة، فلم يعد نظام كهذا صالحًا للبقاء يومًا آخر. يجب أن يكون الحل عربيًّا بالكامل فلا تترك دولة عربية أخرى بالغة الأهمية لحلف شمال الأطلنطى يقزقزها على مهل.. يجب إنقاذ الشعب السورى، ويجب كذلك الحفاظ على سوريا بأى ثمن