في هذا الأسبوع يقوم نتنياهو بأكبر جولة أفريقية في تاريخ إسرائيل، حيث يعقد قمة عن الإرهاب في أوغندا مع رؤساء سبع دول أفريقية؛ وتشمل زياراته رواندا وإثيوبيا وكينيا. لماذا أوغندا بالذات؟ لأن أربعين سنة قد مرت على حادث عنتيبي، والذي وقع في الرابع من يوليو عام 1976.
إسرائيل تتسلل بنجاح إلى القارة الأفريقية التي كانت محرمة عليها منذ عقود، والنتيجة هي تطويق مصر من الجنوب. والكل يعرف المأزق الذي وضعنا فيه سد أثيوبيا، ويعرف أن إسرائيل تقف هناك في الظل ممسكة بكل الخيوط. خصّصت إسرائيل ميزانية بقيمة 13 مليون دولار لـ"تعزيز العلاقات الاقتصادية والتعاون مع الدول الأفريقية" تتضمن التدريب في مجالات الأمن والصحة.
بصراحة شعرت بحسد بالغ، وأنا أرى رئيس الوزراء الإسرائيلي يتحرك كلاعب شطرنج، يخطط ويفعل كل شيء من أجل شعبه. بالطبع يتحرك طبقًا لخطة محكمة وضعها عدة مستشارين وليس من منطلق نزوات شخصية. بعض هذا الجهد نتيجة حبه لإسرائيل، وبعضه نتيجة خشيته من سطوة الناخبين الذين هو موظف لديهم. قلت مرارًا إنه لو كان لدى العالم العربي بن جوريون واحد لتغير وجه التاريخ. لقد جئت من جيل تعلم أن يكره إسرائيل بجنون، لكنها تبهرني باعتبارها الدولة الديمقراطية المتقدمة الوحيدة في هذا المستنقع، وقد استطاعت تحويل وهم أسطوري إلى حقيقة ذات قوة نووية. أعجب بها وأكرهها كما أعجب بالتصميم الدقيق المذهل لفيروس الإيدز أو بعوضة الأنوفيليس. مع الوقت قرر العرب أنهم غير قادرين على إزاحتها فبدأوا يستميلونها ويطبعون معها.
قدم نتنياهو الكثير لإسرائيل كما قدمت أسرته حياة أخيه من قبل، منذ أربعين عامًا في غارة عنتيبي الشهيرة.
القصة حكاها الإسرائيليون ألف مرة، وقدموها في عشرات الأعمال الدرامية، بل إنها صارت مسرحية وعدة ألعاب كمبيوتر. يمكنك هنا مشاهدة فيلم روائي طويل عن العملية، وهنا فيلم آخر من بطولة كلاوس كينسكي. في ذلك الوقت كان خطف الطائرات موضة، ولم تكن أجهزة الكشف عن المعادن منتشرة أو متطورة. كان يمكنك ركوب الطائرة ومعك دبابة. وقد تكررت عمليات خطف الطائرات التي قامت بها المنظمات الفلسطينية في ذلك الوقت.
تم اختطاف طائرة إيرفرانس المتجهة من تل أبيب إلى باريس على يد بعض أعضاء جبهة التحرير الفلسطينية واثنين من الألمان، ثم تم تحويلها بقوة السلاح إلى مطار عنتيبي في أوغندا. هناك قام الخاطفون بفصل اليهود والإسرائيلين، لتبقى هناك 94 رهينة، مع طاقم الطائرة. مع تهديد واضح بالقتل لو لم تحقق مطالبهم، وحددوا الرابع من يوليو لبدء الإعدام. طلب الخاطفون إطلاق سراح عدد من السجناء الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية، مع خمسة ملايين دولار كفدية. الرئيس الأوغندي عيدي أمين أبدى ترحيبًا واضحًا بالخاطفين. عيدي أمين كان دكتاتورًا نصف مجنون يشبه القذافي كثيرًا، لكنه كان مناصرًا للقضية الفلسطينية بالتأكيد.. ولعلها نقطته الإيجابية الوحيدة. وكان يزور المخطوفين والخاطفين يوميًا مؤكدًا أنهم اقتربوا من الحل، لكن إسرائيل أدركت في النهاية أنه جزء من المشكلة لا حلها.
كان رئيس الحكومة هو رابين ووزير الدفاع شمعون بيريز وقتها. قام الموساد بجمع المعلومات، وتمكن في فترة تقل عن أسبوع من الحصول على خرائط المطار، وصنعوا نموذجًا هيكليًا له يبين مكان احتجاز الرهائن ومكان القوات الأوغندية.. إلخ..
في البدء فكروا في عمل إنزال بالقوارب في بحيرة فكتوريا والزحف للمطار، لكنهم عرفوا أن بحيرة فكتوريا موبوءة بالتماسيح، هكذا فكروا في إنزال طائرات بالمطار.
تقرر أن تقوم قوات من الكومندوز الإسرائيليين بتخليص الرهائن، مع الوضع في الاعتبار احتمال مواجهة مع حرس المطار الأوغنديين. كان اسم العملية (ثاندربولت) أي (الصاعقة).
قائد العملية كان يوناتان نتنياهو الذي يرأس وحدة الكومندوز المعروفة باسم (سيرت متكال)، وهو ابن أستاذ جامعي اسمه (بنزايون) وشقيق بنيامين نتنياهو طبعًا، وقد ولد في نيويورك ثم هاجر لإسرائيل وحارب في 1967 كما حارب في 1973 ونال وسامًا.
طارت الطائرات الإسرائيلية من إسرائيل إلى أوغندا محملة بمئة رجل كومندوز. احتاجت إلى أن تتزود بالوقود في نيروبي، مستغلة نفوذ رجال الأعمال اليهود هناك ، مع اتصالات بوزير الزراعة الكيني ماكنزي. فيما بعد فجر عيدي أمين طائرة ماكنزي وقتله على سبيل الانتقام. من عاش منا في ذلك الوقت يذكر أن كينيا كانت مساندة لإسرائيل بقوة.
قد استغرقت العملية ساعتين وتم تحرير الرهائن جميعًا، وإن قتل ثلاثة منهم لأن الكومندوز حسبوهم من الخاطفين، وقتل الخاطفون جميعًا مع 45 جنديًا أوغنديًا، وتم تدمير 11 مقاتلة أوغندية سوفيتية الصنع كانت في المطار. أما القتيل الوحيد في صفوف الإسرائيليين فكان قائد العملية نفسه.. يوناتان.. الحق أنه كان نصرًا ساحقًا. شاهد هذا الفيلم الوثائقي عن العملية. بعد هذا حلقت الطائرات إلى نيروبي لتعود من هناك.
احتجت أوغندا على هذا الاعتداء على سيادتها، لكن معظم العالم الغربي رحب بالعملية واعتبرها نوعًا من الدفاع عن النفس. وكما قلنا، فإن تقارب أوغندا وإسرائيل مؤخرًا يحمل اعتذارًا متبادلاً من الطرفين. لننس الماضي.
قامت دول عديدة بتكوين فرق تدخل شبيهة بالفرقة الإسرائيلية، ومن الغريب أن عملية (مخلب النسر) الأمريكية لتحرير الرهائن في السفارة الأمريكية بطهران، جربت التكتيك الإسرائيلي وفشلت فشلاً ذريعًا.
من ضمن محاولات المحاكاة الفاشلة، كانت مغامرة السادات في لارناكا بقبرص في 29 فبراير 1978، حيث جرى اختطاف طائرة مصرية هذه المرة، بعد ما اغتال الفاعلون – من منظمة أبي نضال – يوسف السباعي وزير الثقافة شخصيًا. وقد حاول السادات أن يكرر مغامرة عنتيبي وأرسل مجموعة من رجال الصاعقة في طائرة، لكنه لم ينسق الهجوم مع سلطات قبرص، كما أن القوات القبرصية تختلف عن الأوغندية طبعًا. حاول قائد العملية اللواء نبيل شكري تحذير السادات من الهول القادم في مطار لارناكا، لكن السادات أصر بعناد على نزول الطائرة برغم رفض السلطات هناك لذلك، والنتيجة أن دبابة قبرصية أطلقت دانة على الطائرة المصرية ففجرتها كما ترى في هذا المشهد. شاهد تعليقًا على القصة هنا. استشهد 12 جنديًا مصريًا وجرح 27 جنديًا، وتم أسر اللواء نبيل والآخرين من دون أن يطلقوا طلقة واحدة. قطع السادات علاقته مع قبرص بعد هذا الحادث. فيما بعد عاد اللواء لمصر وتم تعيينه مديرًا للكلية الحربية. وكانت هذه الحادثة هي السبب الذي دفع مصر إلى تكوين الوحدة 777 عالية التدريب.
هكذا يبدأ نتنياهو عهدًا جديدًا مع أفريقيا في ذكرى أخيه. والحقيقة أنك كمواطن عربي لابد أن تحسد تلك الدول التي يحمل حكامها همّ رأي الناخبين، ويدركون جيدًا أنهم موظفون لديهم، ولا يتصرفون بأسلوب صدمات كهربية عشوائي بل بعد حسابات مطولة دقيقة. ومن جديد نتذكر قول الشاعر السوري عمر أبو ريشة:
لا يُلام الذئبُ في عدوانه......... إن يكُ الراعي عدوَّ الغنم ِ