"رسم الفنان "طارق عزام |
ليكن .. سأحكي لك، لكن أرجوك سأكون مختصرة جدًا لأن هذه التفاصيل مملة. موضوعنا الوحيد اليوم هو أنا، وهذه الأمور الفرعية تضعف الحبكة بلا شك.
حدث هذا بعد يوم من تلك المشادة. لقد عاد صفوت الأمير لمكتبنا ليزيد من متاعب هشام .
لنقل إن المصعد توقف بين دورين في البناية التي يوجد فيها مكتبنا الهندسي، وقد استعانوا برجل الأمن والحارس اللذين استطاعا إعادة المصعد إلى الحياة. عندما انفتح المصعد في الطابق الثالث رأى الواقفون مشهدًا جللًا. كان صفوت الأمير راقدًا على أرضية المصعد وقد تمزق عنقه وسالت حوله بحيرة من دم لم يتجلط بعد. الرعب على الوجه. تراه في الفم الصارخ والعينين الجاحظتين .. لا تحتاج إلى طبيب كي يخبرك أن هذا الرجل لن يتنفس ثانية.
عندما نزلنا على الضجيج إلى الطابق الثالث، كانت هناك محفة كئيبة الشكل، وعدد من الرجال الضخام الذين يدخنون بكثافة، ويمكنك أن تميز وكيل نيابة وضابطًا.
دنوت من رجل أمن وسألته عما حدث، فقال لي أن هناك جثة .. جثة ممزقة، ولا توجد طريقة لدخول المصعد . هناك فتحة تهوية في السقف لكنها صغيرة جدًا ..
إذن كيف حدث ما حدث؟ لا أحد يعرف. إن فهم الطريقة التي يمكن أن يتمزق بها رجل داخل مصعد تلقائيًا هو أمر يتجاوز ذكائي. لكن منذ متى يمكننا حل ألغاز الكون كلها؟
فقط نظرت إلى المحفة وهي تبتعد، وخطر لي أن (هشام) محظوظ بالتأكيد .. الخلاص من شخص كهذا أمر يبعث البهجة في النفس .. وفي عصبية طوحت يدي في الهواء محاولة طرد كل دخان التبغ المحيط بي. لسبب ما يعتقد الرجال أن دخان التبغ والجدية مترادفان.
وفيما بعد عندما عدت إلى مكتبي رأيت (هشام) يخرج من مكتبه ويبدو أنه لم يسمع هذه الضوضاء، فرفع حاجبيه متسائلًا:
-«هل ثمة خطب ما؟»
قلت في لا مبالاة:
ـ«لا شيء.. أحدهم نال جزاءه لا أكثر»
هز أسه في غباء وعاد لمكتبه. لا تضيع وقتك ولا انتباهك يا عزيزي. أريد أن تركز في زيجتنا القادمة ..
***************
الرومانسية شيء جميل في حياة الفتاة، خاصة عندما تكون محرومة منها. من الغريب أن أجمل الفتيات قد يكن وحيدات جدًا. هن محاطات بالمعجبين طيلة الوقت، لكن الفتاة منهن تدرك من عيون المعجبين الجائعة أن الحب آخر ما يريدون. لا أحد منهم – الأغبياء – يملك البال الرائق لأن يشم زهرة ثم يناولها لي كي أشمها. أنا أفهم شعور الجميلات بالوحدة، فلا أحد يعاملهن ككائنات بشرية بل كأشياء تؤكل. قرأت قصة مارلين مونرو التي كان الأمراء يصطرعون من أجل الفوز بها، لكنها اختارت ذلك الكاتب الأصلع المسن هنري ميلر. لأنه منحها حنانًا حقيقيا، ولو صح ما قرأتُ فقد كانت سعيدة بحق.. ولم تنتحر كما قيل، ولكن المخابرات المركزية قتلتها بحقنة سامة في كعب رجلها.
الرومانسية .. ما أروعها!
لذا كانت تروق لي أشياء بسيطة جدًا ..
وجدت زهرة على وسادتي أمس .. زهرة حمراء جميلة. لحسن الحظ لم ترها أي واحدة من الخبيثات ليلى ومي وسامية. كانت عطرة الرائحة بحق، وقد تساءلت عن كيفية وصولها لوسادتي .. لا أعرف. هشام كان عندنا اليوم وتناول الغداء، فهل وجد لديه من الشجاعة ما يسمح له بأن يتسلل لمخدعي ليضع الزهرة؟ وكيف خمن وسادتي؟ الاحتمال الأقرب هو أنه متآمر مع واحدة من الخبيثات الثلاث .. كما كانت تفعل القهرمانات في مضاجع الأميرات.
منذ يومين وجدت في حقيبتي صفحة ممزقة من ديوان شعري رقيق. أعتقد أنه ديوان كامل الشناوي لأني ميزت بعض المقاطع الغنائية. كيف استطاع هشام أن يصل لحقيبتي؟ سر آخر ..
عندما أسأله في خبث ينظر لي بعينيه الصافيتين الساحرتين، وفيهما عدم فهم صادق. أعرف هذه النظرة الخائفة وأحبها كثيرًا.
كان ينكر بصدق .. فأقرر أن أسكت في النهاية، وأقول لنفسي إن (هشام) يخفي سرًا بالتأكيد ..
الأمور تمضي في سلاسة ونعومة نحو يوم الزواج، لذا توقعت مشكلة ما .. هذا شيء حتمي ..
جاء الشيء الحتمي في ذلك اليوم الذي عدنا فيه إلى البيت في ساعة متأخرة، وكنت أتأبط ذراعه وضحكاتي تدوي على الدرج كصهيل الخيل .. كانت سهرة رائعة بالفعل..
انفتح باب الشقة لأرى أبي وأمي يقفان في الصالة، ونظراتهما تكفي لقتل فيل. كان وجه أبي محتقنًا وأمي تنظر له في قلق. ثم دارت المحادثة المعهودة التي يعرفها كل من يدمن التمثيليات العربية. هل تعرفين كم الساعة يا ست هانم؟ لكنه خطيبي يا بابا. خطيبك لا يعني أنكما متزوجان. لكننا لم .. قولي هذا للجيران الذين يرونكما كل يوم في ساعة كهذه .. عمّي… أنا… أنا أمنعك من الخروج معها إلى أن تنتهي إعدادات الشقة ونكتب الكتاب.. بابا أنا لست صغيرة.. بل أنت طفلة وبوسعي أن أهشم رأسك.. دعني أر كيف ستهشم رأسي؟.. هكذا..
عمي .. هل تهوي على وجهها بالشبشب أمامي؟ أنا لن أسمح! وبأي حق تسمح أو لا تسمح؟ هذه ابنتي .. اخرج حالًا … بكاء .. صراخ .. هستيريا .. الباب ينغلق .. وجوه أخواتي الممتقعة ..
فريد!.. أنت أهنته إهانة بالغة ولن يعود.. فليذهب في ستين داهية إلى حيث ألقت .. ابن الـ .. يتصرف كأنها زوجته وفي عصمته .. سوف أعرف كيف أبرهن لكم على أنني رجل البيت .. إلخ ..
بصراحة كنت في حالة بالغة من الاشمئزاز والقرف. كل هذا مبتذل وسوقي جدًا. لقد غادر هشام الشقة مغضبًا .. يمكنني أن أرى وجهه الأحمر المحتقن – ولربما دمعة متجمدة في عينيه – وهو يركض هابطًا في الدرج ..
أنت أفسدت كل شيء يا أبي .. ليس هذا أنسب وقت للعب ألعاب الأب الحازم هذه ..
سوف تضيع عليّ أفضل عريس يمكن أن يتاح لي خلال خمسة أعوام وفي دائرة نصف قطرها خمسون كيلومترًا ..
هرعت لحجرتي وركلت حذائي وأنا أسب وألعن، لماذا لا يطبقون نظام أفلاطون أو حلم الدول الشيوعية: أن تأخذ الدولة الأطفال وتربيهم فلا يعرفون لهم أهلًا؟
كادت أختي سامية تقول شيئًا فنهرتها في عصبية، وارتميت على الوسادة ورحت في نوم عميق.
فقط صحوت في الثالثة صباحًا على صوت الصراخ. هرعت واثبة ومعي الفتيات الثلاث نحو غرفة أبي حيث كان الصراخ. كان هناك على الفراش نائمًا على ظهره، وقد ازرق لونه تمامًا .. وكانت عيناه شاخصتين، بينما أمي تولول وتلطم خديها .. يبدو أنها نامت ثم نهضت لبعض حاجتها فرأت المشهد ..
لقد مات وهي نائمة، ولربما وهو نائم كذلك ..
لم يكن أبي مريضًا بالقلب . لم يكن مريضًا بأي شيء.. سمعت أمي تصيح في غل:
ـ«أنت قتلته بقلة أدبك! لم يتحمل المشادة!»
لربما كان هذا صحيحًا، لكني كذلك أرى الكدمات على أنفه وحول فمه .. وأرى الوسادة الساقطة جواره. لست طبيبة شرعية، لكن هناك من خنق أبي بوسادة كتم بها أنفاسه .. لا شك في هذا ..
من فعلها وكيف؟
ثم جال خاطر آخر في ذهني: لماذا يموت كل من يضايقني أو يستفزني؟ هناك لعنة ما تحيط بي .. لقد صرت شبه واثقة من ذلك!
يتبع